سورة آل عمران
تدور جميع جزئيات سورة آل عمران حول محور قوله تعالى ﴿وتِلْكَ الأيَّامُ نُداوِلُهَا بيْنَ النَّاسِ﴾ أي هو صراع وتنافس بين الناس أمَمًا وشعوبا وأجناسا ومِلَلًا ونِحَلًا.
وتضمنت هذه السورة أوجها من الصراع والتنافس بين الناس منها:
أولا: تنافس الناس في الشهوات من النساء والأولاد ومتاع الحياة الدنيا وفي الأموال تنافسا ظهر معه أكل الربا أضعافا مضاعفة، وتقلّبَ الذين كفروا في البلاد.
ثانيا: تنافس المؤمنين في المغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض وكذلك من أهل الكتاب أمَّة قائمة يتلون الكتاب ويسجدون ويأمرون بالمعروف وينهوْن عن المنكر ومنهم المؤمنون بالله وبالقرآن وبما أنزل إليهم من قبلُ.
ثالثا: حرصُ المصطفَيْنَ الأخيار على الذّرّيّة الطيبة وتنافسهم فيها ليتَّبِعوهم بإحسانٍ وكذلك حرصت امرأة عمران على ولدٍ صالحٍ مفَرَّغٍ لطاعة اللهِ وتنافس معها زكريا فسأل اللهَ ذريَّة طيِّبَةً وكما في قوله تعالى ﴿إن الله اصطفى ءادم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين ذرَية بعضها من بعض والله سميع عليم﴾ ويعني الاسمان ﴿السميع العليم﴾ في هذا الحرف أن كلا من ءادم ونوحا وإبراهيم وءالَه وعمران وامرأتَه قد عمِلوا عملا صالحا متقبَّلًا ودعوْا دعاءً متقبلًا ليهَبَ لهم الله ذريّةً طيبة، وكذلك دلالة الاسمين ﴿السميع العليم﴾ في تفصيل الكتاب المنزل على العمل الصالح المتقبل والدعاء المتقبل المستجاب وكان العبدُ أقربَ ما يكون من ربِّه وهو ساجد كما في الحديث النبوي وصح بحرف سورة الشعراء ﴿إنه يراك حين تقوم وتقلُّبَك في الساجدين إنه هو السميع العليم﴾، وتقبل الله قتالَ أهل بدر كما في قوله ﴿لِيَهلك مَن هلك عن بيِّنة ويحيى مَن حيَّ عن بيِّنةٍ وإن الله لسميع عليم﴾، واستجاب الله من النبييْنِ إبراهيم وإسماعيل عملهما ودعاءهما كما في قوله ﴿وإذ يرفع إبراهيم القواعدَ من البيتِ وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم﴾، وبيَّنْتُه مفصَّلًا في كتابي "المثاني لتبيان معاني الأسماء الحسنى".
رابعا: التنافس في العلم بدراية الكتاب المنزل وتبيانه للناس كما في قوله تعالى ﴿وما كنتَ لديْهِم إذ يُلْقُون أقلامَهم أيُّهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون﴾، وتنزَّلَ الخطاب بتكليف المؤمنين بقوله تعالى ﴿ولكن كونوا ربَّانيين بما كنتم تعَلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون﴾، وكان أشرف الناس وهم أولوا العلم أي الرسل والنبيون أعلنوا شهادتهم أن لا إلـه إلا الله العزيز الحكيم، وأخذ اللهُ ميثاق النبيين ليؤْمِنُنَّ بالرسول المصدِّقِ لما معهم وهو الكتاب المنزل عليهم ولينصرُنَّه وليشهدُنَّ على ذلك.
وكان أشقى الناسِ هم الذين علِمُوا من البيات والهدى في الكتاب النزل وكتموها فلم ينشروها ولَبَسُوا الحقَّ بالباطل حرصا منهم على متاع قليل في الدنيا معرضين عن عهد الله وميثاقه فاستحقوا في الآخرة أن لا خلاقَ لهم وأن لن يُكلِّمَهم الله ولن ينظرَ إليهم.
وإن الكتاب المنزل على قلب النبيِّ الأمِّيِّ صلى الله عليه وسلم لعربيٌّ مبين ومنه أي بعضه ءايات الكتاب المحكمات هن أم الكتاب ومنه كذلك ءايات الكتاب المتشابهات أي هو ثلاثة أقسام كما في قوله تعالى ﴿هو الذي أنزل عليك الكتابَ منه ءاياتٌ محكمات هنّ أم الكتاب وأُخَرُ متشابهاتُ﴾.
ولقد كان مما حال بين كفار قريش وبين الإيمان والإذعان إسلاما أن كُلِّفوا بالإيمان بغيب الفواتح فاستنكفوا واستكبروا أن يؤمنوا بغيب لا يدرون أهو لهم أم عليهم؟ وكذلك دلالة قوله ﴿ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصِّلت آياته ءَأَعجميٌّ وعربيٌّ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عَمًى أولئك يُنادَوْن من مكان بعيد﴾ فصلت، ويعني إنكارهم الأعجميَّ من الكتاب المنزل وهو الفواتح وتمنوا أن يكون عربيا كله لا فواتح فيه.
ولقد تنزل وصَفُ الحروف المقطعة في فواتح سور لقمان والرعد ويونس ويوسف والشعراء والقصص بأنها آيات الكتاب، ووصفُ فاتحة سورة الحجر بأنها آيات الكتاب وقرآن مبين، ووصف فاتحة النمل بأنها آيات القرآن وكتاب مبين.
ودلالة وصفها بالآيات تعني أنها قرائن تدل على غيب، وقد تنزل في بداية سورة البقرة التكليف بالإيمان بالغيب، ولا تزال المسابقة في القرآن بتدبر آيات الكتاب كما في المثاني:
﴿كتاب أنزلناه إليك مباركٌ ليدَّبَّروا ءاياتِه﴾ سورة ص
﴿ولكن لِيَبْلُوَكم فيما ءاتاكم فاستبقوا الخيراتِ﴾ المائدة
إن عاقلا أو مغفلا من الناس لن يقول: إنه خلَق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم سيعدمُه ويُعيد خلْقَه كما خلَقَه أول مرة تفصيلا يشمل بَنَانَ الإنسان وذاكرتَه فلا ينسى منها ما كان أسرَّ وما أخفى، وكان حرِيًّا بالناس أن يفهموا الكتاب لوضوحه وهل في اللهِ فاطرِ السماوات والأرض شكٌّ؟ ومتى احتاج التكليف بالصلاة والزكاة وسائر التكاليف إلى تدبُّر؟ وإنما هي تكاليف من الله الخالقِ البارئ المصور فمن شاء زكَّى نفسه بها ومن شاء دسّاها بالإعراض عنها.
وإن من أعلى درجات هدايتنا نحن العامَّة أتباع الرسل والنبيين أن نسارع إلى تقليدِ هداية الراسخين في العلم كما في قوله تعالى ﴿والراسخون في العلم يقولون ءامَنَّا به كلٌّ مِن عندِ رَبِّنا وما يذّكّر إلا أولوا الألباب﴾ وهم بتذكرتهم يَصِلون ما أمر اللهُ به أن يُوصَلَ فيؤمنون بآيات الكتاب المحكمات وءايات الكتاب المتشابهات إيمانَهم بالقرآن العربي المبين وكذلك وصَفَ الله خيارَ الصحابة الكرام فقال ﴿وتُؤْمِنُون بالكتابِ كُلِّهِ﴾.
ولأن غاية العلم هو الهدايةُ فقد اهتدى الراسخون في العلم أولوا الألباب إلى أن الإيمان بالكتاب كله ومنه تأويلُه يوم يأتي تأويله هو محض الهداية فتضرعوا إلى الله بدعائهم ﴿ربنا لا تُزِغْ قُلوبَنا بعدَ إذ هدَيْتنا وهبْ لنا من لدُنكَ رحمةً إنك أنت الوهابُ﴾.
خامسا: صراع الناس وتنافسهم على الغلبة والظهور
وتظهر مناسبةُ سورة آل عمران ذات محور التنافس والصراع بخاتمةِ سورة البقرة ﴿ربَّنا ولا تحمِلْ علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلِنا ربَّنا ولا تُحَمِّلنا ما لا طاقةَ لنا به واعْفُ عنا واغفر لنا واحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين﴾ أي هو الصراع بين الكافرين والمؤمنين ﴿بالله وملائكتِه وكتبه ورسله لا نفرِّق بين أحد من رسُلِه وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربَّنا وإليك المصير﴾.
وتعني مداولة الأيام بين الناس تقرير الكلية العامة في سورة القتال ﴿ذلك ولو يشاءُ الله لَانْتَصَرَ منهم ولكن ليَبْلُوَ بعضَكم ببعضٍ﴾ أي ليس هو التمكين أبدا للمؤمنين والاستضعاف أبدا لمنكري الغيب، صراع ومغالبة لها أسبابها وسُنَنُها، لا كما يتمناه ويتصوره طرفا الصراع بل كما في المثاني:
﴿لَيسَ لكَ مِن الأمرِ شيْءٌ أو يَتُوبَ عليهم أو يُعَذِّبَهم فإنهم ظالمون﴾
﴿يقولون هل لنا من الأمرِ من شيء قل إن الأمرَ كلَّهُ للهِ﴾
وكثر الإعلان في السورة عن مرحلة التمحيص قبل النصر كما في المثاني:
﴿ولِيُمَحِّصَ اللهُ الذين ءامَنوا وَيَمحقَ الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمَّا يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم ويعلمَ الصابرين ولقد كنتم تمنَّوْن الموت من قبلِ أن تلقَوْه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون﴾
﴿وكأَيِّن من نبيّ قَاتل معه رِبِّيُّون كثير فما وَهَنوا لِمَا أصابهم في سبيل الله وما ضعُفوا وما استكانوا والله يحبُّ الصابرين﴾
﴿وليَبْتَلِيَ الله ما في صدوركم ولِيُمَحِّصَ ما في قلوبكم والله عليم بذاتِ الصدور﴾
﴿وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذنِ الله وليعلمَ المؤمنين ولِيَعلمَ الذين نافقوا﴾
﴿ما كان الله ليذَرَ المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يمِيزَ الخبيثَ من الطَّيِّبِ﴾
﴿فالذين هاجَروا وأخرِجُوا من ديارِهم وأوذُوا في سبيلي وقاتلوا وقُتِلُوا﴾
وظهرتْ الكليَّة الكبرى لتعليل التمحيص والابتلاء في قوله تعالى ﴿أوَلَمَّا أصابتكم مُصِيبةٌ قد أصبتُم مِثْلَيْها قلتم أَنَّى هذا قل هو من عِنْدِ أنفُسِكم إن الله على كل شيءٍ قدير﴾
وتضمنت السورة صفات الفرقة الناجية من الفِتن المتأهلة للنصر كما في المثاني:
﴿ولا تهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قَرْحٌ فقد مسَّ القومَ قَرْحٌ مثْلُه﴾
﴿يا أيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾
﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبلِه الرسل أفإِن ماتَ أو قُتِلَ انقلبتُم على أعقابكم ومَن ينقلبْ على عَقبيْهِ فلن يَضُرَّ اللهَ شيئا وسيجزي الله الشاكرين﴾، أي هو عدم ربط النصر بقائد معين وليظل النصر نصر الجماعة والمجتمع.
﴿الذين قال لهم الناسُ إن الناسَ قد جمَعُوا لكم فاخشَوْهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسَسْهم سوء واتَّبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم﴾
وفي ظل الصراع والخوف والخطف والقتل تنزلت التذكرة بالبلد الحرام جعله الله للناس مثابة وأمنا وتنزل الخطاب بتأمين أهله وصيدِه وشجرِه، وليأوِيَ إليه العامة والخائفون.
وتضمنت السورة من خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم ما يتهيَّاُ به القادة من بعده للنصر ومن أخصِّها:
ـ أنه لَيِّنٌ غير فظٍّ ولا غليظ ولا ينتصر لنفسِه بل يعفو ويستغفر للمخطئِ
ـ ابتعاده عن الغلول
ـ تقرير كليّة "الاعتصام وعدم الفرقة" بإقالة العثرات غير المقصودة لذاتِها كما في قوله تعالى ﴿إن الذين تولَّوْا منكم يوم الْتَقَى الجمعان إنما استزلّهم الشيطان ببعض ما كسَبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم﴾ ومن المثاني معه قوله ﴿إذ همَّتْ طائفتان منكم أن تفشلا والله وليُّهما﴾ وقوله ﴿ولا يُضَارَّ كاتبٌ ولا شهيدٌ وإن تفعلوا فإنه فُسُوقٌ بكم﴾ البقرة، وإنما ظهرت قاصمة التكفير والتفسيق باختفاء هذه العاصمة.
وتضمنت السورة إرشاد الذين ءامَنوا إلى أسبابِ المحافظةِ على النصر ومنها أن لا يطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب ولا الذين كفروا، وأن النصر بالجهد قبل تطهير الجبهة الداخلية من المنافقين (الطابور الخامس) إنما يزداد به العدو الداخلي تمكينا وقدرةً على سرقةِ الجهْدِ والنصر بالخبال والفتنة.

وتضمنت السورة من مكر المنافقين وأوليائهم من أهل الكتاب الحريصين على خذلان المؤمنين كما في قوله تعالى ﴿إن تمسَسْكم حسنَةٌ تسؤْهُم وإن تُصِبْكم سيئةٌ يفرحوا بها﴾.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top