تجديد أصول
التفسير
الباب
الأول: الكليات
علم أصول
التفسير يدور حول كليات عامة في الكتاب المنزل تطرد ولا تنخرم ولأجلها أنشأتُ كتب
"معجم معاني كلمات القرآن وحروفه ومضمراته" في أربعة أجزاء، وهذا نماذج قليلة
مختصرة منها:
ـ
نفيُ الظلم عن الله في الكتاب المنزل
إن من تفصيل
الكتاب المنزل أن نفيَ الظلم عن الله الواحد القهَّارِ يعني أنه قد عذّبَ الذين ظلموا
أنفسَهم عذابا استأصلهم في الدنيا فلم يُبْقِ منهم باقية أو عذّبهم في الآخرة فلم
يرحمْهم وكذلك دلالة المثاني:
﴿ذلك مِن أنباءِ القرى نقُصُّه عليك
منها قائمٌ وحصيدٌ وما ظلمناهم ولكن ظَلَموا أنفُسَهم فما أغنتْ عنهم ءالِهَتُهم
التي يدعونَ من دون الله من شيءٍ لمَّا جاء ربِّكَ وما زادودوهم غيرَ تتبيبٍ وكذلك
أَخْذُ ربِّكَ إذا أخذً القرى وهي ظالمةٌ إن أخْذَه أليمٌ شديدٌ﴾ هود
﴿هل ينظُرون إلا أن تأتيَهم الملائكَةُ
أو يأتِيَ أمْرُ ربِّك كذلك فَعَلَ الذين مِن قبلِهم وما ظلَمَهم الله ولكن
أنفسَهُم يظلِمون﴾ النحل
﴿إن الذين كفروا لن تُغْنيَ عنهم
أموالُهم ولا أولادُهم مِن الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون مثَلُ ما
يُنفِقون في هذه الحياة الدنيا كمَثَلِ رِيحٍ فيها صِرٌّ أصابتْ حرْثَ قومٍ ظلموا
أنفُسَهم فأهلكته وما ظلَمَهم اللهُ ولكن أنفُسَهم يظلمون﴾ آل عمران
﴿إن المجرِمين في عذاب جهنمَ خالِدون
لا يُفَتَّرُ عنهم وهم فيه مُبْلِسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالِمين﴾ الزخرف
وأما قوله ﴿وعلى الذين هادوا حرَّمْنا
ما قصَصْنا عليك مِن قَبْلُ وما ظلَمْناهم ولكن كانوا أنفُسَهم يظلِمون﴾ النحل، فيعني
أن من العذاب الحرمان من شحوم البقر والغنم التي حُرِّمت على اليهود كما سورة
الأنعام ووقع وصْفُها بالطيِّبات في سورة النساء، ووقع في سورة آل عمران أن عيسى
ابن مريم أحلَّ لهم بعضَ الذي حُرِّمَ عليهم.
ـ
كلية دلالة بالحق، والحق في غير الأسماء الحسنى
الحقُّ: إن لِلحقِّ بصيغة الوصف في تفصيل
الكتاب وبيان القرآن ـ خارج سياق الأسماء الحسنى ـ أكثر من دلالة ومعنى كالتفصيل
التالي:
أولا: الكتاب
المنزل والوحي كما في قوله:
ـ ﴿لقد جاءك
الحق من ربك فلا تكونن من الممترين﴾ يونس
ـ ﴿ كما أخرجك
ربك من بيتك بالحق﴾ الأنفال، أي بالوحي إليك أن اخرج بمن اتبعك منهم إلى عير قريش
في بدر فلتصيبنّ إحدى الطائفتين: العير أو رجال قريش المقاتلين.
وأما قوله ﴿قل
هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع
أمّن لا يهدّي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون﴾ يونس
فلقد تكلف
المفسرون وأهل البلاغة والبيان في تفسيره وإنما يعني وصف الرسل بأنهم هم الذين
يهدون إلى الحق ـ الذي هو الكتاب المنزل وما أرسلوا به كذلك من البينات والآيات
الخارقة للتخويف والقضاء ـ وأنهم أي الرسل والنبيون أحق أن يُــــتّبَعوا، أما
الله فهو الذي يهدي الرسل والنبيين للحق قبل أن يكلفهم بهداية الناس إلى الحق
وهكذا لم يكن في تفصيل الكتاب تكليف الناس باتباع الذي يهدي للحق في هـذا الحرف إذ
هو الله الكبير المتعالي، وإنما المقارنة بين الرسل والنبيين من جهة وبين الكهنة
وسدنة الباطل، فافقه واعلم.
ثانيا: الآيات
الخارقة للتخويف والقضاء مع الرسل بها كما في قوله:
ـ ﴿ثم بعثنا من
بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم
الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا
ولا يفلح الساحرون﴾ يونس، ووقعت دلالة الحق على الآيات الخارقة كاليد البيضاء من
غير سوء والعصا التي أرسل بها موسى إلى فرعون وملئه فزعموها سحرا، ولم تنزل
التوراة إلا بعد هلاك فرعون.
وكذلك دلالة
المثاني في قوله:
ـ ﴿وقل جاء الحق
وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا﴾ الإسراء
ـ ﴿بل نقذف
بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق﴾ الأنبياء
ـ ﴿قل إن ربي
يقذف بالحق علام الغيوم قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد﴾ سبأ
ـ ﴿وليعلم الذين
أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين
آمنوا على صراط مستقيم﴾ الحج
ثالثا: الجِدّ
وما كان في مقابلة العبث والهزل واللعب كما في قوله:
ـ ﴿وكذّب به قومُك
وهو الحق قل لست عليكم بوكيل﴾ الأنعام
ـ ﴿وهو الذي خلق
السماوات والأرض بالحقِّ ويوم يقول كن فيكون قوله الحقُّ وله الملك يوم ينفخ في
الصور﴾ الأنعام
ـ ﴿وما خلقنا
السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحقِّ وإن الساعة لآتيةٌ﴾ الحجر
ـ ﴿ما خلقنا
السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحقِّ وأجل مسمًّى والذين كفروا عما أنذروا
معرضون﴾ الأحقاف
ـ ﴿وما خلقنا
السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحقِّ ولكن أكثرهم لا يعلمون
إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين﴾ الدخان
ـ ﴿وما خلقنا
السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لَـهْوًا لاتخذناه من لدنا إن
كنا فاعلين﴾ الأنبياء
ويعني أن الله
خلَق السماوات والأرض وما بينهما لأجل أن يُعبَدَ فيهما فيُسبّحه المسبّحون كثيرا
ويذكرُه الذاكرون كثيرا، وورد نفْيُ اللعب وأثبت بدَلهَ خلقُهما بالحقّ في حرف
الدخان، وكذا في قوله ﴿قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين﴾ الأنبياء، من
تساؤُلِ قوم إبراهيم عما جاءهم به إبراهيم من توحيد الله ونبذ الأصنام أهو من
الجِدِّ والصدق أم هو من اللعب والهزل والعبث؟
وإن من تفصيل
الكتاب اقتران قولِه ﴿بالحق﴾ أو نفي اللعب بخلْق السماوات والأرض في سياق التذكير
بالبعث والحساب أو التذكير ببأس الله وعذابه في الدنيا، واطَّرَدَ الاستقراء في
حرف الأنبياء إذ كان قبله قوله ﴿ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما
آخرين فلما أحسُّوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه
ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت دعواهم حتى جعلناهم
حصيدا خامدين ﴾ الأنبياء.
وإن من تفصيل
الكتاب عدم اقتران قوله ﴿بالحق﴾ بخلق السماوات والأرض في سياق النعم كما في قوله:
ـ ﴿الله الذي
خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم
الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر
لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن
الإنسان لظلوم كفار﴾ إبراهيم
ـ ﴿أمّن خلق
السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن
تنبتوا شجرها أإلـه مع الله بل هم قوم يعدلون أمّن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها
أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإلـه مع الله قليلا ما تذكرون﴾
النمل
وأما قوله:
ـ ﴿تلك آيات
الله نتلوها عليك بالحق﴾ البقرة وآل عمران والجاثية
ـ ﴿نتلو عليك من
نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون﴾ القصص
ـ ﴿نحن نقص عليك
نبأهم بالحق﴾ الكهف
فيعني أن ليس
شيء من تلك القصص وتلك الحوادث من التسلية والعبث بل ذكّر بها في القرآن ليَهتدِيَ
بالقرآن العجب مَن تدبرَه إلى الرشد وإلى التي هي أقوم.
رابعا: الصدق
وموافقة العدل وما كان في مقابلة الباطل والكذب والظلم كما في قوله:
ـ ﴿فأخذتهم
الصيحة بالحقّ فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين﴾ قد أفلح
ـ ﴿وأتيناك
بالحق وإنا لصادقون﴾ الحجر
وهو ذكر من
الأولين قد مضى وانقضى في شأن ثمود وقوم لوط.
وأما المثاني
معه وَعْدًا في الآخِرِين قوله:
ـ ﴿والله يقضي
بالحق﴾ غافر
ـ ﴿والله يقول
الحق وهو يهدي السبيل﴾ الأحزاب
ـ ﴿قالوا ما ذا
قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير﴾ سبأ
فهو من الوعد
الحق المنتظر.
وأما قوله:
ـ ﴿وقُضِيَ
بينهم بالحق وهم لا يظلمون﴾ الزمر
ـ ﴿والوزن يومئذ
الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم
بما كانوا بآياتنا يظلمون﴾ الأعراف
فهو من الغيب
المنتظر بعد النفخ في الصور ليوم البعث.
وأما قوله:
ـ ﴿ربنا افتح
بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين﴾ الأعراف
ـ ﴿قل رب احكم
بالحق وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون﴾ آخر سورة الأنبياء
فيعني في حرف
الأعراف الإنصافَ من المستفتِحين ومُـخَالِفيهم، أي هي سنَّةٌ سَنَّها خطيبُ الرسل
شعيبٌ ويضيق بهذا الإنصافِ المتعصبون الذين لا يتصورون غيرَ موافقتِهم الحقّ،
وتضمن حرف آخر سورة الأنبياء في خطاب خاتم النبيين صلى الله عليه وعلى ءالِه وسلم
استفتاحا كاستفتاح شعيب بالـحُكم بالحق بين الفريقين، ويهتدي بالقرآن إلى الإنصاف
بالابتعاد عن تزكية النفس وما يتْبَعُه من التطرُّفِ كما في قوله تعالى ﴿وإنا أو
إياكم لعلى هُدًى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نُسألُ عما تعملون﴾
سبأ.
خامسا: النصيب
والجزء المستحق كما في قوله:
ـ ﴿والذين في
أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم﴾ المعارج
ـ ﴿قالوا لقد
علمتَ ما لنا في بناتك من حق﴾ هود
ـ ﴿وإن يكن لهم
الحقُّ يأتوا إليه مذعنين﴾ النور
سادسا: البرهان
أي الدليل الشرعي الواضح كما في قوله:
ـ ﴿ولا تقتلوا
النفس التي حرّم الله إلا بالحق﴾ الأنعام والإسراء
ـ ﴿ويقتلون
النبيين بغير الحق﴾ البقرة
ـ ﴿ويقتلون
النبيين بغير حق﴾ آل عمران
ـ ﴿واستكبر هو
وجنوده في الأرض بغير الحق﴾ القصص
ـ ﴿سأصرف عن
آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق﴾ الأعراف
ـ ﴿اليوم تجزون
عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون﴾ الأحقاف
ويعني حرف
الأنعام والإسراء النهيَ عن قتل النفس بغير دليل شرعي يأذن بقتلها وكان الصحابة
الكرام يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في قتلِ منافقين معلومي نِفاق وكفارٍ
معلومي كفرٍ ولم يأذن لهم ولو قَتَلوهم دون إذنه لما كان قتلُهم شرعيا ولكان قتلا
في غير سبيل الله.
ويعني حرف
البقرة أن الذين قَـتَـلوا النبيين وهم اليهود إنما قتلوهم بغير الحق وهو الدليل
الشرعي وينحصر الدليل الشرعي في إحدى مسألتين: أولاهما: أن يتضمن الكتاب المنزل من
عند الله كالتوراة والإنجيل والقرآن تكليفا بذلك، وثانيهما: أن يأمر به نبي من
النبيين أو رسول من الرسل الكرام.
ويعني حرفا آل
عمران أن الذين قتلوا النبيين إنما قتلوهم ظلما وعدوانا وبغير حجة وبرهان ولو
ضعيفا وأن النبيين المقتولين لم يرتكبوا إثما ولا جرما يبيح قتلَهم.
ويعني أحرف
القصص والأعراف والأحقاف أن الذين يتكبرون في الأرض بغير برهان شرعي يُعاقبُهم
اللهُ بصرفِ قلوبِهم عن اتباع الحق والهدى مع الرسل به إذ لا يجتمع في قلب واحد
كِبْر وإيمان بالغيب أبدا.
سابعا : تمام
الوعد بنفاذه كما في قوله:
ـ ﴿ألا إن وعدَ
الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ يونس
ـ ﴿وإذا قيل إن
وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن
بمستيقنين﴾ الجاثية
ـ ﴿والذي قال
لوالديْهِ أفٍّ لكما أتعدانني أن أُخْرَجَ وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان
الله ويلك آمِنْ إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين﴾ الأحقاف
ـ ﴿وما يدريك
لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون
أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد﴾ الشورى
ـ ﴿حتى إذا فتحت
يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين
كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين﴾ الأنبياء
ـ ﴿ذلك اليوم
الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابا﴾ النبأ
ويعني وصفُ
الوعد بأنه حق أن سيتم نفاذه يوم الميعاد وهو الأجل الذي جعل الله له فيعرفه الذين
قرأوا القرآن بالقرآن ولا يلتبس عليهم، ولكأنما ينطق الوعد في القرآن يوم يقع
نفاذه بأن الكتاب المنزل حقّ وأن وعد الله على لسان رسله وأنبيائه حق فهنيئا للذين
شهدوا حياة النبيّ وبشرهم بالجنة كالعشرة المبشرين وأهل البيعتين وأهل بدر ...
وأما قوله ﴿ويوم
يقولُ كنْ فيكونُ قولُه الحقُّ﴾ الأنعام، فذلك في يوم موعود سيصبح شهادة في الدنيا
وبينته في مادة القضاء.
ثامنا: تحقق
الغيب أي ظهوره ظهورا مطابقا لما تقدم من الوصف يوم كان غيبا كما في قوله:
ـ ﴿وقال يا أبت
هذا تأويل رؤياي من قبلُ قد جعلها ربي حقا﴾ يوسف
ـ ﴿لقد صدق الله
رسوله الرؤيا بالحق﴾ الفتح
ـ ﴿كيف يهدي
الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق﴾ آل عمران، وهم أهل الكتاب الذين
آمنوا بالتوراة أو الإنجيل آمنوا بما فيها من الغيب وشهدوا أي حضروا بعثَ الرسول
قد تحقَّقَ في زمنهم فهؤلاء استوجبوا أن لا يهديهم الله.
ـ ﴿ويوم يُعرض
الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم
تكفرون﴾ الأحقاف
ودلالتُه ظاهرةٌ
على مطابقة الحوادث يوم تصبح شهادة لما تقدم من وصفِها أو النبوة بها يوم كانت
غيبا.
وكان يوم
القيامة هو اليوم الحقُّ لمطابقته الموصوفَ في الكتاب المنزل من قبلُ، ويعلم
المجرمون يومئذ أنه اليوم الحق وأن النار حق رغم أنهم يحشرون يوم القيامة عُمْيا
لا يبصرون شيئا ورغم أنهم لا يُسْألون عن ذنوبهم أي لا يكلمهم الله ولا يحاسبهم
ولا ينظر إليهم ثم هم المحجوبون عن ربِّـــهم إذ سبق منهم التكذيب بآيات ربهم
الخارقة للتخويف والقضاء مع الرسل بها في الدنيا.
ـ
كلية كاف الخطاب
في كل حرف من
الحروف في الكتاب المنزل أصلٌ من أصول التفسير، وكذلك كاف الخطاب الذي خوطِبَ به
النبي الأمِّيُّ صلى الله عليه وعلى ءاله وسلم، لتثبيتِ فؤادِه بالقرآن ثم بالنصر
والعاقبة كما نصَر مَن جاء قَبلَهُ من الرسل إذ لا تبديل لسَّنَّة الله الواحد
القهار، وكذلك دلالة المثاني:
﴿قل نَزَّلَه رُوحُ
القُدُسِ مِن ربِّكَ بالحقِّ ليُثَبِّتَ الذين ءامَنوا وهُدًى وبُشْرَى للمسلمين﴾
النحل
﴿قُلْ مَن كان
عَدُوًّا لجِبْرِيلَ فإنه نَزَّلَه على قَلْبِكَ بإذنِ الله مُصَدِّقًا لما بين
يَدَيْهِ وهُدًى وبُشْرَى للمؤمنين﴾ البقرة
ومنه للتنبيه
إلى سنَّة الله في نصر مَن قَبْلَه من المرسلين:
﴿تالله لقد
أرسلنا إلى أمم من قبلكَ فزيَّن لهم الشيطان أعمالهم فهو ولِيُّهم اليوم ولهم عذاب
أليم﴾ النحل
﴿ولقد أرسلنا
رسلا مِن قبلكَ منهم مَن قَصَصْنا عليكَ ومنهم مَن لم نَقْصُصْ عليكَ وما كان
لرسولٍ أن يأتِيَ بآيَةٍ إلا بإذنِ الله فإذا جاء أمْرُ الله قُضِيَ بالحقِّ
وخسِرَ المبطلون﴾ غافر
﴿ولقد أرسلنا مِن
قبلكَ رسلا إلى قومِهم فجاءوهم بالبيِّنَات فانتقمْنا مِن الذين أجْرَموا وكان
حقًّا علينا نَصْرُ المؤمنين﴾ الروم
﴿ولقد أرسلنا
إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا
تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به
فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون
فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين
﴿وكذلك أخْذُ ربِّكَ
إذا أخَذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليمٌ شديدٌ﴾ هود
﴿ ألم تر كيف فَعَل
ربُّكَ بِعادٍ إرمَ ذاتِ العِمادِ التي لم يُخلَقْ مِثْلُها في البلادِ وثمودَ
الذين جابُوا الصخْرَ بالوادِ وفرعونَ ذِي الأوتادِ الذين طَغَوْا في البلادِ
فأكْثَرُوا فيها الفسادَ فصبَّ عليهم ربُّكَ سوطَ عذابٍ إن ربَّكَ لبِالمرصادِ﴾ الفجر
﴿ألم تر كيف فعَل
ربُّكَ بأصحاب الفيل ألم يَجْعلْ كَيْدَهم فِي تضليلٍ﴾ الفيل
ومنه في خطابه
وعدًا على الله أن ينصُرَه على المكذِّبين في الدنيا:
﴿قل رب إما تُرِيَنِّي
ما يوعدون ربِّ فلا تجْعلنِي في القومِ الظالمين وإنا على أن نُرِيَكَ ما نَعِدُهم
لقادرون﴾ قد أفلح
﴿فإما نَذْهَبَنَّ
بكَ فإنا منهم منتقمون أو نُرِيَنَّكَ الذي وَعدْناهم فإنا عليهم مقتدرون﴾ الزخرف
﴿فاصبر إن وعدَ الله حقٌّ فإما نُرِيَـنَّك بعضَ
الذي نعِدُهم أو نتوفَّـيَنَّكَ فإلينا يرجعون﴾ غافر
﴿وإن ما نُرِيَـنَّك بعضَ الذي نعِدُهم أو نتوفَّـيَنَّكَ
فإنما عليكَ البلاغ وعلينا الحساب﴾ الرعد
﴿وإما نُرِيَـنَّك بعضَ الذي نعِدُهم أو نتوفَّـيَنَّكَ
فإلينا مرجعهم﴾ يونس
﴿وما جعلنا
الرؤيا التي أريناكَ إلا فتنة للناس﴾ الإسراء
﴿هل ينظرون إلا
أن تأتيَهم الملائكة أو يأتيَ أمْر ربِّكَ كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله
ولـكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عمِلوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون﴾
النحل
﴿وما يعلم جنود
ربِّكَ إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء
منكم أن يتقدم أو يتأخر﴾ المدثر
﴿إنا كفيناكَ
المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلـها آخر فسوف يعلمون﴾ الحجر 95
﴿وإن تولوا
فإنما هم في شقاق فسيكفيكَهم الله وهو السميع العليم﴾ البقرة
﴿ويستعجلونكَ
بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون﴾ العنكبوت
﴿ولئن جاء نصرٌ من ربِّكَ ليقولُنَّ إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم
بما في صدور العالمين﴾ العنكبوت
ـ
الإسلام
لقد عرف لسان العرب للسين واللام والميم معاني ترك النزاع والخصام
للدلالة على إخلاص الخضوع لمن يقع له الإسلام أو الاستسلام، وعرفت العرب من قبل
لدغ الحية بالسِّلْم بكسر اللام لاستسلام اللديغ لما يفعله به السم وقالوا: أُسلِم
الرجلُ بتجهيل الفعل إذا لدغته الحية، واضطر من لا يجد ما يقتات به إلى السَّلَم
بتحريك اللام بالفتح لاستسلامه أمام من يسلفه من القوت أو المال، ودُبِغَتِ الجلودُ
بورق السلم وهو شجر لا حلاوة فيه تكفي مرارتُه لدبغ الجلود، وعُرِف الصُّلْحُ بالسِّلْم
بكسر السين وفتحها لتعهُّدِ المتنازعين بالكف عن أسباب الخصومة والتنازع، ووقع
استلام ما كان ممتنعا من قبل، وكما عرفت الدلو ذات عروة واحدة بالسلْم بإسكان
اللام لخضوعها لمَسارها دون أن تتنازعها عُرًى متعددة متفرقة، وقد ضرب الله مثلا
في سورة الزمر للمسلم الخاضع لربه ولا سلطان لغير الله عليه برجل سلَمٍ لرجل
وللمشرك برجل فيه شركاء متشاكسون متنازعون توجيهه وتكليفه.
وشكر الله لإبراهيم قلبه السليم لخلوه من الكبر ومن سلطان الشيطان
والهوى والنفس عليه أي هو قلب العبد المستسلم ولن ينتفع بماله وبنيه يوم البعث إلا
ذو قلب سليم.
ولن ينغلق مدلول كلمة الإسلام في الكتاب المنزل الذي تضمن تفصيل حال
المشركين يوم الحساب ﴿ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون﴾ الصافات، ووصف حال
مَن في السماوات ومَن في الأرض يوم البعث ﴿إن كل من السماوات والأرض إلا آتي
الرحمان عبدا﴾ فذلكم الاستسلام وتلكم العبودية لله الواحد القهار هي الإسلامُ لله
ربِّ العالَمين.
إن قوله تعالى ﴿ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد
اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب
العالمين ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا
تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ البقرة، ليعني أن ملة إبراهيم هي الإسلام لرب العالمين،
فذلكم إسلام الخليل الذي ابتلاه ربُّه بكلمات فأتمَّهن ووفـّى، ويوم أمره بذَبح
ابنه إسماعيل أسلم الأبُ والابنُ كلاهما كما في قوله ﴿فلما أسلما وتلَّه للجبين﴾
الصافات، أي جعل جَبينه ووجهَه مما يلي التل وهو ما لَاَن من الأرض ليقع الذبح من
القفا ولا يتطاير الدم على الأبِ المبتلى وقد وعد الابنُ أباه أن يكون من الصابرين
على إنفاذ أمر الله وشرعه في قوله ﴿يا أبت افعلْ ما تؤمرُ ستجدني إن شاء الله من
الصابرين﴾ الصافات، وأنجز النبي إسماعيل وعده كما في المثاني معه في قوله ﴿واذكر
في الكتاب إسماعيلَ إنه كان صادق الوعد﴾ مريم، والله عالم الغيب وصف هذا النبي
الصابر الصادق الوعد بالحلم قبل أن يولد كما في قوله ﴿فبشرناه بغلام حليم﴾
الصافات.
واتبع الرسل والنبيون بعده ملة إبراهيم بإسلامهم لله رب العالمين،
وأمر الله رسوله النبي الأمي صلى الله عليه وعلى ءاله وسلم باتّباع ملة إبراهيم
كما في قوله ﴿ثم أوحينا إليك أن اتّبِعْ ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين﴾
النحل، وكما في قوله ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين﴾ النمل.
إن
إسلام النبيين هو تحقيقُهم عبوديَّتَهم لله في جميع أحوالهم في أنفسهم وما يملكون،
فهم في الدنيا كإسلام من في السماوات والأرض يوم القيامة لله كما في قوله ﴿إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي
الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدّهم عَدّا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا﴾ مريم، أي مسلما خاضعا، ولا كرامة
بالإسلام في يوم القيامة، وإنما في الدنيا موطنِ التكليف والخطاب والاختبار كإسلام
الملائكة والنبيين فيها.
ويعني
وصفُ العبد بعبوديته في القرآن إظهارَ نبوته التي أسلم بها لله، وذكّر الله في
القرآن بعبودية كل من نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وداوود وأيوب وزكريا وعيسى ومحمد
ومعلّم موسى.
ولا ينغلق وصف النبيين الذين يحكمون بالتوراة بالإسلام في قوله ﴿إنا
أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا﴾ المائدة، لدلالته
على أن رسل الله ـ جميعا ـ لا يحيفون في حكمهم ولا يظلمون بسبب إسلامهم لله رب
العالمين.
ـ
الإيمان
ءَامَنَ: ءامَن بالمد في تفصيل الكتاب المنزل وردت
في الكتاب المنزل معدّاةً باللام وبالباء، وتعني التعدية باللام التصديق من
المعاصر كما آمَن لوط لإبراهيم، وآمن لموسى ذريةٌ من قومه على خوْف من بطش فرعون
فكتموا إيمانهم وكما استنكف أكابرُ قوم نوح أن يؤمنوا له وقد تبعه من يعدُّونهم من
الأرذلين، وتراءى الأسباطُ لأبيهم كالصادقين لِيُؤمنَ لهم ولا يخفى أن لوطا قد
عاصر إبراهيم وأن ذرية من بني إسرائيل قد عاصروا موسى وأن قوم نوح قد عاصروا نوحا
وأن بني يعقوب إخوة يوسف قد عاصروا أباهم.
وأما الإيمان المعدى بالباء فيقع على الغيب المنتظر الذي تنزلَ
الخطاب من عند الله بالإيمان به قبل أن
يصبح شهادة في الدنيا أو في اليوم الآخر، وكذلك مدلول الإيمان بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدَر كله.
أما الإيمان بالله فلأنه لن يرى في الدنيا كما هي دلالة قوله ﴿الذين
يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به﴾ غافر، ويعني أنهم وهم
المقربون من الملائكة يؤمنون بالله ولم يروه بعدُ وهم يعلمون أنهم سيرونه في يوم
الحساب وعْدا من الله كما هو مدلول تسبيحهم بحمد ربهم وكما فصلت في بيان اقتران
التسبيح مع الحمد.
وأما الإيمان بالملائكة واليوم الآخر فظاهر كذلك أنهما من الغيب في
الدنيا وسيشهد العالمون جميعا بعد البعث للحساب كلا من الملائكة واليوم الآخر.
وأما الإيمان بالقدر كله فلإيمان المؤمن أن ما أصابه من القدر لم يكن
ليخطئه وأن ما أخطأه منه لم يكن ليصيبه، فالقدر مسطور في اللوح المحفوظ غيبٌ يؤمن
به المؤمن قبل أن يقدّر عليه كما في قوله ﴿قل ما كنتُ بدعا من الرسل وما أدري ما
يفعل بي ولا بكم﴾ الأحقاف، أي لم يطلع على القدر المغيب عنه قبل وقوعه.
وأما الإيمان بالكتب المنزلة من عند الله فهو من الغيب لتضمنها غيبا
في الدنيا لم يقع بعدُ نفاذه كما هو مدلول التكليف بالإيمان بالغيب إضافة إلى
التكليف بالإيمان واليقين بالآخرة.
وأما الإيمان برسل الله فلأن الدِّين الذي جاءوا به وهو الكتاب
والبيّنات لم ينقض ما فيهما من العلم والوعد والتكليف ولا يزال الخطاب به قائما
كالتكليف بالإيمان بالغيب في سورة البقرة وبالإيمان بالكتاب كله في آل عمران.
ويعني قوله ﴿قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين﴾ براءة، أن
النبي صلى الله عليه وسلم يؤمن بالله لدلالته على الغيب إذ لم يرَه في الدنيا، ويُصدّق
النبيّ الأمّيُّ صلى الله عليه وعلى ءاله وسلم المؤمنين فلا يُكَذِّبهم فيما
يزعمون إذ كان صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم.
وإن من تفصيل الكتاب المنزل أن ﴿الذين آمنوا﴾ حيث وقعت في الكتاب
فإنما لوصف صحابة النبي أو الرسول الذين آمنوا به إيمانا مستأنفا، ومنه وصْفُ
صحابة نوح في قوله ﴿وما أنا بطارد الذين آمنوا﴾ هود، ومنه وصفُ صحابة هود في قوله ﴿ولما
جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ﴾ هود،
ومنه وصفُ صحابة صالح في قوله ﴿قال الملأ الذين استكبروا مِن قومه للذين استُضعفوا
لمَن آمن منهم﴾ الأعراف، ومنه وصفُ صحابة شعيب في قوله ﴿ولا تقعدوا بكل صراط
توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به﴾ الأعراف، وآمن لوط بإبراهيم كما في قوله ﴿فآمن
له لوط﴾ العنكبوت، وأما صحابة موسى فكما في قوله ﴿قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا
معه واستحيوا نساءهم﴾ غافر، وأما صحابة خاتم النبيين صلى الله عليه وعلى ءاله وسلم
فكما في قوله ﴿لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم﴾ التوبة،
وقوله ﴿ما كان للنبيِّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى﴾
التوبة.
أما المؤمنون فهم أعم من صحابة الرسول أو النبيِّ إذ تقع كلمة
المؤمنين على مَنْ وَرِثُوا الإيمان من ءابائهم أي التابعين فمَن يأتون بعدَهم، وعلى
الرسول والذين آمنوا معه كما في قوله ﴿ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم
بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين﴾ الروم، وتقع على
الصحابة كالذين آمنوا كما في قوله ﴿إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم
يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون﴾ الحجرات،
ولتسميتهم بالمؤمنين رد على الذين يزعمون أنهم مؤمنون ويتخلفون عن الرسول يَرغبون
بأنفسهم عن نفسه.
ـ كلية
أولئك
إن من
تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن الموصوفين المشار إليهم بـ ﴿أولئك﴾ إنما لبيان أن قد مضى بعضُهم يوم نزل
القرآن وسيلحَق آخرون بعد نزول القرآن يعملون مثل عملهم ويتصفون بصفتهم وكما هي
دلالة قوله ﴿والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون﴾ الفلاح، والمعارج، ويعني أن قد ابتغى
الفواحشَ وترك ما أحلّ له من الأزواج جَمعٌ من الناس قبل نزول
القرآن وسيبتغيها كذلك آخرون بعد نزول القرآن وهم الذين لم يتعظوا بالقرآن ولم
ينتهوا به وهم العادون.
وكما في قوله ﴿إن الذين
يكتمون ما أنزلنا من البيِّنَاتِ والهُدَى من بعدِ ما بيَّنَّاه للناس في الكتاب
أولئك يلعنهم الله ويلْعَنُهم اللاعِنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيَّنُوا فأولئك
أتوب عليهم وأنا التوَّاب الرحيم﴾ ويعني أن كتم بعضٌ من الذين أوتوا الكتاب قبل
نزولِ القرآن بيناتٍ وهُدًى في التوراة والإنجيل وسيكتم كذلك فريق من المنتسبين
إلى العلم بيِّناتٍ وهدًى في القرآن العظيم وأن الفريقين معا الأولون قبل القرآن
والآخرون بعد نزوله سيلعنهم الله والملائكة والناس أجمعون يوم القيامة.
وكما في قوله ﴿والذين يمكرون
السَّيِّئاتِ لهم عذاب شديد ومَكْرُ أولئك هو يبُورُ﴾ فاطر، ويعني أن قد مكر فريقٌ
من الأولين قبل نزول القرآن وسيمكر فريقٌ من المتأخرين بعد نزول القرآن وأن كلا
منهما سيبُورُ مَكرُه كما في المثاني: ﴿يُخادِعون الله وهو خادعُهُم﴾ البقرة، ﴿أم
يُريدُون كيدا فالذين كَفضروا هم المَكيدون﴾ الطور، ﴿إنهم يكيجون كيْدًا وأَكيدُ
كيْدًا فمهِّلِ الكافرين أمهلْهم رُوَيْدًا﴾ الطارق.
وكما في قوله ﴿إن الذين سبَقتْ لهم
منَّا الحُسْنَى أولئك عنها مُبْعَدون﴾ ويعني أن قد سبقت الحسنى من الله لقوم قبل
نزول القرآن وسيكرِم اللهُ بها قوما آخرين بعد نزول القرآن كما في المثاني معه ﴿ثلةٌ
من الأولين وثُلَّةٌ من الآخِرِين﴾ الواقعة.
وكما في قوله ﴿ويقول الأشهاد هؤلاء
الذين كَذَبوا على ربِّهم ألا لعنةُ الله على الظالمين الذين يَصُدُّون عن سبيل
الله ويبغونها عوجًا وهم بالآخرةِ كافرون أولئك لم يكونوا مُعزِين في الأرض﴾ هود،
ويعني أن قد مضى من ذلك في الأولين قبل نزول القرآن وسيلحق بهم من الآخرين بعد
نزول القرآن قوم يعَذِّبهم الله في الدنيا عذابا مستأصلا كالأحزاب من قوم نوح
والذين من بعدهم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق