الحرف الأول من الأحرف السبعة: النبوَّة
النبوة ودلالة الفرق بين النبوة والرسالة
إن من تفصيل الكتاب أن النبوةَ عند إطلاقها هي الإخبارُ باليقينِ من العلم الغائب، أو بما كان من الحوادث التي غابتْ عنك فلم تحضرْها سواء كانت ماضية أو معاصرة كما وقعتْ، أو بما ستؤول إليه الحوادثُ كما ستقع مستقبلا.
فمن الأول قولُ مُعَلِّمِ موسَى ﴿سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا﴾ الكهف، وكذلك قوله ﴿قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض﴾ يونس، وقوله ﴿أم تنبّئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول﴾ الرعد، والمعنى أن الله لا يغيبُ عنه ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
ومن الثاني في وصف الحوادث الماضية قوله ﴿ألم يأتِهم نبأُ الذين مِن قبلِهم﴾ التوبة، وقوله ﴿ونبئهم عن ضيفِ إبراهيم﴾ الحجر.
ومنه في وصفِ الحوادثِ المعاصرةِ قولُ الهدهدِ ﴿أحطْتُ بما لم تُحِطْ به وجِئْتُكَ من سَبَإٍ بنبإٍ يقين﴾ النمل، وقوله ﴿وإذ أسرّ النبيُّ إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبّأتْ به وأظهره اللهُ عليه عرّف بعضه وأعرضَ عن بعض فلما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأنيَ العليمُ الخبير﴾ التحريم.
ومن الثالث من بيانِ ما ستؤولُ إليْه الحوادثُ مستقبلا قوله ﴿وأمَمٌ سنُمتِّعُهم ثم يمسهم منا عذاب أليم تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين﴾ هود، وقوله ﴿قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون﴾ سورة ص.
وإنه في يوم الدِّين ﴿يوم لا تملك نفس لنفس شيئا﴾ الانفطار، يُنَبَّأُ الإنسانُ بما قدّم وأخّر، وذلك أنّ إلى الله مرجع الناس فينبئهم بما عملوا وبما كانوا يصنعون وبما كانوا فيه يختلفون وإليه أمرهم فينبئهم بما كانوا يفعلون.
ولا كرامةَ في هذه النبوة إذ هي بإحضار صورة مرئيَّة متحرِّكَةٍ من عملِ الإنسانِ المنبّإ به فيُعرَض عليه ليراه جهرة كما في قوله ﴿عَلِمَتْ نفسٌ ما أحْضَرتْ﴾ التكوير، وقوله ﴿علِمتْ نفسٌ ما قدَّمتْ وأخَّرتْ﴾ الانفطار، ولا عِلمَ قبل تمكّنِ البصرِ من المعلوم كما في قوله ﴿يوم ينظر المرء ما قدَّمتْ يداه﴾ النبأ، وقوله ﴿كذلك يُرِيهم اللهُ أعمالَهم حسراتٍ عليهم﴾ البقرة، وقوله ﴿يوم تجد كل نفس ما عمِلتْ من خير مُحضرا وما عمِلتْ من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا﴾ عمران، والمعنى أنه محضر كذلك، وقوله ﴿ووجدوا ما عملوا حاضِرا ولا يظلم ربُّك أحدا﴾ الكهف.
وإن قوله ﴿علِمتْ نفسٌ ما قدَّمتْ وأخّرتْ﴾ الانفطار، لمن المثاني مع قوله ﴿ونَكتبُ ما قدّموا وآثارهم﴾ يس، وقوله ﴿ليحملوا أوزارَهم كاملة يوم القيامة ومن أوزارِ الذين يُضِلُّونهم بغير علم﴾ النحل، وقوله ﴿ولَيَحمِلُنّ أثقالَهم وأثقالا مع أثقالَهم﴾ العنكبوت، إذ الذي قدّموه هو ما عَمِلُوهُ في حياتهم والذي أخّروه هو الأثَر الذي تركوه خَلْفَهم ومنه الأشرطة المسموعة والمرئية فإن كان سيئا كان من أوزارِ الذين يُضِلُّونهم بغير عِلم ومن الأثقال مع أثقالَهم.
وإنما ذكرت الحديث عن النبوة الآخرة العامة لتقريب عِلْم اليقين الحاصل للنبيّ في الدنيا بما ينبئه به الله العليم الخبير.
 إن الذين كانوا يقولون عن النبيّ صلى الله عليه وعلى ءالِه وسلم ﴿هو أُذُنٌ﴾ التوبة، بمعنى أنه يَسمَعُ ويَقبَلُ ما يَتلقّى من أعذارِهم كالمُغفّل ـ وهو أبعدُ ما يكون الرجلُ عن الوحْيِ ـ هم المنافقون الذين يحسبون النبيّ صلى الله عليه وعلى ءالِه وسلم كذلك، لا يفقهون أن النبيَّ تُعرض عليه في يقظته ونومه أعمالُ أمَّتِه سواءٌ منهم مَن عاصروه والذين سيتأخرون عنه ويُعرَض عليه مما سيكون من الحوادث في أمته إلى آخرها وإلى قيام الساعة فما بعده.
إن الله نبّأ النبيَّ  صلى الله عليه وعلى ءالِه وسلم بما سيكون في أمَّته فعرضَه عليه عرضا ورأى رجال أمّته ونساءَها حسب أعمالهم ودرجاتهم على نسق ما ينبئ الله به كل إنسان في يوم الدين والحساب بما قدّم وأخّر من أعماله.
ولا تسلْ عن اليقين من العلم الحاصل للإنسان المنبّإِ في يوم الدين ولا للنبيِّ في الدنيا لأن اللهَ يُرِي النبيَّ ذلك العرضَ يقظَةً بأم عينيه في الدنيا كما في الأحاديث النبوية المتواترة ومنها:
ـ إني والله لأنظر إلى حوضي الآن [متفق عليه]
ـ هل ترون ما أرى إني أرى الفتن تقع خلال بيوتكم مواقع القطْر [متفق عليه]
ـ إنه عُرِض علي كل شيء تولجونه فعُرِضَتْ عليَّ الجنةُ حتى لو تناولت منها قطفا أخذته أو قال تناولت منها قطفا فقصُرَت يدي عنه وعُرِضتْ عليّ النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تُعَذَّبُ في هِرَّةٍ لها ربطتْها فلم تُطعِمْها ولم تدعْها تأكل من خشاش الأرض ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يَجُرُّ قَصَبه في النار [صحيح مسلم] كتاب الكسوف باب ما عرض على النبي في صلاة الكسوف من أمر
ـ عُرِضَتْ عليَّ الجنةُ والنار آنفا في عَرْضِ هذا الحائط فلم أر كالخير والشر [صحيح البخاري] كتاب مواقيت الصلاة باب وقت صلاة الظهر بعد الزوال
وأمّا النُّبُوَّةُ المقيدةُ بالعلم كما في قوله ﴿نبئوني بعلم إن كنتم صادقين﴾ الأنعام، فإنما هي بأحد أمرين:
1.    الإخبارُ والعَرضُ يقظة وهو ما اختص به النبيون.
2.    الإخبار بالكتاب الذي جاء به النبيون وهو العلم.
ويعني أن اللهَ دعا المشركين الذين حرّموا من ثمانية أزواج الأنعام ما لم يأذنْ به الله أن يُنبِّئوا النبيَّ الأمِّيَّ صلى الله عليه وعلى ءالِه وسلم أي يخبروه بعِلْمٍ أي يَعرِضوا عليه ساعةَ نَزَل عليهم لأول مرة من الله تحريمُ البحيرةِ والسَّائبة والوصيلة والحامِي، أو يأتوا بكتابٍ مِن عند الله نَزَلَ فيه تحريمُ ما زعموا، وذلكما الدليل القويُّ لو استطاعوه وهو الذي تتأتَّى به معارضةُ ما جاء به النبيون من العِلم.
فالنُّبُوَّةُ بعلم بمعنى العرضِ يقظة هي ما اختص به النبيُّون وهي أخصُّ من قوله ﴿سأنبِّئُك بتأويل ما لم تستطِع عليه صبرا﴾ الكهف، وقوله ﴿ ونَبِّئْهم أنّ الماءَ قِسمة بينهم﴾ القمر، أي أخبرهم ولم يسبقْ إليهم علم به.
إن التقدم العلمي اليوم لم يبلغْ بعضَ ما عُرِضَ على النبيِّ الأميّ صلى الله عليه وسلم يقظة من الحوادِثِ الماضِيَة الغابِرَةِ كما في قوله:
ـ ﴿ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم﴾ البقرة
ـ ﴿ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله﴾ البقرة
ـ ﴿فترى الذين في قلوبهم مرض يُسارعون فيهم﴾ المائدة
ـ ﴿فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ﴾ الحاقة
وسيقعُ مثلُه بعدَه في أمّتِه كما هي دلالة أنه مما عُرِضَ عليه ونُبِّئَ به في القرآن.
إن العرْضَ يقظةً في الدنيا للنبيّ هو الذي يقع مثلُه لكلِّ مكلَّفٍ من بنِي ءادَمَ حين يبلُغ منه الموتُ ساعَة مُفَارَقَتِه الحياةَ الدُّنيا إذ يُعرَضُ عليه مقعدُه في الجنة والنار.  
وهو الذي يقَعُ مثلُه لابنِ آدم إذا مات وأضحَى في البرزخِ إذ يُعرَضُ عليه قبل البَعثِ مقعدُه غداةً وعَشِيًّا كما في صحيح البخاري في كتاب الجنائز بابُ الميِّت يُعرَضُ عليه مَقعدُه بالغَداة والعشِيّ بسنده إلى ابن عمر أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال "إن أحدَكم إذا مات عُرض عليه مقعدُه بالغداة والعشيِّ إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدُك حتى يبعثك الله يوم القيامة".
وهو كذلك في صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق باب ما جاء في صفة الجنّة وأنها مخلوقة وفي مسند أحمد في الحديث وفي النسائي وموطإ مالك وابن حبان وغيرهم.
وكما في قوله ﴿النارُ يُعرَضُون عليها غُدُوًّا وعشِيًّا﴾ غافر، ومن المثاني معه قوله ﴿مما خطيئاتهم أغْرِقوا فأُدخِلوا نارا﴾ نوح،  للدلالة على عذاب القبر.          
والعرضَان هما في الكتاب المنزل كما في قوله ﴿كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لتروُنّ الجحيمَ ثم لتروُنَّها عيْنَ اليقين﴾ التكاثر، فقوله ﴿لتروُنَّ الجحيمَ﴾ مُفَسِّرٌ وعدَ الله ﴿كلا سوف تعلمون﴾ يعني عند الموت عرْضًا، وقوله ﴿ثم لتروُنَّها عيْنَ اليقين﴾ مُفسّر وعدَ الله ﴿ثم كلا سوف تعلمون﴾ يعني في يوم الدين، فالعرضَان عند الموت وفي يوم الدّين هما اللذان وقع بهما العلمُ ولا يخفى أن العلم في الأخيرِ منهما أكبر لقوله ﴿ثم لتروُنَّها عيْنَ اليقين﴾.
وجميع أهلِ الجنّة يُنَبِّئُهم الله فيَعرِضُ عليهم وهم على سُرُرِهم ما يشاءون كما في المثاني في قوله:
ـ ﴿إن الأبرار لفي نعيم على اَلأرائك ينظرون﴾ التطفيف                             
ـ ﴿فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك يَنظرون﴾ التطفيف
ـ ﴿قال هل أنتم مُطَّلِعون فاطَّلَعَ فرآه في سواءِ الجحيم﴾ الصافات
وأهل النار كذلك يُنَبَّأون كما في قوله ﴿كذلك يُرِيهِمُ اللهُ أعمالَهم حسراتٍ عليهم وما هم بخارجين من النار﴾ البقرة، أي تُعْرَضُ عليهم أعمالَهم السيِّئَةَ التي قدَّموها في الدنيا ودخلوا بها النار لِيزْدادوا حسرةً وقنوطا من الفرَج والرحمة.   
وإنما النبِيُّ هو الذي أوحَى الله إليه ونبَّأَه بالعَرْضِ عليه في يَقْظَتِه مما سيكون من الحوادث في الدنيا والآخرة لينبّئَ مُعاصريه وآخرين لما يلحقوا بهم من الأجيال اللاحقة.
والنبيون ثلاثة أصناف:
1.    مَن أُرْسِلوا بالنُّبُوّة وأُنْزِل عليهم الكتابُ للناس ابتداءً مثل موسى وعيسى ومحمّد فهم رسلُ الله بالبينات لِما في الكتاب الذي أنزل عليهم ابتداءً وبالبينات لما جاء به النبيون قبلَهم.
2.    ومنهم من أرسلوا بالنبوة وبالبينات لما في الكتاب الذي جاء به النبيون قبلهم وهم أنبياء بني إسرائيل بعدَ موسى.
3.    ومنهم النبيون في النبوة الأولى قبل التوراة آتاهم ربهم الكتاب أي علِموه تعلُما خارقا وعلَّمُوا أُمَمَهم منه بقدْر استعدادِهم للتَّلَقِّي.
وقد أهلك الله جميع الأمم المكذِّبَة وما بلغتْ مِعشارَ ما جاء به النبيُّون من العلم.
وإن الذي جاء به النبيُّون هو الكتاب الذي أنزل معهم جميعا وبيناته والنبوّة التي ستقع على الأجيال اللاحقة بعدَهم.
إن البينات لما في الكتاب هي العِلم وهي أعمُّ من النبوة، والنبوة أخصُّ منه أي من العِلم.
والنبوة: موعوداتٌ أُوحِيَتْ أو عُرِضَتْ على النبيِّين ولم يُظهِرِ اللهُ عليْها مِن الأمَّة أحَدًا قبلَهم، نبّأهم الله بها فجعلهم أنبياءَ يُنَبِّئون مُعاصِرِيهم بما وَعَد اللهُ به من الغيبِ ومما سيكون في الأجيال اللاحقة من الحوادثِ، وكانت أحاديث النبيِّ عن الغيب الموعود من النبُوّة التي مَنّ اللهُ على قومِ النبِيِّ فجَعلَها فيهم وقد يتوارثونها حديثا أو كتابا مكتوبا كتبوه بأيديهم، وإنَّ منها الحديثَ الصحيح "إنَّ مِما أدركَ الناسُ من النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنعْ ما شئتَ" يعني أن النبيّين قبلَ التوراةِ وقبلَ نوح قد قالوا "إذا لم تسْتحِ فاصْنَعْ ما شئتَ" للدلالة على أن سيكونُ في آخر الزمان عرايا من الحَيَاءِ يصنعون ما يشاءون من الفواحشِ والإثمِ والبغْيِ ولقد أصبحت تلك النبوة شهادة أدركَها الناسُ الذين عاصروا خاتم النبيّين صلى الله عليه وعلى وسلم وتحققَّتْ فيهم فما بالُكَ بما آل إليه الناسُ بعد أكثر من أربعة عشر قرنا.
وإن النبوة الثانية بعد الأولى هي التي ابتدئت بموسى وهارون بعد هلاك فرعون وتنزَّلَتْ مِن عندِ اللهِ الكتبُ الثلاثة بتفصيلِها إذ تضمنتِ التوراة الكتابَ المُنزّلَ وزادتْ عليْه نبوةَ موسى، وتضمن الإنجيلُ الكتابَ المنزّلَ وزاد عليه نبوَّةَ عيسى، وتضمن المصحفُ الذي بأيْدِينا الكتابَ المُنزَّلَ وزاد عليه القرآنَ أي نبوةَ خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعا ونبوّةَالنبيّين قَبْلَه وتِبْيَانُ ذلك وتفصيلُه هو القصد والله المستعان.
فالنبوّةُ أُوتِيَها النبيّون جميعا وأُوتِيَها قومُهم مِن بعدهم الذين تلقّوْا منهم وأُوتِيَها الأجيالُ اللاحقة بعدَهم، وكذلك دلالةُ إيتائِها ءَاباءَ الثمانية عشرَ المعدودين في سورة الأنعام وذريّاتِهم وإخوانِهم ولا يخفى أن ليس كلُّ آبائِهم وذريَّاتِهم وإخوانِهم أنبياءَ.
إن قوله ﴿ولقد آتينا بني إسرائيل الكتابَ والحكمَ والنبوّة وفضَّلْناهم على العالَمين وآتيناهم بيناتٍ مِن الأمر﴾ الجاثية، لمن المثاني مع قوله ﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤتِ أحدا من العالمين﴾ المائدة، ويعني حرف الجاثية أن بني إسرائيل هم أول أمَّة أوتِيَتْ كتابَ الله يتدارسونه ولَيَحْكُمَ بينهم وجعل فيهم أنبياءَ نبأوهم مِما سيكون ومضى النبيّون وبقيِتْ نبوّتُهم معلومة بعدَهم وآتاهم نِعَما ظاهرةً حُرِمت منها شعوبٌ عاصَرَتْهم كما هي دلالة التفضيل الذي يعني أن الذي فضَّلَه الله قد أعطاه ما حُرِمَ منه غيرُه، ومن النِّعَم التي فُضِّلوا بها على العالَمين تلكم الموصوفة في حرف المائدة أن جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا أي جعل فيهم ملوكا وهم طالوت وداوود وسليمان وآتاهم ما لم يؤتَه أحد من العالَمين ومنه البينات من الأمر وهي الفرقان الذي كان مع موسى وسائر أنبيائِهم.
ولا يعني حرف الجاثية أن كلَّ واحدٍ من بني إسرائيل كان نبيًّا وإنما يعني أن النبوّة والرسالة جعلتا فيهم كما هي دلالة قوله ﴿وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب﴾ الحديد، وقوله ﴿وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب﴾ العنكبوت، أي أن النبوة والكتاب جعلا في ذرية نوح وإبراهيم دون سائر بني آدم وكذلك جعل في بني إسرائيل ملوكٌ كداود وسليمان ولا يعني قوله ﴿وجعلكم ملوكا﴾ أن كلَّ واحد منهم كان ملكا.
إن بني إسرائيل منهم السامريُّ الدجالُ الأعورُ المُنْتَظَرُ، ومنهم الذين قتَلوا النبيّين ومنهم الذين حاولوا قتلَ عيسى ومنهم الذين قالوا يدُ الله مغلولةٌ ومنهم الذين قالوا إن الله فقير ـ سبحانه وتعالى ـ ووصفوا أنفسَهم بأنهم أغنياءُ ومنهم مَن لعنَه الله وغضِب عليه وعذَّبَهم بذُنوبِهم وجعل منهم القردةَ والخنازير ومنهم من عبَد الطاغوتَ ومنهم مَن قالوا عزيرُ ابنُ الله ـ سبحانه وتعالى ـ ومنهم مَن قالوا المسيح ابن الله ـ سبحانه وتعالى ـ فهم مِن شِرار الخَلق ولم يجعلهم اللهُ رسلا ولا أنبياء.
إن عيسى وهو في المهد قد قال ﴿إني عبدُ الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا﴾ مريم، وهو صريح في أنه كان من أُولِي العِلم يومَ قالَها وهو في المَهد إذ لو قال (إني عبدُ الله آتانِيَ الكتابَ والنبوّةَ) لانخرم المعنى لدلالة (آتانِيَ النبوَّةَ) على أنه يعلَمُ ما جاء به النبيُّون من قبلُ مِن الكتاب والنبوة بما سيكون من الحوادث وقد لا يكون نبيّا تماما كما قد استدرج النبوَّةَ بين جنبيه مَن حفِظ القرآنَ إذ قد حفظ ما نبّأ الله به جميعَ النبيِّين منذ آدم وإلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وعلى ءالِه وسلم إذ حوى القرآن جميع ذلك وليس مَن ح+فظ القرآن هو نبِيٌّ، وكان من عِلم عيسى وهو في المَهْدِ أن قال ﴿وجعلني نبيًّا﴾ أي أن اللهَ صيّره نبيًّا من النبيّين وعلى غير نسق ما قبله ﴿آتانِيَ الكتابَ﴾ ومن المثاني معه ﴿ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل﴾ عمران، وقوله ﴿وإذ علّمْتُك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل﴾ المائدة، أي جعله يعلم كل ذلك تعلما خارقا معجزا لا يملِكُ أحد من غير النبيّين مثلَه لنفسه.
إن قوله ﴿والرَّبَّانيُّون والأحبارُ بما استُحْفِظوا مِن كتاب الله المائدة، ليعنِي أن اللهَ قد وكل إليْهم أمانَةَ حفظ كتاب الله التوراةِ، وتعدّدَ الأنبياءُ في بني إسرائيل إذ كان الأحبارُ كما في قوله ﴿يُحَرِّفون الكَلِمَ عن مواضعه النساء والمائدة، فتعدّد الأنبياء فيهم ليقوموا مَقام حفظ التوراة يحكمون بها وهي غير محرفة ويُعلنون لهم ما تقع عليه نبوّة موسى في التوراة من الحوادث التي كانت غيبا يوم نزلت التوراة، ومنه بعثُ طالوت وداوود وسليمان ملوكا كما في قوله ﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين المائدة، وإنما وقع ذلك كلُّه بعد موسى ولا يخفى أن التوراة تقع نصوصُها على ما سيكون من الحوادث بعدها لقوله ﴿وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظةً وتفصيلا لكل شيء الأعراف، ومن المثاني معه قوله ﴿ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحْسَنَ وتفصيلا لكل شيء الأنعام، وكان كل نبيّ بعد موسى يحكم بالتوراة دونما تحريف ويعلن إيقاع التوراة على الحوادث.
أما القرآن المحفوظ من التحريف فقد أغنَى عن تعدُّد الأنبياء في هذه الأمّة وكان نبيُّها هو آخِرُ النبيين صلى الله عليه وعلى ءالِه وسلم من هذه الأمَّةِ كما في الأحزاب وبدليلين اثنين: أولهما: أن القرآن قد تضمَّن جميعَ نبوّة محمد، أي لن يأتِيَ بعدَ نزول القرآن من الغيبِ الذي وَقَع الخطاب بالإيمان به في القرآن إلا ما حواه القرآن تفصيلا، أما في الآخرة فجميع الحوادثِ مفصلةٌ في الكتاب المنزَّلِ عليه صلى الله عليه وعلى ءالِه وسلم.
وخلا القرآنُ مِن النبوة عن الجنة والنار وحوادث ما بعد الموتِ، وإنما نبّأ القرآن ببعض ما كان من القصص والحوادث الماضية إذ جميع النبوَّةِ في القرآن سيتكرر مثلُها في هذه الأمَّة قبل انقضاء الحياة الدنيا ودليله قوله:
ـ ﴿ولتعلمن نبأه بعد حين خاتمة سورة ص
ـ ﴿لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون الأنعام
ويعني أن جميع ما نبّأ الله به خاتم النبيين في القرآن سيكون يوما معلوما لكل الناس بعد حين، ولقد مضى من الحين حوالي ألفٌ وأربعمائة وأربعون عاما، وإنما يستقر النبأ إذا وافق الأجل الذي جعل الله له ولِيعلمَه الناسُ رأي العين.
وثانيهما: أن محمدا هو رسول الله بآية خارقة معجزة محفوظةٍ هي القرآن، وشهادة المسلم ـ وشرط الدخول في الإسلام ـ أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله تعني أن المسلم في كل مرَّةٍ يشهد على نفسه أنه حضر رسالة الله التي أرسل بها محمدا وهي القرآن وما غاب عنها بل بلَغَتْه وآمَن بما فيها من الغيب والنبوة، فالشهادة بأن محمدا رسول الله هي إقرار وإيمان بالآية المعجزة التي أُرْسِل بها وهي القرآن.
ويعني قوله ﴿والله يشهد إنك لرسوله سورة المنافقين، أن الله سيُظهِر للعالم كلِّه في الدنيا أنه رسول الله بهذه الآية المعجزة إذ ما شهِد الله به لن يبقى سِرًّا مجهولا أو مغمورا بل سًيشاهِده العالمون جميعا وذلك مدلول قوله ﴿قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم الأنعام، ويعني أن كلَّ غيب في القرآن سيصبح شهادةً معلوما لكل الناس لِيَعْلَمَ الناسُ أن محمدا قد أرسل بالقرآن من قبلُ.
إن درجةَ النبيِّ في الدنيا هي أكبرُ درجةٍ بلغَها بشرٌ وأكبرُ نِعمة أنعم الله بها على بشرٍ كما في قوله:
ـ ﴿ولا يأمرُكم أن تتّخذوا الملائكةَ والنبيّين أربابا﴾ عمران
ـ ﴿ولو كانوا يؤمنون بالله والنبيِّ وما أنزل إليه ما اتّخذوهم أولياء﴾ المائدة
ـ ﴿النبيُّ أوْلَى بالمؤمنين مِن أنفسهم وأزواجُه أمهاتهم﴾ الأحزاب
ويعني حرف آل عمران أن الملائكةَ والنبيّين هم أشرفُ المخلوقات وإذ لا يجوزُ اتِّخَاذُهم أربابا من دون الله، فمَن دونَهم من المخلوقاتِ أحرَى أن لا يُتَّخَذَ أربابا من دون الله.
ويعني حرف المائدة أن التشريع المنزل من عند الله إنما هو ما جاء به النبيُّ، فجميعُ الناس تبَعٌ له.
ودلالة حرف الأحزاب ظاهرة.
إن قوله ﴿أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا﴾ مريم، وقوله ﴿ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا﴾ النساء، يعني أنه جعل النبيّين على رأس المُنْعَم عليهم.
وقوله ﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء﴾ المائدة، يعني أنه جعلها على رأس النِّعَم قبل نعمة الملك والآيات الخارقة للطمأنينة والكرامة مع داوود وسليمان وعيسى.
وإذا وقع الوصف بالنبوة انتفت زيادتها بما هو أقل منها في تفصيل الكتاب المنزل وهو الوصف بالرسالة كما في قوله ﴿ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا﴾ مريم، وقول عيسى ﴿إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا﴾ مريم، ورسالة هارون وعيسى من المعلوم من القرآن.
وقد آتى الله جميع النبيين الكتاب والحكمة كما في قوله ﴿وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لَما آتيْتُكم من كتاب وحكمة﴾ عمران.
إن إسلامَ النبيِّين هو تحقيقُهم عبوديتَهم لله في جميع أحوالهم في أنفسهم وفي ما يملكون فهم في الدنيا كإسلام من في السماوات والأرض يوم القيامة كما في قوله ﴿إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا مريم، أي مسلما لله خاضعا ولا كرامة بالإسلام في يوم القيامة وإنما في الدنيا كإسلام الملائكة والنبيين فيها.
وإذا ذكَر الله في القرآن عبودية عبد فإنما لإظهار نبوّته التي أسلم بها لله ومنهم أيوب وزكريَّا وداوودُ وغبراهيمُ وإسحاقُ ويعقوبُ ونوحٌ ومعلِّمُ موسَى ومحمد بن عبد الله الهاشِمِي صلى الله عليه وعلى ءالِه وسلم.
إن أشدَّ الناس بلاءً هم الأنبياءُ كما في الحديث، وقد قُتِل بعضُهم بغير الحق وبغير حق ويعني الأول أن قتْلَهم لا يوافق شرع الله وهو الحق ويعني الثاني أن النبيين الذين قُتلوا إنما قُتلوا بغير حق للناس عليهم أي أنهم لم يَظلموا أحدا ولم يكسبوا إثما يَجعل لقاتِليهم حقا أيَّ حق ولو ضعيفا يُبِيحُ له قتلَهم ولو بتأويل، فلا تسلْ عن سفاهةِ الذين قتلوا النبيّين الرحمةِ لمعاصريهم إذ يأمنون العذابَ في الدنيا من الله ما بقِيَ النبيّ حيًّا بين أظهُرهم.
وإن النبيّين قد قُتِل بعضُهم ولم يهلك بعذاب جامع مستأصل الذين كذّبوهم وقتلوهم كما في قوله ﴿وكم أرسلنا من نبيٍّ في الأولين وما يأتيهم من نبيٍّ إلا كانوا به يستهزئون فأهلكنا أشدَّ منهم بطشا ومضى مثلُ الأولين﴾ الزخرف، ومن المثاني معه قوله ﴿وما أرسلنا في قرية من نبيٍّ إلا أخذنا أهلَها بالبأساء والضّرّاءِ لعلهم يضّرعون ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مسّ آباءنا الضّرّاءُ والسّرّاءُ فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون﴾ الأعراف، ويعني حرف الزخرف أن الذين أهلكهم ربُّنا كانوا خلَفا أشدَّ بطشا من آبائهم الذين استهزأوا بالنبيّين وإلا لكان السياق فأهلكناهم بدل ﴿فأهلكنا أشد منهم بطشا﴾ ويعني حرف الأعراف أن الذين أُخذوا بغتة وهم لا يشعرون كانوا خلَفا أكثر عددا وأكثر سرّاءَ وحسنة من آبائهم الذين كذبوا النبيّين من قبل.
إن النبوة قد خُتِمَتْ أي انقضتْ ومَضَتْ بمحمد ابن عبد الله الهاشمي النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وعلى ءالِه وسلم كما هو صريح القرآن إذ جعل النبوة مما مَضَى وانقضى وخُتِم فلا نبيَّ بعده أبدا وكما في قوله ﴿وما أوتيُ النبيون من ربهم﴾ البقرة، وفي المثاني معه قوله ﴿وما أوتيَ موسى وعيسى والنبيُّون من ربهم﴾ عمران، مما يعني أن إيتاء النبيين من ربهم قد مضَى وانقضى وإلا لبَيَّنَ اللهُ للناس ما سيؤتَى نبِيٌّ أو نبيُّون بصيغة الاستقبال، وكما في قوله ﴿وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة﴾ آل عمران، وفي المثاني معه ﴿وإذ أخذنا من النبيين ميثاقَهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا﴾ الأحزاب، فأخذ الميثاق من جميعِهم ومنهم محمدٌ صلى الله عليه وعلى ءالِه وسلم كما في حرف الأحزاب متقدِّمٌ ويعني حرفُ آلِ عمران أن إيتاءَهم الكتابَ والحكمة هو مما مضى وانقضى ودخولُ محمد صلى الله عليه وسلم في النبيّين الذين أخذ الله عليهم الميثاق وآتاهم الكتاب والحكمة مُؤَذِّنٌ باقتراب وفاتِه وهو كذلك إذ نزَل هذا القسطُ من سورة آل عمران في السنة العاشرة من الهجرة بمناسبة قدوم وفد نصارى نجران الذين دعاهم القرآن إلى المباهلة مع محمد صلى الله عليه وسلم في شأن ابنِ مريم ولا يخفى أن أوّلَ آل عمران نزولا وهو ما تضمنتْ من خطاب أهل الكتاب وإيجاب الحج إنما نزل متأخرا في السنة العاشرة أي بعد نزول آخر السورة وهو ما تضمنت من غزوة أحد بحوالي ست سنين.
وكما في المثانِي:
ـ ﴿كان الناسُ أمّةً واحدة فبعث الله النبيين﴾ البقرة
﴿أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا﴾ مريم
ـ ﴿فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين﴾ النساء
﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾ الفاتحة
ـ ﴿ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم﴾ الأنعام

وجميعه بصيغ الماضي المُنقَضِي، ولم يتضمَّنْ تفصيلُ الكتاب المنزل منه شيئا بصيغ الاستقبال.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top