من بيان سورة القدر

بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.
توطئة
إن الصراع بين الشعوب والأديان قد تضمنه تفصيل الكتاب المنزل كما في المثاني في قوله:
ـ ﴿إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده﴾ الأعراف
ـ ﴿وتلك الأيام نداولها بين الناس﴾ عمران
ويعني أن من سنة الله أن يظلّ النصر والتمكين وأسبابهما بجهود الناس من ظاهر سنن الحياة الدنيا قبل أن تكون العاقبة للمتقين في آخر الأمر أي في نهاية الصراع بين الحق والباطل قبل انقضاء الحياة الدنيا.
وحرف الأعراف من وعد الله على لسان موسى لم ينقض يوم نزل القرآن بل نبّأ الله به رسوله خاتم النبيين الأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القرآن فلا يزال الوعد به ـ مستمرا ـ أن يورث الله الأرض من يشاء من عباده عموما يشمل الكافرين والمؤمنين والفاسقين والظالمين والمنافقين، كل شاء الله أن يورثه من الأرض ما يشاء كما أنه يبسط الرزق لمن يشاء ولم يشترط للرزق ولا لإرث الأرض بشرة ولا دينا ولا سلوكا، وتضمن القرآن كما في حرف آل عمران وعدا آخر خاطب به الآخِرين أي من هم بعد نزول القرآن، فالأيام والدول هي بين الناس كلهم لا للعرب دون غيرهم ولا للروم دون غيرهم ولا لأولئك دون هـؤلاء.
وأما آخِر الصراع في الحياة الدنيا فالعاقبة للمتقين كما سيأتي بيانه.
ولقد وعد الله نبيه الأمي في القرآن أن سينصره في الدنيا بنصرين اثنين ينهزم في كل منهما الكفار والمنافقون والمشركون هزيمة لا نصر بعدها أبدا، ولا يقع ذلك الوعد على الفتح الإسلامي في ظلّ النبوة وظلّ الخلافة الراشدة إذ وقعت هزيمة المسلمين بعد ذلك ووقع انحطاطهم حتى اجتاحهم المغول وتيمورلنك واجتاحهم العدو وتخطّفهم ووقع عليهم الذل بل أصبحوا أذل من اليهود ومن أمم وشعوب أخرى لم ينزل الله عليها كتابا تتدبره وتتدارسه لتهتدي به إلى أسباب القوة والعزة وإلى أسباب الأمن والطمأنينة والعيش الرغد، فوا عجبا للمسلمين ما شغلهم عن الكتاب المنزل من عند الله؟
وسيتم أول النصرين المنتظرين في القرآن بجهود المؤمنين أي في القتال في سبيل الله كما في قوله ﴿يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون﴾ المائدة، ويعني أن حزب الله الموصوف في حرف المائدة هم الموصوفون بالأوصاف التالية:
1.   أنهم متأخرون عن نزول القرآن كما هي دلالة قوله ﴿فسوف يأتي الله بقوم﴾ بصيغ الاستقبال البعيد وكما في المثاني معه في قوله ﴿فقد وكّلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين﴾ الأنعام
2.   أن الله يحبهم ويحبونه
3.   أنهم أذلة على المؤمنين
4.   أنهم أعزة على الكافرين
5.   أنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم
6.   أنهم يتولّون الله ورسوله والذين آمنوا
7.   أنهم هم حزب الله الغالبون أي لن يهزموا أبدا
تلك أوصاف لا تتصف بها اليوم جماعة على ظهر الأرض لا في الشام ولا في المشرق كله ولا في المغرب ولا في القاعدة ولا داعش ولا النصرة ولا ....
أما ما أصاب المسلمين ويصيبهم قبل أن تكون العاقبة للمتقين فلإيقاع قضاء الله ونفاذ وعده أن يبلوَ المؤمنين بعدوّهم ويفتن بهم عدوّهم كما في قوله ﴿ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوَ بعضكم ببعض﴾ القتال
وثاني النصرين المنتظرين في القرآن سيتمّ بغير جهود المؤمنين بل بعذاب مستأصل يستأصل المكذبين ويستخلف الله من بعده المؤمنين لتكون العاقبة للمتقين بعد مطلع فجر ليلة القدر.
وأنطلق من مبدإ واحد هو قصْرُ القداسة والاستدلال على القرآن والحديث النبوي الثابت عن النبي الأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما ما زاد عليهما فهو التراث العريض أي هو فَهْم الرجال بعد ذلك ـ ومنه بحوثي ـ وقد ثبت عن رسول الله النبي الأمي في حجة الوداع أنه قال " بلّغوا عني ولو آية فرب مبلّغ أوعى من سامع" وكذلك دلالة أن " رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".
فرحم الله السلف، أولئك الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين لقد بلّغوا العلم المنزل من عند الله ومَضَوْا وبقي الوحي للناس يتدارسونه ويتدبرونه ويهتدون به وسينكشف للناس منه يوما بعد يوم معاني ودلالات ليعلم العالمون رأي العين أن محمدا بن عبد الله الهاشمي هو رسول الله بالقرآن إلى الناس جميعا وأن الله قد نبّأه بالقرآن الذي تضمن غيبا يوم نزل وكُلِّف المؤمنون كلهم بالإيمان به وهو لا يزال غيبا.
فما سيكون من المتأخرين الذين سيشهدون يوم يصبح غيب القرآن شهادة؟
أينقضون الميثاق فلا يوفون به؟
أم يصلون ما أمر الله به أن يوصل؟
أما ما استنسخ المتأخرون من التراث بدل التدبر والتفقه في الوحي فلا يزيد التراث قوة في الاستدلال والاحتجاج.
ولا أدعي ـ معاذ الله ـ أن ما انشغلت به من تفصيل الكتاب وبيان القرآن هو الحق وحده دون غيره من التراث الإسلامي بل غاية تفسيري اجتهاد من طالب علم قاصر يخاف أن يكون ممن يكتمون البينات في الكتاب المنزل وإذن فلن يغني عنه موافقة التراث العريض من الله شيئا.

من بيان القرآن: سورة القدر
إن قوله ﴿إنا أنزلناه﴾ بإسناد الفعل إلى رب العالمين ليعني أن المنزل خارق معجز لا يقدر عليه غير رب العالمين، وكذلك المنزل في قوله ﴿إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم الْتقى الجمعان﴾ الأنفال، ويعني أن الذي أنزل على النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر هو النصر والملائكة والفرقان الخارق المعجز كما في رميه بيده الشريفة الحصى فأصابت وجوه العدو يوم بدر، وليس المنزل في حرف الأنفال هو القرآن إذ لم تنزل سورة الأنفال إلا بعد رجوعهم إلى المدينة وأخذهم الفداء من الأسرى.
وكما أنزل ربّنا النصرَ أنزل العذاب في القرآن كما في قوله:
ـ ﴿فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون﴾ البقرة،
ـ ﴿إنا منزلون على أهل هـذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون﴾ العنكبوت،
ـ ﴿أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذَرين﴾ الصافات،
ـ﴿وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين﴾ الحجر
ولا يخفى أن الذي أُنْزِل على ظالمي بني إسرائيل يومئذ هو الرجز الذي عذِّبوا به، وأن الْـمُنزَل على قوم لوط هو الحاصب الذي أمطروا به، وحرف الصافات صريح في أن الموعود إنزاله هو العذاب ويعني فإذا نزل العذاب بساحة المجرمين فسيسوء صباحهم، ولا يخفى أن المقتسمين الذين جعلوا القرآن عِضين هم الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، والنبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو النَّذير المبين الذي أنذرهم ما أُنزِل في شأنهم من العذاب الموعود الذي سينزل عليهم كما في قوله ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب﴾ البقرة، ويعني أنهم موعودون في الدنيا بعذاب شديد ينزل عليهم فيهلكهم وموعودون في يوم القيامة أن يردوا إلى أشد العذاب مما يعني أنهم قد عذبوا في الدنيا بعذاب شديد قبله.
إن قوله ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ ومن المثاني معه قوله ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ الدخان، هو من الماضي الذي يراد به المستقبل ومن القرائن في حرف القدر قوله ﴿واسجد واقترب﴾ في خاتمة العلق، ويعني تكليف النبيّ الأمّيِّ بالسجود طلبا للنصر على الذي ينهى عبدا إذا صلى ويتوعّد بناديه، ولا تسل عن استجابة دعاء نبيٍّ في سجوده وكما في المثاني معه في قوله ﴿وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم﴾ الشعراء، وتنزلت سورة القدر معلنة إجابة دعاء النبي الأمّيّ في سجوده، ومن زعم أن النبي الأميّ لم يمتثل التكليف ﴿واسجد واقترب﴾ طلبا للنصر فقد غفل عن دلالة النبوة والرسالة.  
إن الله سينزل النصر في ليلة القدر ولن يبقى على ظهر الأرض بعد مطلع فجرها من ينهى عبدا إذا صلى، والقرينة في حرف الدخان قوله ﴿وقيله يا رب إن هـؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون﴾ في خاتمة الزخرف، ويعني أن النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم سأل ربّه النصر على الذين لا يؤمنون فوقع تكليفه بالصفح عنهم وأُخبِر بأن المكذبين سيعلمون رأي العين ما وعدهم به الله في الدنيا وفي الآخرة وإن من موعوداته في الدنيا تنزل النصر من الله دونما جهد من المؤمنين في ليلة مباركة هي ليلة القدر.
واتفق الحرفان في سورة القدر وسورة الدخان على صيغة ﴿إنا أنزلناه﴾ للدلالة على الإنزال مرة واحدة وكذلك النصر المنزل في يوم بدر نزل مرة واحدة كما في قوله ﴿إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم الْتقى الجمعان﴾ الأنفال، وكذلك أنزل الله التوراة والإنجيل دفعة واحدة لا تفاوت فيها ولا تراخي، أما القرآن فقد تنزّل مرة ومرة تنزّلا متفاوتا كما هو معلوم طيلة ثلاث وعشرين سنة.

﴿في ليلة القدر﴾
إن ليلة القدر في أحرفها الثلاثة لمتفق على قراءتها بإسكان الدال أي من القدرة كما في اسمه القادر القدير المقتدر كما في قوله ﴿قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم﴾ الأنعام، وقوله ﴿فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير﴾ البقرة، وقوله ﴿عند مليك مقتدر﴾ خاتمة القمر، وكما في قوله ﴿وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها﴾ الفتح.
إن القدْر ـ بإسكان الدال من القدرة  ـ ليس مثل القدَر بفتح الدال كما في قوله ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدَر معلوم﴾ الحجر، وقوله ﴿ثم جئت على قدَر يا موسى﴾ طه، وقوله ﴿وأنزلنا من السماء ماء بقدَر﴾ الفلاح .
نعم إن ربنا خلق كل شيء بقدَر ـ بفتح الدال ـ كما في قوله ﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر﴾ القمر، وليلة القدر كذلك مخلوقة بقدَر.
ولا أعترض على القول بنزول القدَر بفتح الدال في ليلة من السنة معلومة أو متغيرة في رمضان أو غيره وليس ذلك من موضوع هذا البحث.
إن نصرا من عند الله موعود في القرآن سينزل على المؤمنين في ليلة القدْر لم يأت بعد ولم تعرفه الأمة منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا بل هو مما نبأ الله به خاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وسلم والنبيين قبله وسيتم وقوعه في آخر هذه الأمة قبيل الساعة.
إن ليلة القدْر سيدمّر الله في ساعتها بين مطلع الفجر ومطلع الشمس المجرمين المكذبين في آخر هذه الأمة بمثل ما دمّر اللهُ به سلَفهم قوم نوح وقوم لوط وبمثل ما دمّر به عادا وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب مدين وفرعون وقومه، أي أن الله سيهلك طائفة من المكذبين في آخر هذه الأمة بالطوفان والغرق وطائفة بالريح العقيم وطائفة بالصاعقة وطائفة بالصيحة وطائفة بعذاب يوم الظلة وطائفة بالخسف وأن يمطروا بحجارة من سجيل منضود ..

﴿وما أدراك ما ليلة القدر﴾
إن من تفصيل الكتاب المنزل وتأصيله أن جميع ما في القرآن من قوله ﴿وما أدراك﴾ فإنما لبيان الإخبار عن غيب ذي هول وفزع منتظر بعد نزَل القرآن لن يدركه النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم  في حياته كما في قوله:
ـ ﴿وما أدراك ما يوم الفصل﴾ المرسلات
ـ ﴿وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله﴾ خاتمة الانفطار
ـ ﴿وما أدراك ما القارعة﴾ القارعة
ـ ﴿وما أدراك ما هيه نار حاميه﴾ القارعة
ـ ﴿وما أدراك ما الحطمة﴾ الهمزة
ـ ﴿وما أدراك ما سقر﴾ المدثر
ـ ﴿وما أدراك ما سجين﴾ التطفيف
ـ ﴿وما أدراك ما عليون﴾ التطفيف
وجميعه من الغيب الموعود في يوم القيامة أو في اليوم الآخر.
وأما قوله ﴿وما أدراك ما الحاقة﴾ الحاقة، فهو من الغيب المنتظر في الدنيا وفي الآخرة كذلك وبينته في المعجم في مادة الحقّ.
وأما قوله ﴿وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب﴾ الطارق، فهو من الغيب المنتظر في الدنيا لا في الآخرة ومن المثاني معه قوله ﴿والنجم إذا هوى﴾ وإنما أقسم الله به لتأكيد أنه من الغيب المنتظر كما هي دلالة القسم في القرآن، وكذلك قوله ﴿وما أدراك ما ليلة القدر﴾ هو من الغيب المنتظر بعد نزول القرآن ولن يدركه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته قبل موته.

﴿ليلة القدر خير من ألف شهر﴾
إن قوله ﴿ليلة القدر خير من ألف شهر﴾ ليعني أن ألف شهر هي التي سيُمتّع فيها من سيُهلكون في فجر ليلة القدر كما في قوله ﴿أفرأيت إن متّعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون﴾ الشعراء، والمعنى أن العذاب الموعود سينتهي به ما مُتِّع به المكذبون قبله إذ سيدمّر الله في فجر ليلة القدر ما سيُمتعون به سنين قبلها.
ويعني قوله ﴿ليلة القدر خير من ألف شهر﴾ أنها ليست جزءا مما خيّرت عليه وإذا لاختلّ المعنى وفسد النظم، وإن من تفصيل الكتاب المنزّل أن الذي هو خير ليس جزءا من الذي هو أدنى، مما يعني المغايرة  كما في قوله:
ـ ﴿قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى﴾ البقرة
ـ ﴿من جاء بالحسنة فله خير منها﴾ القصص
ـ ﴿فما آتاني الله خير مما آتاكم﴾ النمل
ويعني أن الأذى ليس جزءا من الصدقة والمعروف، وأن مغفرة الله وجنّتَه ليست جزءا من الأعمال الصالحة في الدنيا، وأن ما آتى الله سليمانَ من النبوة والملك والتمكين ليس جزءا من ملك أهل سبإٍ.
وكذلك ليلة القدر خير من ألف شهر، وليست جزءا منها كما زعم التراث أنها تأتي كل عام أو في كل رمضان أي أنها متكررة في ألف شهر ثلاثا وثمانين مرة، وإنما المعنى أن المجرمين سيُغلَبون بالنصر يتنزل على المؤمنين في ليلة واحدة هي ليلة القدر، ولا ينفعهم ما مُتِّعوا به ألف شهر قبلها وسيهلك الله فيها من الأحزاب أكثر مما قتل الأحزاب في ألف شهر قبلها من المسلمين.
وإني لأتوجس أن يهلك في فجر ليلة القدر من المجرمين أكثر مما أهلك المجرمون وعذّبوا من المسلمين في ألف شهر قبل ليلة القدر.  

﴿تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم﴾
إن المثاني :
ـ ﴿هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولـكن  كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون﴾ النحل
ـ ﴿هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون﴾ الأنعام
ويعني حرف النحل أن المكذبين إنما يؤخرون إيمانهم لفرط تكذيبهم بالغيب كأنما ينتظرون أن تأتيهم الملائكة في الدنيا أو يأتيهم أمر ربنا وهو العذاب، وكذلك فعل الذين من قبلهم فلم يؤمنوا حتى جاءتهم الملائكة منزَّلة بالعذاب كما يأتي تحقيقه.
ويعني حرف الأنعام أن المكذبين إنما يؤخرون إيمانهم لفرط تكذيبهم بالغيب كأنما ينتظرون أن تأتيهم الملائكة في الدنيا أو يأتي ربنا للحساب في يوم القيامة أو تأتيهم الآيات الخارقة للتخويف والقضاء التي تنزل الوعد بها في القرآن، وقد وعد الله أن سيكون جميع ذلك كما هي دلالة قوله ﴿قل انتظروا إنا منتظرون﴾، ويعني قوله ﴿إنا منتظرون﴾ أن انتظار جميع ذلك هو مما كلف به النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم أي هو من سنته وأن المؤمنين ينتظرون ذلك الوعد تبعا لنبيّهم ومن لم ينتظره منهم فقد رغب عن سنّته وما هو من أمته.
إن من المثاني قوله:
ـ ﴿ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذًا منظرين﴾ الحجر
ـ ﴿ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون﴾ الأنعام
ـ ﴿وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا﴾ مريم
ـ ﴿تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم﴾ الفجر
ويعني قوله ﴿ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذًا منظرين﴾ الحجر، ومن المثاني معه قوله ﴿ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون﴾ الأنعام، أن تنزل الملائكة لن يكون لأجل أن تقرّ أعين الكفار بهم، ولن يكون عبثا ولا هزلا  وإنما سينزل ربنا الملائكة بالحق لإنفاذ وعده بإهلاك المجرمين في آخر الأمة، فإذا تنزلت الملائكة بالعذاب  فسيسأل المكذبون التأخير ليؤمنوا ولن ينظروا بل سيهلكون كما في قوله ﴿وما كانوا إذًا منظرين﴾ والحرفان صريحان في أن رب العالمين هو الذي سينزل الملائكة ـ كما هي دلالة الضمير المتصل في قوله ﴿ولو أنزلنا﴾ وقوله ﴿ننزل﴾.
ويعني قوله ﴿وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا﴾ مريم، أن الملائكة لن تتنزل إلى الأرض إلا بأمر ربنا أي بعذابه كالذي أهلك به الأولون وفي إضافة الملائكة الأمر إلى رب النبي الأمي صلى الله عليه وسلم دلالة على إخباره أن ربه سينصره على المجرمين بعذاب من عنده لا بجهود المؤمنين، وتعني دلالة قوله ﴿له ما بين أيدينا﴾ أنه تبارك وتعالى هو الذي أذن لهم بالتنزل من قبل لإهلاك المكذبين من الأمم السابقة، فتنزلهم من قبل بالعذاب هو ما بين أيديهم وأما ما خلفهم من التنزل بالعذاب كما في قوله ﴿وما خلفنا﴾  فهو المنتظر وما يستقبل من تنزلهم يوم نزل القرآن في حياة النبي الأمي ومن المثاني معه قوله ﴿تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم﴾، فالله وحده هو الذي يملكه وسيأذن به مهما تأخر كما في قوله ﴿وما كان ربك نسيا﴾ ويعني أن تنزل الملائكة بالعذاب سيتأخر كثيرا عن نزول القرآن.
ودلالة حرف مريم ﴿وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا﴾ صريحة على أن الروح أي جبريل كان يتنزل مع الملائكة بالعذاب على المكذبين من القرون الأولى وكما يستأنس به في حرف هود في وصف ضيف إبراهيم ولوط وهم الذين أرسلوا إلى قوم لوط بالعذاب.
ويعني قوله ﴿تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم﴾ الفجر، أن الملائكة ستتنزل في ليلة القدر وأن الروح أي جبريل سينزل كذلك مع الملائكة فيها بإذن ربهم وهو تنزل خارق معجز لا يقدرون على مثله لأنفسهم بل يأذن لهم ربهم به.
وإن قوله:
ـ ﴿ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب﴾ سبأ
ـ ﴿ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم  تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون﴾ الأنعام 
ـ ﴿ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم﴾ الأنفال 
ـ ﴿فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم﴾ القتال
ـ ﴿قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا﴾ مريم 
ـ ﴿حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا﴾ الجن 
ـ ﴿يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا﴾ الفرقان
ـ ﴿ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله  ظن السوء عليهم دائرة السوء  وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما﴾ الفتح
ومن البصائر في قوله ﴿ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب﴾ سبأ، أن الذين سيضلون عن الحق وهو القرآن سيفزعون فزعا في الدنيا بعد حياة النبي الأمّيّ كما هو مدلول قوله ﴿ولو ترى﴾ كما بينت في مادة النبوة في المعجم، ويوم يقع نفاذ الوعد ـ وهو الميعاد الذي لا يخلفه الله ـ لن يستبشر المكذبون بتنزل الملائكة التي ستأخذهم من مكان قريب تماما كما بيّنه القرآن في حرف الأنعام والأنفال والقتال بأن الظالمين وهم في غمرات الموت ستكلمهم الملائكة بقولها ﴿أَخرِجوا أنفسكم اليوم  تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون﴾ وإنما هو عذاب في الدنيا على جمع الظالمين يوم يعذبون كالأحزاب من قوم نوح ومن بعدهم من المكذبين المستكبرين عن الحق الذين كانوا يقولون على الله غير الحق، ويومئذ تتوفَّـى الملائكة من يقع عليهم الوصف بالذين كفروا يضربون وجوههم وأدبارهم وهم يومئذ في غمرات الموت أي هي القرينة على أنه العذاب في الحياة الدنيا.
ومن البصائر في حرف سبأ أن المكذبين حين يفزعون سيقولون ﴿آمنا به﴾ ولكن لن ينفعهم الإيمان بل سيحال بينهم وبين ما يشتهون من المتاع والأهل وهي القرينة على أنه العذاب في الدنيا ﴿ كما فُعل بأشياعهم من قبل﴾ وهم قوم نوح وقوم لوط وعاد وثمود ومدين والأحزاب المعذبون قبل نزول القرآن.
ومن البصائر في قوله ﴿قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا﴾ مريم، ومن المثاني معه قوله ﴿حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا﴾ الجن، وقوله ﴿يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا﴾ الفرقان، أن حرف مريم من القول، ويتأخر نفاذ القول عن حياة النبي الأميّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومنه أن أهل الضلالة سيستدرجون في الدنيا بما يـمُدُّهم به الرحمان من أسباب القوة والتمكين حتى إذا رأوا ما يوعدون وهو وعدان: أولهما العذاب في الدنيا كما عذّب الأولون، وثانيهما الساعة وهي أدهى وأمرّ، وفي كل من الوعدين سيعلم الضالون أنهم شرّ مكانا وأضعف جندا وسيعلمون كما في حرف الجن أنهم أضعف ناصرا وأقل عددا، والمقارنة إنما هي بين جندهم وناصرهم وعددهم وبين الملائكة التي ستتنزل عليهم بالعذاب في الدنيا، أما في الآخرة فكما في قوله ﴿وكلهم آتيه يوم القيامة فردا﴾ مريم،  فأنّـى لهم الجنود والناصر والعدد.
ودلّ حرف الفرقان على أن الذين استكبروا وعتوا عتوّا كبيرا سيرون الملائكة مرتين أولاهما في الدنيا في ليلة القدر فيقولون حجرا محجورا إذ لا حيلة إلى الهروب ولا حول إلى أسباب النجاة كما في المثاني معه في حرف سبإ ﴿فلا فوت﴾، أي لن يفلت منهم أحد، وثانيهما في يوم القيامة يوم تشقق السماء بالغمام وتتنزل الملائكة تنزيلا، فهما يومان لا تخفى المغايرة بينهما.
ومن البصائر في قوله ﴿ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله  ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما﴾ الفتح، أن الله نصر المؤمنين في القرون الأولى بجنود السماوات وهم الملائكة كالذين أرسلوا إلى قوم لوط، ونصرهم بجنود الأرض كالذين كانوا مع سليمان، كما هي دلالة قوله ﴿وكان الله عزيزا حكيما﴾ يعني أن النصر بكل من جنود السماوات وجنود الأرض قد وقع قبل نزول القرآن، وكذلك سيقع النصر بهما في هـذه الأمة بعد نزول القرآن، وهو وعد وقضاء سيتم بعزة الله وإن تأخر لحكمة بالغة.
وإن من المثاني قوله:
ـ ﴿هـذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف مكن الملائكة مسومين﴾ عمران
ـ ﴿والمرسلات عرفا﴾
ـ ﴿والعاديات ضبحا  فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا﴾
ـ ﴿ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون  فتول عنهم حتى وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون  فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون﴾ الصافات 
ـ ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح  إذا أسفر إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر﴾ المدثر
ويعني الوعد بإنزال خمسة آلاف من الملائكة مسوّمين أن الناس سيرونهم ولهم سِيما يُعرفون بها وهم المرسلات عرفا أي لهم عمائم أرسلوا مؤخرتها يعرفون بها، وإن لهم خيلا يركبونها كما في قوله ﴿والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا﴾، أما العاديات فهي طلائع الملائكة تعدو للقتال أو هي الخيل تعدو  ضبحا وهو نوع من الجري، أو نوع من أصواتها ليس بالصهيل ولا الحمحمة، وأما الموريات فهي الخيل توري أي توقد بحوافرها الحجارة أو ما تسير عليه من الأرض كالحجارة قدحا لفرط قوتها وسرعتها في غارتها على المجرمين صُبحا بعد مطلع الفجر حتى تثير النقع من الغبار وأثر الغارة وتلك من غمرات موت الظالمين الموصوف في حرف الأنعام حتى تتوسط الملائكة بخيلها جمع المجرمين لتأخذهم من مكان قريب كما في حرف سبإ، وجُند ربنا من الملائكة هم الغالبون وسيسُوء صباح المنذَرين إذا نزل بساحتهم العذاب.
ومن البصائر في حرف الصافات أن كلمة ربنا أي وعده ـ كما بينت في مادة الكلمة ـ هي وعده رسلَه كما في قوله ﴿إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون﴾ وهو وعد قد سبق ونفذ بإهلاك قوم نوح وقوم لوط وبإهلاك عاد وثمود والأحزاب من بعدهم وباستخلاف المؤمنين من بعدهم فكانت العاقبة للمتقين وإنما جند ربنا الغالبون يومئذ هم الملائكة لإيقاع نصر خارق معجز بأمر ربنا، فجند ربنا من الملائكة هم الغالبون يومئذ كما هو صريح مدلول رسل ربنا من الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لوط بالعذاب فأمطروهم بحجارة من سجيل منضود وجعلوا عاليَها سافلَها ومن قبل نـجَّوْا لوطا وأهله إلا العجوز الغابرة.
ولم تنقض كلمات ربنا بوعده رسله من الناس أن ينصرهم وبوعده جنده من الملائكة أن يجعلهم هم الغالبين بل نبّأ الله النبي الأمّيّ به في القرآن ومنه حرف الصافات هذا وأمره بانتظار ذلك الموعود كما في قوله ﴿فتول عنهم حتى حينٍ وأبصرهم فسوف يبصرون﴾ أي أن حينا من الدهر سينقضي قبل نفاذ ذلك الموعود والعجب من المشركين الذين عاصروا نزول القرآن كيف يستعجلون العذاب في الدنيا رغم الوعد به بعد حينٍ، ويوم ينزل بساحتهم فسيسوء صباح المنذَرين به من قبل في القرآن إذ لم يهتدوا بالقرآن إلى أسباب النجاة من عذاب الله في الدنيا وإلى أسباب النجاة من عذاب الله في الآخرة ولم يهتدوا بالقرآن العجب إلى الرشد وإلى التي هي أقوم.
ومرة أخرى تضمن حرف الصافات تكليف النبي الأمي الرسول بالقرآن بانتظار ذلك الموعود كما في قوله ﴿وتوَلَّ عنهم حتى حينٍ وأبصرْ فسوف يبصرون﴾ أي ولينزلن العذاب الذي كانوا يستعجلون به ـ بعد حين من نزول القرآن ـ على ساحتهم فيسوء صباحهم وسيُبصرونه فلا يكذبون به، وسبحان الله وتعالى علوا كبيرا أن يكلّف رسوله بالقرآن النبي الأمي بانتظار ما لا يكون أبدا.

ومن البصائر في قوله ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح  إذا أسفر إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر﴾ المدثر، أن من الذكرى للبشر في القرآن أن تضمن القرآن التخويف من العذاب الذي سيتنزل به جنود ربنا من الملائكة في يوم من أيام الله كالذي أهلك فيه الأولين وسيقع في الآخرين مثله في فجر ليلة هي إحدى الكبر نذيرا للبشر ليتقدم أو يتأخر منهم من شاء إلى النجاة أو العذاب بعد نزول القرآن ذي الذكر والقول الفصل البعيد عن الهزل، وسبحان الله وتعالى أن ينذر البشر في القرآن بما لن يكون بل آمنت بالكتاب كله.
يتواصل

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top