الباب الثاني:
دلالة الكتاب
دلالة كتب في الكتاب المنزل
إن من تفصيل الكتاب أن لفعل كتَب معانيا متعددةً تتفق كلها على المصاحبة واللزوم وعدم النقض أو النسخ، وهي حسب السياق والقرائن:
أولاها: بمعنى فرض على المكلفين من المؤمنين بالغيب خاصة وقد وردت تعديتها بحرف الجر "على" كما في قوله ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ النساء، أي ألزمهم فريضة فُرِضت عليهم في أوقات معلومة.
وفرَض الله على الذين آمنوا أي ألزمهم الصيام والقصاص في القتلى وفرض عليهم بعد تجاوز مرحلة الاستضعاف القتال أي في مرحلتي الدفاع والتمكين، وفرض ليتامى النساء مهرا كاملا ألزم به من يتزوجهن ولو كان من الأولياء الكافلين.      
وإنما وقع الخطاب والتكليف بجميع الفروع على المسلمين وأُجيبُ مَن اعترض بقوله تعالى ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾ آل عمران، بصريح تخصيصه وتبيانه بقوله تعالى ﴿إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا﴾ براءة.
ولم تُفرَضِ الرهبانية على الذين اتبعوا النبيَّ عيسى وإنما ابتدعوها.
ثانيها: بمعنى النصيب من الكتاب القَدَر المقدور المحتوم اللازم، ووردت تعديتها بحرف الجر على كما في قوله ﴿قُل لَّوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ آل عمران، ويعني أن لكل منا مضجعا كتب عليه تُقبض روحه فيه موتا أو قتلا.
وورت تعديتها باللام كما في قوله:
ـ ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾ البقرة
ـ ﴿قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا﴾ براءة
ويعني حرف البقرة التكليف بجماع الأزواج والتنبيه إلى أن الجِماع ليس هو الذي يأتي بالولد وإنما هو سبب يُبْتَغي به النصيب المُقَدَّر من الولد.
ويعني حرف براءة أن لن يصيبَ ابنَ آدم من الآفات والمصائب إلا نصيبُه منها المقدّر عليه من قبل.
وثالثها: بمعنى التخصيص والإثبات والدوام ووردت تعديتها باللام كما في قوله ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ الأعراف، وهو مما نبَّأَ الله به موسى حين آتاه التوراة أن سيَخُصُّ برحمته التي وسعت كل شيء أولئك المتقين في آخر أجل البشرية ويثْبتُها لهم فلا تتحول عنهم وإنما المتقون في تفصيل الكتاب المنزل هم عباد الله الصالحون الناجون من العذاب الذي أهلك الله به المكذبين من قبل وسيهلِك بمثله المكذبين المجرمين في آخر هذه الأمة وبينته في مادة "وقي" من المعجم.
ورابعها: دلالتها على الإيجاد والتثبيت وأن لا يلحقُه نسخٌ ولا تبديل كما في قوله ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ المجادلة، ويعني أن الله قد أنعم الله على الذين تبرأوا من أعداء الله ولو كانوا أولي قربى فأثبت في قلوبهم الإيمانَ فلا يدخلها كفر ولا نفاق.
وخامسها: دلالتها على الكتابة المعلومة كما في قوله ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ البقرة.
كتابة أعمال المكلفين
إن من الأعمال لَأعمالٌ صالحة تُكتَبُ مباشرة في الدنيا حين يعملها صاحبها كما في قوله ﴿ما كان لأهل المدينة ومَن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يُصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كُتِبَ لهم به عملٌ صالِحٌ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كُتِبَ لهم لِيجزيَهم الله أحسن ما كانوا يعملون﴾ براءة، ليعني أن كتابة العمل الصالح في الدنيا أمانٌ لصاحبِه من فِتَن الرياء والنفاق والكفر والشرك وغيرها من المحبطات الموبقات، وقد يقع تخصيصه بالأعمال الموصوفة بأنها في سبيل الله كالهجرة والإنفاق والقتال والجهاد في سبيل الله ممن وقع عليهم الخطاب والتكليف في ظل نبوة أو رسالة فأطاعوا، وجزاهم ربهم بكتابة أعمالهم مباشرة دلالة على أن الله قد تقبّلها منهم وسيجزيهم بها كما هي دلالة الحديث النبوي الصحيح "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وتأوّل بها النبي الأمي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ﴿لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم﴾ الأنفال، ويعني الحُسنى التي سبقت من الله كما في قوله تعالى ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسِيسَها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقّاهم الملائكةُ هذا يومكم الذي كنتم توعدون﴾ الأنبياء.
وكذلك المكر السيِّءُ والعمل السّيِّءُ من المنافقين يحَادُّوا الله ورسولَه كتَبَه اللهُ في الدنيا أي أثبته لهم فلم يتوبوا منه بل زهقت أنفسُهم على الكفر ولن يغفرَه الله لهم في يوم الدين أي سيعذبون به كما في قوله تعالى ﴿ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيّت طائفة منهم غير الذي تقول والله يَكتَب ما يُبيّتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا﴾ النساء.
وكذلك سَعْيُ المجرمين المكذِّبين آياتِ ربهم الخارقة مع الرسل بها كتبَه الملائكة الكرام الكاتبون في الدنيا كما كتب إجرام قوم نوح وقوم لوط وكذا عاد وثمود ومدين الذي عذّبوا به في الدنيا، ولْيَحذَرِ المكذِّبون في آخر هذه الأمة أن يُكْتَبَ مَكرُهم في ءايات ربِّهم في الدنيا فيُحَابون بمكرِهم عذابا ماحقا مستأصلا كما هي دلالة قوله ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّه فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ يونس.
إن كتابة الأعمال السيئة التي يكتبها الملائكة الكرام الكاتبون لمقترنة بالمؤاخذة والمحاسبة عليها تلازما لا ينفصلان بحال من الأحوال سواء وقعت الكتابة في الدنيا أو في الآخرة، إنصافا وعدلا ممن لا يظلم الناس شيئا وإنما الناسُ يظلمون أنفسَهم.
وحَريٌّ بباحثٍ طالبِ علمٍ مِثْلِي التوقُّفُ عند كُلِّيّةٍ في الكتاب المُنزَّلِ حول كتابة أعمال المكلَّفِينَ الذين لم يُعاصِروا تنزُّل الوحْيِ وهي تفصيلا:
ـ وقوله ﴿أَفَرَأَيْتَ الذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ مريم، ـ وهو مما مضى يوم نزل الكتاب على خاتم النبيين صلى الله عليه وعلى ءاله وسلم ـ ولم تقع بعدُ كتابة مقالةِ السُّوءِ هذه، وإنما سيُكتب ما يقول بصيغة الاستقبال إذ سيُعرَضُ عليه يوم الحساب فيراه بأم عينيه فيكتبُه الحفظة الكرام الكاتبون وهم الشهود عليه في الدنيا ويُعذَّب ويُمَدّ له العذاب مدّا.
ـ وقوله ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقِّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ آل عمران، ويعني أن الذين قالوا إن الله فقير ووصفوا أنفسهم بأنهم أغنياء وقتَلوا النبيين بغير حق، ولم يُكتَبْ قولُهم ولا قتلُهم الأنبياء بعدُ رغم تأخر نزول القرآن عنه بضعة قرون، وإنما سيُكتَب يوم الحساب وهم يرَوْن أعمالَهم تُعرَض عليهم ويقول ذوقوا عذاب الحريق أي يعذبهم في نار جهنم ولا يظلم ربنا أحدا.
 ـ وقوله ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ الزخرف، ويعني أن الله وعَد أن تُكتَب يوم القيامة شهادة الذين جعلوا الملائكة إناثا ويسألون عنها حينئذ، وكانوا من المشركين قبل النبي الأمي صلى الله عليه وسلم ومن معاصريه.
ـ قوله ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ يس، وظاهرها أن أعمالَّ المكلفين لن تُكتب في حياتهم الدنيا وإنما بعد البعث حين يقوم الحساب كما في صريح صيغتي الاستقبال في فعليْ إحياء الموتى وكتابة أعمالهم.
 وأما قوله ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ الأنبياء، ولكأنه ـ والله أعلم ـ صريح الوعد بكتابة الأعمال الصالحة وإثباتها للمؤمنين في يوم الدِّين ـ حيثُ الجزاء بالسَّعْيِ ـ لِيُجزَوْا بها في اليوم الآخر، ولكأنها تأخرت كتابتُها حتى لا يَنسخَها كفرٌ أو رياء أو نفاق أو شرك أو موبِق من الموبقات أو إثم من الآثام مُحبِطٌ عملَه الصالحَ المتقدم.
ولعل قولَه ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ الانفطار، يعني ـ والله أعلم ـ أن الملائكة الذين يحفظون العبد في الدنيا هم الشهود عليه يوم الحساب لأنهم يعلمون ما يفعل في الدنيا أي يرونه لا يغيب عنهم منه شيء، ولا يلزَم من العِلمِ والشهادة على الأعمال كتابتها في الدنيا.
وتتأخّر كتابة أعمال المكلَّفين إلى يوم الحساب والملائكة الشهود حاضرون فإن أقرّ كُتبت وإن أنكر خُتِمَ على فمِه ويُنطِقُ الله الذي أنطقَ كل شيء جلودَهم وتشهد أيديهم وأرجلُهم، ثم يُوبَقُ بما عُرض عليه من أعماله السيئة أي بما لم يغفرْه الله منها وبينته في مادة غفر من الأسماء الحسنى.

دلالة الكتاب في الكتاب المنزل  
إن الكتاب والقرآن في كلامنا ـ نحن العامّة ـ كَلِمتانِ مُترادفتانِ لدلالة كل منهما على ما بين دفتي المصحف، وهو الكتاب أي المكتوب، وهو القرآن أي المقروء، ولإثبات قصور هـذا الإطلاق في كلامنا فإن من تفصيل الكتاب أن قد وردت لكلمة ﴿الكتاب﴾  في المصحف عشرة معان هي:
أولاها: بمعنى المكتوب كما في قوله: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحَ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ البقرة، وعلى المتربصة بنفسها أربعة أشهر وعشرا إن لم تكن من أولات الأحمال أن تَكتب يوم ابتدأتِ العدةَ ليبلغ الكتاب أجله المعلوم وهو انقضاء العدة، ولكأن العِدَّةَ دَيْن عليها ووجبت كتابة الدَّيْن.
والكتاب الذي حمله الهدهد إلى ملكة سبإ هو رسالة سليمان المعلومة.
وعلى المكاتَب أن يجعل لنفسه أجلا معلوما يَفتدي به من الرق وليُكتَبْ ذلك الأجلُ يوم ابتُدئ العقدُ، فذلكم هو دِين الإسلام الذي يتعامل مع الواقع غير الشرعِيِّ ولا يَعْتَبِره وَهْمًا مِن الأوهام أو كابوسًا في مَنامٍ لا أثر له بعد اليقظةِ بل كان مِن العِلمِ والحُكْمِ اللذَيْنِ أوتِيَهما يوسُفُ أن وافقَ على خِدمةِ امرأة العزيز ومنها تقديمُ الفاكهة والسِّكِينِ لصوَيْحِبَاتِها، ولم يعتَرِضْ بأن استرقاقه غيرُ شرعِيٍّ، وكذلك أعان النبِيُّ الأمِّيُّ صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسيّ على فداء نفسِه من اليهودي فغرسَ معه النخل رغم أن استرقاقه غير شرعيٍّ وكذلك كان صلى الله عليه وعلى ءالِه وسلم يطوف حول الكعبة ثلاثة عشر عاما وحولَها الأصنام واقعا غير شرعيٍّ ولم يبصق عليها ولم يمسَّها بسوءٍ، ووجبت كفالةُ ابنِ الزنا وتربيتُه وتعليمُه رغم أنه واقِعٌ غيرُ شرعِيٍّ.
وثانيها: بمعنى الفريضة على المكلفين كما في قوله ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ النساء، أي فريضة فرضت عليهم في أوقات معلومة، وكما في قوله ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ النساء، يعني أن تحريم المذكورات فريضة من الله عليكم.
وثالثها: اللوح المحفوظ كما في قوله:
ـ ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُاَ عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ﴾ طـه
ـ ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ سورة ق
ـ ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا﴾ آل عمران
ولا يصح وصف اللوح المحفوظ بـ ﴿المبين﴾ لاستحالةِ اطلاع المخاطَبين بالكتاب المنزل عليه.
ورابعها: الصحف التي سيؤتاها يومَ يقوم الحساب صاحب اليمين بيمينه وصاحب الشمال بشماله وأشقى منه وراء ظهره، وتعني الأعمال الفردية التي لم يشترك معه غيره فيها.
وخامسها: كتاب كل أمَّة يوم القيامة ولعلها ـ والله أعلم ـ الأعمال الجماعية التي اشترك فيها اثنان فأكثر كتسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون يوم تحالفوا وتقاسموا أن يغتالوا صالحا رسول الله كما في قوله:
ـ ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ الزمر
ـ ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَـذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ الكهف
ـ ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَـذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ الجاثية
ـ ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ قد أفلح
ولْيتوقّفْ اللاهون اللاغون الناشرون عبر الأثير وفي الأوراق عن نشر الباطل واللغو حتى لا يضل بإضلالهم قوم آخرون.
وسادسها: في المثاني:
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ التطفيف
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ التطفيف
ولعله ـ والله أعلم ـ الظرف المكاني الذي تنتقل إليه الأرواح والصور المستنسخة من الأعمال بعد الموت، والتي ستعرض على غير المغفور له يوم الحساب.
وسابعها: الكتاب الذي أوتِيَه جميع النبيين والرسل قبل التوراة كما في قوله:
ـ ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ عمران
ـ ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسَلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾ الحديد
ـ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاُه هَارُونَ وَزِيرًا فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدّمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا﴾ الفرقان
ولا يخفى أن كثيرا من النبيين والرسل كانوا قبل التوراة التي أوتيها موسى ومنهم إبراهيم وإسماعيل، ولا تخفى دلالة حرف الفرقان على كتاب أوتِيُه موسى قبل رسالته إلى فرعون، وإنما أوتي موسى التوراة بعد إغراق فرعون وجنوده.
وثامنها: وقوع كلمة الكتاب على التوراة أو الإنجيل أو هما معا كما في قوله:
ـ ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ﴾ الإسراء
ـ ﴿فَاسْأَلِ الذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ يونس
ـ ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾ الأنعام
ـ ﴿ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل﴾ آل عمران
وكذلك حيث اقترن الكتاب بموسى سوى حرف الفرقان وحيث ورد أهل الكتاب والذين أوتوا الكتاب.
ولا تخفى المغايرة بين الكلمات الأربع "الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" وإلا لَلَزِمَ القولُ بأن التوراة هي نفس الإنجيل وهو ظاهر السقوط.
ولن يصح إبدال الكتاب في الأحرف المذكورة وشبهها بالقرآن لأن للقرآن دلالةً أخرى لا يصح إيرادها في غيرها كما يأتي تحقيقه.
وتاسعها: الكتاب المنزل على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كما في قوله:
ـ ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ آل عمران
ـ ﴿وَهَـَذا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ الأنعام
وعاشرها: كتاب مكنون كما في قوله ﴿إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون﴾ وكما في قوله ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ عبس، وبينته في المعجم.
إن الكتاب الذي أوتيه النبيون والرسل قبل التوراة لا اختلاف بينه وبين الكتاب الذي تضمنه كل من التوراة والإنجيل والقرآن، لأن التوراة قد حوت الكتابَ وزادت عليه نبوّةَ موسى، وحوى الإنجيل الكتاب وزاد عليه نبوة عيسى، وحوى القرآن الكتاب وزاد عليه نبوة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ونبوة النبيين قبله.
وإنما علم الرسل والنبيون قبل التوراة الكتابَ غيبا فكانوا يعلّمون أُمَمَهم منه بقدر استعدادهم للتلقي ثم أنزل الله الكتابَ مع موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم وتَّعَبد الناس بدراسته لدرايته والله المستعان.
إن الكتاب هو ما تضمن المصحف من الإيمان بالله رب العالمين، وما تضمن عن العالمين كخلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما، وتدبير أمر الخلق كله، وما حوى من النعم في الدنيا ومن وصف مخلوقاته وكذا المؤمنون والكفار والمشركون والمنافقون، وما حوى من التشريع أي الخطاب الفردي والجماعي، ومن التكليف لسائر العالمين، وما تضمن عن الحياة والموت والقدر كله والبعث والحساب والجزاء بالجنة أو النار.
وكان من تفصيل الكتاب أن قوله:
ـ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ النساء
ـ ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ الزمر
ـ ﴿ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء﴾ النساء
قد تضمن كلمةَ ﴿الكتاب﴾ لاشتماله على الحكم بين الناس وعلى الأمر بالعبادة وعلى الأحكام الشرعية التي شرع الله للناس، ولو أبدلت كلمة الكتاب بكلمة القرآن في الآيات المتلوة المذكورة لانخرم المعنى كما بينت في مادة القرآن.
إن عاقلا أو مغفلا من الناس لن يقول إنه خلَق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم سيعدمه ويعيد خلقه كما خلقه أول مرة تفصيلا يشمل بَنَانَ الإنسان وذاكرتَه فلا ينسى منها ما كان أسرَّ وما أخفى، وكان حرِيًّا بالناس أن يفهموا الكتاب لوضوحه وهل في اللهِ فاطرِ السماوات والأرض شكٌّ؟ ومتى احتاج التكليف بالصلاة والزكاة وسائر التكاليف إلى تدبُّر؟ وإنما هي تكاليف من الله الخالق البارئ المصور فمن شاء زكَّى نفسه بها ومن شاء دسّاها بالإعراض عنها.
دلالة القرآن في الكتاب المنزل
وأما القرآن: فهو ما حوى المصحف من نور مبين في القصص والذكر والقول والنبوة والأمثال، ويقع على غيب وعَد الله أن يصبح شهادة معلومة بعد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وقبل النفخ في الصور.
وكان من تفصيل الكتاب المنزل أن قوله:
ـ ﴿وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله امكثوا إني آنست نارا النمل
ـ ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هـذا القرآن يوسف
ـ ﴿وأوحي إليَّ هـذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ الأنعام
ـ ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر مكررة في القمر
ـ ﴿فذكر بالقرآن من يخاف وعيد خاتمة سورة ق
ـ ﴿ولقد ضربنا للناس في هـذا القرآن من كل مثل الروم ـ الزمر
ـ ﴿هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ خاتمة البروج
وشبهه قد تضمن كلمة ﴿القرآن لاشتماله على القصص والوعد في الدنيا والذكر والأمثال ولو أبدلت كلمة القرآن فيه بكلمة الكتاب لانخرم المعنى.
ولقد أدرك كفار قريش هـذا التفصيل وقالوا كما في قوله ﴿وقال الذين كفروا لن نؤمن بهـذا القرآن ولا بالذي بين يديه سبأ، أي لن يؤمنوا بالقرآن ذي الموعودات في الدنيا ولا بالكتاب ذي التكاليف التي على رأسها ترك الأوثان وعبادة الله وحده، وذي الموعودات بالآخرة.

بيان قوله ﴿قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين
وإن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن كلمة النور في تفصيل الكتاب المنزل لها أكثر من دلالة إذ يقع على:
أولا: نور خارق معجز تشرق به الأرض يوم القيامة كما في قوله ﴿وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتابالزمر
ثانيا: نور في يوم القيامة يهتدي به المكرمون إلى حيث يأمنون كما في قوله:
ـ ﴿يوم لا يخزي الله النبيَّ والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورناالتحريم
ـ ﴿والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم الحديد
ـ ﴿يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم الحديد
ـ ﴿يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم الحديد
ثالثا: نور كالموصوف في سورة النور وكما في قوله ﴿أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس الأنعام، وهو من الغيبِ في القرآن.
رابعا: يقع على تبيّنِ ما في الكتاب المنزل والاهتداء به أي في مقابلة الظلمات وهي كل سلوك ومنهج اختاره الإنسان لنفسِه مُخالِفا لهدْي الكتاب المنزل كما في قوله:
ـ ﴿ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومَك من الظلمات إلى النور إبراهيم
ـ ﴿الله وليُّ الذين آمنوا يُخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات البقرة
ـ ﴿فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليُخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور الطلاق
خامسًا: كما في قوله:
ـ ﴿قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس الأنعام
ـ ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور المائدة
ـ ﴿وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور المائدة
فيعني أن كلا من التوراة والإنجيل قد تضمن موعودات نبَّأ الله بها موسى وعيسى لن تقع إلا متأخرة كثيرا، وكذلك النور يقع على البعيد في ظلمات الغيب فيُبصره المؤمنون فيؤمنون به وينتظرونه، ومما نبَّأ الله به موسى قوله ﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين المائدة، ووقعت نبوة موسى هـذه بعدَه فجعل اللهُ فيهم أنبياءَ بعده وجعل فيهم ملوكا كطالوت وداوود وسليمان وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ومنه أن علّم داوود وسليمان منطق الطير وآتاهما من كل شيء، ومما نبأ الله به عيسى قوله ﴿ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد الصف
وإن من المثاني قوله:
ـ ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا الشورى
ـ ﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين المائدة
ـ ﴿فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا التغابن
ـ ﴿يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا النساء
ـ ﴿فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون الأعراف

وتعني أن القرآن نور أُنزِل من عند الله وكلّف الناس بالاهتداء به، إذ يقع على موعودات بعيدة يوم نزل القرآن على النبي الأمي صلى الله عليه وعلى ءاله وسلم وكذلك النور يقع على البعيد فيتراءى لك قبل أن تصل إليه، وسيعلم الناسُ رأي العين في الدنيا يوم تقع موعودات القرآن فتصبح شهادة بعد أن كانت غيبا يوم نزل القرآن أن القرآن قول ثقيل ألقِيَ على خاتم النبيين وأنه قرآن عجب يهدي إلى الرشد وإلى التي هي أقوم إذ سيهتدي به يوم تقع موعوداته أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى، وسيزداد به الذين في قلوبهم مرض رجسا إلى رجسهم وضلالا إلى ضلالهم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top