الذِّكْرُ: ورد للذكر في تفصيل الكتاب المنزل عدة
معان منها:
ـ الدعاء كما في قوله ﴿فَاذْكُرُوا
اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ البقرة، أي تضرعوا له وادعوه
أكثر مما كنتم تدعون آباءكم وتسألونهم حوائجكم، ولا تسَل عن كثرة دعاء الطفل أباه
منذ فصاله عن ثدي أمه إلى حين انفصاله عن أبيه، ثم الناس في ذكرهم ربهم أي دعائهم
صنفان منهم من اقتصر على حب الحياة الدنيا وزينتها فدعاؤه كما في قوله ﴿رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾، ومنهم من يريد الرشد والصلاح في الدنيا والآخرة فدعاؤه
كما في قوله ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، البقرة، ومن الذكر بمعنى الدعاء قوله تعالى ﴿وَرَفَعْنَا
لَكَ ذِكْرَكَ﴾ في خطاب النبي الأمي صلى الله عليه وسلم ليعلم تقبل دعائه وصلاته
وإلى الله يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، وأما قوله ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا
نَسِيتَ﴾ الكهف، فقد ورد تفصيله في قوله ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ طــــه.
وكما في قول موسى بعد دعائه العريض ﴿كَيْ
نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا﴾ طــه، وهو ذكر من الأولين ومن
المثاني معه أي من الوعد في الآخرين قوله ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ الأحزاب، ودلالتهما على
الدعاء وعلى التقرب بالتسبيح قبل الدعاء ظاهرة.
وكذلك تقرب العبد يونس بالتسبيح
والاستغفار في دعائه لما الْتقمه الحوت.
وقد أنسى الشيطان صاحب يوسف الناجي من
السجن والقتل دعاء الملك والشفاعة لديه ليخرج يوسف الصديق من السجن.
ـ وورد الذكر للدلالة على التوراة أو
جزء منها كما في قوله ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾
الأنبياء، وقوله ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا
لِّلْمُتَّقِينَ﴾ الأنبياء.
ـ ويعني ذكر الله: موعوداته التي كَلَّف
بالإيمان بها وبانتظارها والاستعداد لها بالعمل الصالح وبالصبر ثقة في أنها وعد
حسن غير مكذوب، وُصفت في الكتاب المنزل بأنها ذكر الله لأنها يوم تصبح شهادة لن
ينكر أحد أنها من عند الله لأن أحدا من العالمين لا يقدر على مثلها مما يعني أن
كلا منها تذكّر بالله رب العالمين.
وهكذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر في الدنيا وأكبر منهما أثرا انتظار موعودات الله جميعا ومنها الجزاء على
الصلاة في يوم الدين.
ووا أسفى ما أقرب نفاذ وعد الله في
القرآن أن ستُهدَم بيوتٌ أذن الله أن ترفع وأولها المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد
الأقصى واليوم يتربص بها الوثنيون الشيعة الصفويون وحلفاؤهم اليهود والأحزاب من
ورائهم، ويومئذ في آخر الأمة سيأتي الله برجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن انتظار
موعودات الله والإيمان بها وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، رجال يسبحون الله في تلك المساجد
بعد رفعها من جديد، ويعني الجمع بين ذكر اسمِ الله وتسبيحِهم وإقامتِهم الصلاةَ
المغايرةُ بين مدلول كل منها، ويقع الإذن من الله برفعها ببنائها على رجال من
الأخيار هداهم الله لنوره بِمَثَلٍ ضربه في القرآن لنور كمشكاة فيها مصباح ....
ـ ويريد الشيطان أن يصدّنا عن ذكر الله
أي عن موعوداته ويصدّنا عن الصلاة.
ـ وحذّر الله الذين آمنوا أن تلهِيَهم
أموالهم وأولادهم عن ذكر الله أي عن موعوداته وإنما نسيها من استحوذ عليه الشيطان
فأنساه إياها.
وكان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم في
خطبة الجمعة وصلاتها يتلو على الذين آمنوا من ذكر الله ولتخشع قلوبهم منه ولتطمئن
قلوبهم به، وحرِيٌ بالمؤمنين المستضعفين أن تطمئن قلوبهم بموعودات الله، ومنها أن
يأتي بآيات خارقة للتخويف والقضاء ويومئذ يُضِل الله المستكبرين المكذبين وهم
القاسية قلوبهم من ذكر الله، ويومئذ يهدي الله أولي الألباب الذين يوفون بعهد الله
ولا ينقضون الميثاق ويصلون ما أمر الله به أن يوصل.
وأما ذكر ربنا فيعني الآيات الخارقة
للتخويف والقضاء مع الرسل بها وهكذا قال كل من نوح وهود لقومه ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ﴾ الأعراف،
أي بها، وكان القرآن ذِكْرا من ربنا كذلك لأنه آية خارقة معجزة، ولم يقع القضاء
بعدُ بين الفريقين لأن القرآن ذكرٌ للعالمين ولا يزال من بني آدم وغيرِهم من العالمين
من لم يولد بعد ولم يخاطب به.
ولقد تضمن القرآن قصصا هي موعظة وذكرى
للمؤمنين ليهتدوا بتذكُّرِها يوم يقع مثلها بعد نزول القرآن ذي الذكر.
وظهرت دلالة الذِّكر على تذكُّر حادثة
انقضت كما في قول الخضر: ﴿فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ
ذِكْرًا﴾ الكهف، ويعني توجيهَ طالبّ العلم موسى بالانتظار حتى يبدأ المعلم بتذكيره
بالأشياء التي سينكرها موسى من سلوك الخضر، وكما في قوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ
يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ طـــه، ويعني أن سينتفع بالقرآن من اتقى باجتناب
المنهيات واتباع المأمورات ومن تذكَّرَ به الحوادثَ والقصصَ الماضية يوم يُحدِث
الله لهم منها ذِكْرا، ولم تقع هذه بعد إلى يومنا هذا رغم الوعد بها في القرآن.
وكانت الحادثة الماضية في تفصيل الكتاب
المنزل ذِكْرا، وكان الحديث عنها فيما بعد ذِكْري، وكانت معرفتُها تذكّرا كما تُذَكِّر المرأةُ
المتذكرِّة صاحبتَها الناسية حوادثَ مضت واحتيج لإثباتها إلى شهادة رجلين أو رجل
وامرأتين.
وإن الذين يحسبون القرآن للتسلية كأنما
هو قول هزل وما هو بالفصل ولا بالقول الثقيل لم يفقهوا منه نقيرا ولا فتيلا، أفلا
يتدبرون القرآن، ومنه تكليف المتأخرين بتذكر الحوادث الماضية كما في قوله ﴿يَا أَيُّهَا
الذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ المائدة، ومن المثاني معه
قوله ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ
جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُم مِّنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ
الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شِدِيدًا
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا
اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ الأحزاب، ولعل المؤمنين اليوم يتهيأون لاجتياح
وشيك قريب والله المستعان.
ـ وورد الذِّكر في وصف قسم من القرآن
كما في قوله ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾ يــس، وقوله ﴿ص وَالْقُرْآنِ
ذِي الذِّكْرِ﴾ وقوله ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ﴾ الأنبياء، ويعني أن الكتاب المنزل على النبي الأمي صلى الله عليه
وسلم قد تضمن القرآن المبين والذكر والآيات المتلوة.
والذكر حرف من الأحرف السبعة التي أنزل
عليها القرآن أي أن كل موعود وعد الله به في القرآن قد وقع مثله في حادثة سبقت
نزول القرآن وتضمن القرآن التذكرةَ بها كما هو معلوم لمن تدبر كتابا متشابها مثاني.
وانغلق على المفسرين والمحدثين وغيرهم
دلالة قسمين من الذكر في الكتاب المنزل:
أحدهما تكليف النبي الأمي صلى الله عليه وسلم أن يَذْكُرَ في الكتاب
كلا من مريم وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس وما دلالة اختصاصهم به دون سائر
المصطفين الأخيار، وقد بينته في كلية الكتاب.
وثانيهما إطلاق تكليف النبي الأمي صلى
الله عليه وسلم أن يذكر إسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذا الكفل وداوود وبينته في
من بيان القرآن.
والتذكرة في تفصيل الكتاب المنزل هي
صورة صامتة أو خطاب لإبعاد نسيان أو غفلة عن موعود آت خوطب المكلف بالإيمان به
وبالاستعداد له، وهكذا كانت النار في الدنيا صورة صامتة تذكرة ومتاعا للمُقْوِين
والمعنى لأجل تذكرتهم بنار جهنم ولاستعمالها في إصلاح شؤونهم وهو المتاع .
وكان بعث الحب والنوى بالماء الجرز
ذكرى لأولي الألباب يتذكرون به وعد الله أن سيبعث من في القبور.
وكانت الفلك في البحر صورة صامتة تذكرة
لمن نسي أن الله نجّى نوحا والذين معه في الفلك، وسيطغى الماء في آخر الأمة فلا
تنجو إلا أذن واعية ما سلف من التذكرة في القرآن.
وكان القرآن تذكرة لمن يخشى وللمتقين
ذكّر الله به البشرية بعد التوراة والإنجيل أن يقولوا يوم تقع موعوداته في آخر
الأمة إنا كنا عن هذا غافلين.
ولا يزال المجرمون في الدنيا عن
التذكرة في القرآن معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرّت من الإيمان إلى عذاب سقر.
وعجبي من المفسرين والمحدثين وغيرهم أن
أعرضوا عن مدلول التذكرة في القرآن رغم قوله ﴿كلا إنه
تذكرة﴾ المدّثّر، وقوله ﴿كلا إنها تذكرة﴾ عبس، بصحف مكرمة مرفوعة مطهرة منشّرة بأيدي الملائكة
كما هو مفصل في سور عبس والبينة والمدثر وغيرها فهي ذكر مُحدَث وعدٌ الله به في
القرآن في قوله ﴿ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم
يلعبون لاهية قلوبهم﴾ الأنبياء وفي قوله ﴿وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا
كانوا عنه معرضين﴾ الشعراء، وفي قوله ﴿وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من
الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا﴾ طه.
وقُتل الإنسان ما أكفره إذ لم يَقْضِ
ما أمره به ربه من تدبر القرآن والاهتداء به للتي هي أقوم وإلى الرشد، ومن الرشد
الذي يهدي إليه القرآن وصْلُ ما أمر الله به أن يوصل ولقد أحدث الله بعد التوراة
الإنجيل وخوطب بنو إسرائيل يومئذ أن يصلوا الإنجيل بالتوراة أي يؤمنوا بها كما
آمنوا بالتوراة، ويوم أحدث الله الذكر بالقرآن خوطبوا أن يصلوا ما أمر الله به أن
يوصل أي يؤمنوا بالقرآن كما آمنوا بالتوراة والإنجيل ولكن قطع الفاسقون ما أمر الله
به أن يوصل، ويوم يقع نفاذ وعد الله في سور الأنبياء والشعراء وطـــه فيُحدث ذكرا
بصحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي الملائكة البررة فليصل المؤمنون بالقرآن ما أمر
الله به أن يوصل.
وأما الذكرى فهي انتفاء النسيان أو
الغفلة بتذكّر حادثة مضت أو موعظة تقدمت ولينتفع بها صاحبها.
وهكذا كان كل من الرسل بالآيات كهود
وصالح وشعيب منذِر ذكرى يتذكر به المنذَرون بصيغة اسم المفعول أنهم معذبون في
الدنيا بعذاب شديد كالذي حلّ بالمجرمين قبلهم.
وكان مما أكرم الله به إبراهيم وإسحاق
ويعقوب أن أخلصهم من سلطان الشيطان بخالصة ذكرى الدار يذكرون في كل أحوالهم
وأوقاتهم اليوم الآخر لا يغفلون عنه ولا ينسونه.
وقد أذهب الله عن أيوب الضر وآتاه أهله
ومثلهم معهم رحمة وذكرى للعابدين أولي الألباب وهو من الذكر من الأولين، وتضمن
الوعد في الآخرين قوله ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ﴾ هود.
ويوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى
الناس منه عذاب أليم سيذكرون التذكرة به من قبل في القرآن وأنى لهم الذكرى أي لا
ينتفعون بها إذ يوم يأتي بعض آيات ربنا لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو
كسبت في إيمانها خيرا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق