سورة البقرة ابتُدِئت سورة البقرة بفاتحتها من الحروف ثم بالكتاب لا ريب فيه وهو الصراط المستقيم الذي أنعم الله على أصحابه وبسبب الإعراض عنه نشأت الطائفتان: المغضوب عليهم والضالون.

وتدور كلماتها وما تضمَّنته من خطاب وقصص وتكليف حول محور السِّلم الاجتماعي في قوله تعالى ﴿يا أيُّها الذين ءامَنوا ادخلوا في السِّلم كافَّة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين﴾، ولا يُنتقَض هذا العموم ولا التعميم بمواطن التكليف في سورة البقرة بالقتال في سبيل الله، لوقوعه على ﴿الذين يُقَاتِلُونَكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾، إذ هو هنا لدَفْعِ العُدوان، وبقرينة:
﴿وأَخْرجوهم من حث أخرجوكم﴾
 ﴿ولا تُقَاتِلوهم عند المسجدِ الحرام حتى يُقاتِلوكم فيه فإن قاتَلوكم فاقتُلوهم كذلك جزاء الكافرين﴾
﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثْلِ ما اعتدَى عليكم﴾
ويعني الخطاب بدَفْعِ الاعتداء قِتالا إعلان كلية: "ضرورة استعادة السِّلْم الاجتماعي قبل الاعتداء" وأنه من أكبر المقاصد وبقرينة المثاني:
﴿لا إكراه في الدين قد تبيَّن الرُّشْد من الغَيِّ﴾
﴿وما لنا ألا نُقاتِلَ في سبيلِ الله وقَد أُخْرِجنا من ديارنا وأبنائنا﴾
﴿وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الدِّينُ لله فإن انتهَوْا فلا عدوان إلا على الظالمين﴾
﴿والفِتنةُ أكبر من القتل ولا يزالون يُقاتلونكم حتى يردُّكم عن دينكم إن استطاعوا﴾
﴿والفِتْنَةُ أَشَدُّ من القتلِ﴾
وتعني أن دِينَ الله هو بتبَيُّنِ الرُّشْد من الغَيِّ لكلٍّ وأن يكون له الاختيار غير مُكرهٍ على اتباع دِينِ الله الإسلام ولو شاء الله إكراهَ الناسِ على الإسلام لأنزل من السماء آية فتظل أعناق الناس لها خاضعين كما في سورة الشعراء وغيرها، وكما في قوله تعالى ﴿قل فَلِلهِ الحجَّةُ البالغةُ فلو شاء لَـهَداكم أجمعين﴾ الأنعام، فعَلَى رأسِ التكريمِ الذي أكرم اللهُ به الإنسانَ أن يكون له الاختيارُ في الدِّين ومنه التصور والاعتقاد اختيارا هو سَبَبُ الحساب والعقاب، وظهر شُذُوذُ المشركين وأهل الكتاب بحِرصِهم على قِتال المسلمين لِيَرُدُّوهم عن دينِهم.
ووجبت الهجرة على مَن خَاف الإكراهَ بسَلْبِه كرامةَ الاختيار وتجريده من السِّلْم والأمن على دِينه ونفسه وماله وكان المهاجر فرارا بدينه من الذين ﴿يرجون رحمة َ اللهِ﴾.
وتنزل الدعاء المستجاب طلبا للنصر ليَزول الإصْرُ بالاستضعاف عن ظهور المؤمنين الذين ءامنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله لا يفرِّقون بين أحد من رسُله ويقولون سمعنا وأطعنا.
ومن أكبر أسباب السِّلْم الاجتماعي تأمين الأمن الغذائي بالخطاب بالإنفاق وبالصدقة وبالصيام وبالنهي عن الربا والخمر والمَيسِر والرشوة إلى الحكام معاني تنزلت بها سورة البقرة في مواطنَ كثيرة.
وكان الشيطان العدو المبين هو سبب خروج أبيهم ءادم وزوجه مما كانا فيه حيث السِّلم والأمْنُ والأكل رغَدا وحيث لا يظمأون ولا يجوعون، وكان الشيطان هو ولِيُّ الذين كفروا يُخرِجُهم من الظلمات إلى النور، وكان اتِّباع خُطوات الشيطان باستعمال الطاقة والقوة في المأكل والمشرب في المعصية هو سبب شقاوة بني ءادم وانتفاء الأمن والسِّلم بالظلم والبغي.
ومن أكبر أسباب السلم الاجتماعي تقرير أحكام الأسرة وحقوق الوالدَيْنِ بالإحسان إليهما وإلى الأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وتقرير حقوق الزوجة ودَفْعِ ضِرارِها وتقريرُ حقوق الصبي في بطن أمه ثم هو رضيعٌ، وتحريم نكاح المشركين والمشركات، وكانت الشياطينُ ومنهم هاروت وماروت يُعَلِّمانِ الناسَ السحرَ ببابل وليُفَرِّقُوا بين المرْءِ وزوجه فينتفي السلم الاجتماعي في تلك الأسرة ويضطربَ الأولاد.
وتقرير اتخاذ الأهلة مواقيت للناس في معاملاتهم وعقودهم وتقرير فريضة الحج والعمرة وليتم تعارفُ الشعوب والقبائل فيتَّخِذُ بعضُهُم بعضا وَليًّا يُلجَأُ إليهِ عند الاقتضاء لدفع الضر والكرب والفقر والتشرد والعدوان.
وتقرير النَّهيُ عن الإفساد في الأرض كما في المثاني:
﴿وإذا قيل لهم لا تُفسِدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلِحون ألا إنهم هم المُفسِدون ولكن لا يشعرون﴾
﴿قالوا أتجْعَلُ فيها من يُفْسِد فيها ويسفِكُ الدِّمَاءَ﴾
﴿ومن الناس مَن يُعجِبُك قوله في الحياةِ الدنيا ويُشْهِد اللهَ على ما في قلبه وهو أَلَدُّ الخصام وإذا تَوَلَّى سَعَى في الأرض ليُفْسِدَ فيها ويُهْلِكَ الحرْثَ والنسْلَ واللهُ لا يُحِبُّ الفسادَ﴾
﴿ولولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعض لفسدت الأرضُ ولكنَّ اللهَ ذو فضل على العالَمين﴾
﴿وما يُضِلُّ به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهدَ الله من بعد ميثاقِه ويقطعون ما أمَر الله به أن يُوصَل ويُفْسِدون في الأرض أولئك هم الخاسرون﴾
﴿والله يعلم المُفْسِدَ من المصلِحِ﴾
﴿كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثَوْا في الأرض مُفسِدين﴾
وتضمن تفصيل الكتاب المنزل اقترانَ كلمة الفساد في الأرض بإتلاف الأموال والرزق والظلم بها، وتنزل تشريع الوصية بالمال على الوالديْنِ والأقربين.
وتنزل التكليف بنَظِرَةِ المُعسِر إلى مَيْسُرَةٍ إذ بسبب المال والتنازع فيه وقع سَفك الدماء وتضمنت سورة البقرة النهيَ عنه وإنكاره كما في المثاني:
﴿قالوا أتجْعَلُ فيها من يُفْسِد فيها ويسفِكُ الدِّمَاءَ﴾
﴿وإذ أخذنا ميثاقَكم لا تَسْفِكون دماءَكم ولا تُخرِجون أنفسَكم من دياركم ثم أقْررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم﴾
﴿يا أيُّها الذين ءامنوا كُتِبَ عليكم القصاص في القتلَى﴾
﴿ولكم في القصاص حياةٌ يا أُولِي الألبابِ لعلكم تتقون﴾
﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاصٌ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدَى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين﴾
وتقرير تأمين البلد الحرام والشهر الحرام والديار والبلدان كما في المثاني:
﴿وإذ جعلنا البيتَ مثابةً للناس وأَمنًا﴾
﴿وإذ قال إبراهيمُ رب اجعل هذا بلَدًا ءامِنًا وارزق أهلَه من الثمرات مَن ءامَن منهم بالله واليوم الآخرِ﴾
﴿وقلنا يا ءادم اسكُنْ أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما﴾
﴿ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾
﴿وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتُم رغدا﴾
﴿وتُخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثمِ والعدوان وإن يأتوكم أسارَى تُفادهم وهو محرمٌ عليكم إخراجهم﴾
﴿وما لنا ألا نُقاتِلَ في سبيلِ الله وقَد أُخْرِجنا من ديارنا وأبنائنا﴾
﴿ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت﴾
ومن أكبر مظاهر السلم الاجتماعي والأمن الاقتصادي ما مَنَّ اللهُ به على الناس كل الناسِ من الفلكِ ﴿التي تجري في البحر بما ينفعُ الناس﴾.
ولن يتمثل الإنسان السِّلْم إلا بالإسلام لرب العالمين وكذلك أسلم النبيون وخاطب الله تعالى إبراهيم كما في قوله ﴿إذ قال له ربُّه أسلِمْ قال أسلمْتُ لربِّ العالمين﴾
وكان أهل الكتاب حسَدا من عندِ أنفسِهم وبغيا وعدوانا يتربَّصون بالمسلمين الدوائر فتضمنت سورة البقرة نماذج من تزكِيتهم أنفسهم ومن مكرِهم وكيْدِهم ومن لؤْمِهم وعصيانهم النبيين والرسل من بني إسرائيلَ ونماذج من اقتداءِ منافقي هذه الأمة بهم ولعل المؤمنين يحذرون، ومنه قول أهل اليهود والنصارى ﴿لن يَدخُل الجنة إلا مَن كان هودا أو نصارَى﴾ وكذلك يُزَكِّي المنافقون أنفسَهم كما في قوله تعالى ﴿وإذا قيل لهم لا تُفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مُصلحون ألا إنهم هم المُفسِدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم ءَامِنوا كما ءامَن الناس قالوا أنؤمِن كما ءامَن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون﴾.
وتضمنت سورة البقرة الخطاب بالإيمان بالغيب وبالإيمان عموما ليرتدع المكلَّفُ عن الكفر والنفاق والظلم والفساد ولِيُعْبَدَ اللهُ في الأرض فيحيَوْنَ حياة مستقرة في السِّلم كافة لا شِيَةَ فيه من العيوب، وكان ما جاء به النبيون والرسل من الكتاب المنزل والنبوَّة وما فيهما من الإيمان وما معهم من الهدى والآيات هو السبيل الوحيدة إلى الأمْنِ والسِّلْمِ والنجاة في الدنيا من الخوف والحزن والمعيشة الضنك والشقاق وإلى النجاة من الخِزْيِ بعذاب النار والسموم والحميم وظل من يحموم.

وظهرت أكبر جريمة في حق البشرية استحق أصحابها لعنةَ الله والملائكة والناسِ أجمعين بكتمان ما أنزل الله من البينات والهدى في الكتاب المنزل، ويقابلها حرص إبراهيم الذي جعله الله للناس إماما على نشر العلم والهدى كما في قوله ﴿ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم ءاياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم﴾ 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top