تدور سورة المائدة حول محور الوفاء بالعقود والمواثيق لحفظ الضرورات السبع التي تضمنها السورة قبلها، ووقع في هذه السورة تفصيل ما أجملته السورة قبلها من الضرورات السبع ومنه الأمن الغذائي وتأمين سِلم المجتمع والأفراد والبلدان وحفظ المال، ويعني أن مَنْ أَمِنَ الجوعَ والخوفَ وأَمِنَ في سِرْبِه ومجتمعِه فَلا عُذْرَ له في نقضِ عهد ولا ميثاقٍ.
ومن حفظ المجتمع بالسِّلْم والأمْن والعدل تنزل الخطاب بالْتِزامِ الأمْن في الكعبة وفي الشهر الحرام وبالقصاص في القتلى وفي الجروحِ، وتنزل الخطاب بالحكم بما أنزل الله، وتنزل الخطاب بالجهاد في سبيل الله وتشريع تحرير الرقاب لكفارة اليمين.
ولأجل حفظ النفس تنزلت النبوة بالحق ـ في مقابلة العبث والتسلية ـ بقصة ابن ءادم الشقيِّ قاتل أخيه ليكسِبَ عَرضًا من الحياة الدنيا، وتضمنت التوراة المنزلة على أول مجتمع مسلم كليتيْن اثنتيْن لحفظ أمْنِ الأفراد والمجتمع هما:
ـ ﴿أنه مَن قَتَل نفسًا بغيْرِ نفسٍ أو فسادٍ في الأرضِ فكأنما قَتَل الناسَ جميعا﴾
ـ ﴿ومَن أحياها فكأنَّما أحْيا النَّاسَ جميعًا﴾
ولم يقَيِّد النفسَ بالإيمان بل عَمَّمَ عِصْمَةَ دمِ كلِّ نفسٍ بشرية بقرينة ﴿الناسَ جميعا﴾ في الحرفين تعميما وقع تخصيصه مرتينِ: مرة بقوله ﴿بغير نفسٍ﴾ أي لا عِصْمَةَ لدَمِ القاتِلِ، ومرَّةً أخرى بقوله ﴿أو فَسادٍ في الأرضِ﴾ وهي عِلَّة يتصف بها الكافرُ وتُدْرَأُ شرعا بقِتاله في ظل الجماعة وسلطانها ويتصف بها المؤمن فيُبيحُ بها لسلطان المسلين سفكَ دمِه لا لأفرادهم البتة.
وكذلك لأجل حفظ النفس وتأمين المجتمع تنزل حَدُّ الحرابَةِ وهي: ـ حَسَبَ مَبلَغِ عِلمي ـ ترويعُ أبناء السبيل وإرهابُهم بقطع الطريق عليهم أو قتلِهم أو قِتالهم لسفك دمائهم أو لِلِاستيلاء على أموالهم، وهي من الإفساد في الأرض ولا تتأتّى الحِرابةُ إلا لِمَن خرجوا عن المجتمع والسواد الأعظم من الناس أي هي سلوك الشواذّ عن الجماعة.
أما ترْوِيعُ الناسِ الآمِنين في مساكنِهم وأسواقِهم ومواطنِ اجتماعِهم وإرهابُهم بالقتل أو الخطف أو التفجير فهو أكبرُ مِن الحِرابة وعِقابها في الدنيا وفي الآخرة أغلَظُ من حَدِّ الحرابةِ وكذلك ضَرْبُ الوالِدَيْنِ أفجرُ وأعقُّ من قول الشقي لهما ﴿أُفٍّ لكما﴾، وكذلك المخدِّرات أسْكَرُ وأخطَرُ من الخمر.
وأكبر الضرورات السبع وأولها حفظ الدين وقد أخذ الله الميثاق من النبيين والرسل ومن كل أمَّة من الأمم الثلاثة التي تنزل إليها من الكتاب، ومن الذكر من الأولين قولُه في المثاني:
ـ ﴿ولقد أخذ الله ميثاقَ بني إسرائيل وبعثْنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وءاتَيْتم الزكاة وءامَنتم برسلي وعزَّرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسَنًا لأكفِّرَنَّ عنكم سيئاتِكم ولأدخلنَّكم جنَّات تجري من تحتها الأنهار فمَن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلَّ سواءَ السبيلِ فبما نقضِهم ميثَاقَهم لعنَّاهم وجعلْنا قلوبَهم قاسِيةً يُحَرِّفون الكلِمَ عن مواضِعِه ونَسُوا حظا مما ذُكِّرُوا به﴾
ـ ﴿ومِن الذين قالوا إنا نصارَى أخذنا ميثاقَهم فنَسُوا حظًّا مما ذُكِّروا فأغريْنا بينهم العداوةَ والبغضاءَ إلى يومِ القيامة وسوف يُنبِّئُهم الله بما كانوا يصنعون﴾
ـ ﴿لقد أخذنا ميثاقَ بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رُسُلا كلما جاءَهم رسولٌ بما لا تهوى أنفُسُهم فريقا كذَّبوا وفريقا يَقتُلون وحسِبوا ألّا تكونَ فتنةٌ فعَمُوا ثم تاب اللهُ عليهم ثم عَمُوا وصَمُّوا كثيرٌ منهم والله بصير بما يعملون﴾
وكذلك في البقرة وآل عمران والنساء والأعراف.
وكان النبيون من بني إسرائيل يحكمون بالتوراة ويعني وصفُهم بالإسلام بيان انقيادِهم للميثاق الذي أُخِذَ منهم.
ومن المثاني معه في خطاب الآخرين بالقرآن قوله:
﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولُنا يبيِّن لكم كثيرا مما كنتم تُخفون من الكتاب ويعفو عن كَثيرٍ قد جاءكم من الله نورٌ وكِتابٌ مبينٌ يهدي به الله مَن اتَّبع رضوانه سُبَل السلام ويُخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم﴾
﴿ما يُريد الله لِيجعلَ عليكم من حرج ولكن يُريد لِيطهرَكم ولِيُتِمَّ نعمتَه عليكم لعلكم تشكرون واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقَه الذي واثقَكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور﴾
وكذلك في سورة الحديد.
ومن تفصيل الكتاب المنزل وأصول الخطاب أن الميثاقَ من الله قد أخِذَ من النبيين والرسُلِ وبما أوحِيَ إليهم لَيؤمُنُنَّ ولَيُوفُنَّ بالعهد، وأُخِذَ ممن تنزَّل عليهم كتاب من الله كبني إسرائيل يوم تنزلت عليهم التوراة ويوم تنزل عليهم الإنجيل وهذه الأمة بتنزلِ القرآن، ويعني أن اللهَ قد أّخَذَ الميثاقَ من كل مؤمن بالكتاب لِيتمثَّلَ التكليفَ ولِيَفِيَ بالعهد المفصَّل في الكتاب، وليبسُطَنَّ الله الرزقَ لكل أمَّةٍ أقامت الكتاب المنزلَ وليكفِّرَنّ عنهم سيئاتهم.
وأخذتْ كلُّ زوجةٍ ميثاقًا غليظا من الرجلِ زوجِها أن يُحْصِنَها أي يَجعلَها في حِصْنٍ حصين وتفصيلُ الميثاقِ هو قولُه تعالى: ﴿وأَحَلَّ لكم ما وراءَ ذلكم أن تبتغوا بأموالِكم محصِنين غيرَ مسافِحين فما استمتعتم به منهنّ فآتُوهنَّ أجورَهنَّ فريضة ولا جناح عليكم في ما تراضَيْتُم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما﴾ وهي كلمة الله التي استحلّ بها الرجال فروج الأزواج.
وإنما أخذ الله الميثاقَ على الرسلِ ليبلِّغوا رسالاتِ الله وليس لهم أن يكرِهوا الناسَ ليكونوا مؤمنين وكذلك دلالة قوله تعالى ﴿يوم يجمع الله الرُّسُلَ فيقولُ ما ذا أُجِبْتُم قالوا لا عِلمَ لنا إنك أنت علام الغيوبِ﴾.
وتثبتُ كرامَة المسلم واستجابةُ دعائه وقبول شفاعته بحسَبِ وفائه بالميثاقِ وتصديقِ عملِه قولَه وشهادَتَه، ومن الصادقين الموفون بالميثاقِ عيسى شَفَّعَه الله فأبرأَ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله.
وليتمَّ الأخذ بالميثاق تنزل تفصيل الأعداء وسلوكهم واستهزاؤهم وبيانُ أشدِهم عداوةً، وكذا قَوم متأخرون عن حياة النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وعلى ءاله وسلم ﴿يُحَرِّفون الكلِمَ مِن بعد مواضِعِه﴾ أي هم أساتذة اليهود يتعلَّم منهم اليهود المكر وسائر أسباب طمس الإسلام، وفي النفسِ ـ واللهُ أعلمُ ـ شيءٌ من غلاةِ الشيعة الباطنيين. الذين اتَّفقوا مع اليهود في الوصْف ﴿سمَّاعون للكذِب أكَّالون للسحْتِ﴾ يكذبون الحديثَ ويتَّخذونه دِينا ويلعنون الصحابة الكرام ينقمون عليهم أن نصروا النبيّ صلى الله عليه وسلم وبلّغوا القرآن ويقذفون الصِّيقَة بنت الصديق رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة الكرام الأخيار الذين يَغِيظُ اللهُ بهِم الكفَّارَ كما في آخر سورة الفتح.
وحرصَ الغافلون عن الميثاق على التعبُّدِ بفروع كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي لم يأذنْ بها اللهُ وإنما افتراء عليها.
وأما قوله ﴿غُلَّتْ أيديهم﴾ في شأن اليهود فهو من النبوَّة في القرآن التي لم يقعْ بَعْدُ نفاذُها وستصبح شهادة فلا يستطيعون حملَ السلاحِ ولا تحريكَ أيدِيهم المغلولةِ فيسارعون إلى الاختباء وراء الحجر والشجر ويُقاتِلهم في سبيل الله يومئذ المسلمون مع عيسى ابن مريم.
ومن الأخذ بالميثاق لحفظ الدِّينِ كلِّيَّةُ ﴿واحذَرْهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزلَ الله إليْكَ﴾.
وتنزلت السورة بكلِّيَتين اثنتينِ محبِطَتَيْنِ جهودَ إبليس وجنودهِ مِن شياطين الإنسِ والجنِّ:
أما الكلية الأولى فهي ﴿إلا الذين تابُوا مِن قبْلِ أن تَقْدِروا عليهم فاعلمُوا أن اللهَ غفور رحيمٌ﴾
وكذلك في سورة الأنفال في خطاب الذين كفروا ويحاربون اللهَ ورسولَه ﴿قل للذين كفروا إن يَنْتَهوا يُغفَرْ لهم ما سَلَفَ وإن يَعودوا فقد مَضَتْ سنَّةُ الأولينَ﴾
وهو صريح في دَعوة المحارِبِ قاطعِ السبيل والكفارِ المحاربين إلى الانتهاء ولِيُغفَرَ لهم شَرعًا بحُكْمِ الله ما قد سلفَ من إفسادِهم قبلَ القدرة عليهم، ولا يَعتَرَضُ على قَبول توبة المحارب المُفْسِد مُسْلِما أو غير مُسلِم إلا الأحمَقُ أو الغافِلُ عن حُكْمِ الله ومنهُ ﴿إن الذين فَتَنُوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتُوبوا فلهم عذابُ جهنم ولهم عذاب الحريقِ﴾ البروج، ومن المثاني معه ﴿ثم إن ربَّكَ للذين هاجروا مِن بعدِ فَتَنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربَّك مِن بعدِها لغفور رحيم﴾ النحل، بقراءة التسمية في ﴿فُتِنُوا﴾ لابن عامر الشامي من القراء السبعة وكذا الزعفراني وأبو حيوة عن نافع كما في الكامل للهذلي عنهما، ولو أتاح القضاءُ المعاصرُ محاوِرينَ يُخاطبون العقلَ ويقتدون بالرسول شعيْبٍ إذ قال لقومه ﴿إني أراكم بِخيْرٍ وإني أخافُ عليكم عذابَ يومٍ مُحيطٍ﴾ سورة هود، لاخْتَفى وتلاشى كثيرٌ من أسباب الجُرْحِ والقَرْحِ.
وأما الكلية الثانية فهي: ﴿عفا اللهُ عمَّا سَلَفَ ومَن عادَ فينْتَقِم اللهُ منه والله عزيز ذو انتِقامٍ﴾
وكذلك في سورة النساء في مسألة الجمع بين الأختين، وفي مسألة نكاح زوجات الآباء، وفي سورة البقرة في سياقِ أكل الربا، ويعني أن كلَّ ما سلف من هذه الموبقات قبل تنزل الخطاب في القرآن فهو عَفْوٌ غيرُ مؤاخَذٍ به.
وأما لحِفظِ الأمن الغذائي فقد تنزل التفريق بين الطيِّب والخبيثِ، وأحلَّ اللهُ الطيِّباتِ أكلا ونكاحا، وأحلَّ صيدَ البحر وصيد البرِّ وبهيمةَ الأنعام التي ذُكِر اسم الله عليه كما في المائدة وأربعة الأنعام وثلاثة الحج، ويعني عموم الذكاة في المائدة وحرف الأنعام ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفِسقٌ﴾ أن إزهاق الحياةِ في الطير والدوابِّ إنما يجب أن يتِمّ باسم الله الذي شرع لَنا أكلَها لنَحْيَى ونَقْوَى على العبادة، أما ما لم يذكر اسمُ الله عليه منها فتجرَّد من هذا القصد والنية فهو فِسْقٌ خرج به الإنسانُ عن الوحْيِ الذي جاء به النبيون وعن مقتضى العبوديّة إلى المعصيّة والعبثِ فحرُم على المسلمين أكلُه، ولئن كان النهيُ عن الأكل من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذُكِّيِ منها بـإنهار دمه وذَكِرَ اسم الله عليه فما ظنك بقتل الصحيح من الطير والأنعام عبثا وما ظنك بقتل الإنسان بغيًا وظلما وطغيانا.
وتَعَلَّقَ الميثاقُ وانتَفَى الإثْمُ عن المُضْطَرِرِ في مخمَصَةٍ شريطةَ أن لا يكونَ في نفسِه مَيْلٌ إلى المحرَّمِ كشرب الدم والخمر وأكل الميتة ونحوها.
وأحلَّ الله أكلَ طعام الذين أوتوا الكتاب فأطلقَ ولم يقيِّده بالذين مِن قبلنا فظهر عموم الوصْفِ إلى أن ينزل عيسى ابن مريم فيكسر الصليب، فلينتَبِهِ الفقهاءُ إلى قيدِ جواز نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب مِن قَبْلِنا.
ومن تأمين الغذاء وإشاعته تشريع إطعام المساكين وكسوتهم لكفارة اليمين، وكذا وصفُ المائدة عيدًا للناس تجمع أولَهم وآخرهم.
ولأجل حفظ العقل تنزل تحريم الخمر جزما وقطعا وتأكيدا.

ولأجل حفظ المال تنزل حدُّ السرقة وتحريم الميْسِرِ وحدُّ الحرابة وأحكام وصيَّةِ الميتِ الغريب. 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top