الضمائر
قد أعلنتُ من قبلُ أنّ قواعد النحو العربي وقواعد الإعراب لم تكن سوى ترجمة حرفيّة لقواعد النحو الفارسي السابِقِ تدوينًا، الوافِدِ ترجمةً أواخر القرن الثاني الهجري، وغلبَ الاستنساخُ فلم تستغرقْ قواعد النحو والإعراب مِعشارَ سَعَة لِسان العربِ ومعانيه الوافِرة العامِرةِ بتعدُّدِ معانِي الحرف والكلمة والمضمر حسب السياقِ والعوامل.
وكان جهدي القاصِرُ منذ عشرين حوْلًا في سبيل تأصيل التفسير والقراءات وفقه المرحلة سبَبًا مباركا ـ جعلنِي بالتَّتَبُّع والاستطراد واستنطاق المعاني ـ أُقَرِّرُ تأصيل قواعد النحو العربي وقواعد الإعراب تقرير باحِثٍ لا يستأنِسُ بموافقة المأْلُوفِ الملْفُوفِ الْمَحفوف بمواطِن النّقْصِ والْخلَلِ والقُصور.
وظَلَتْ تلاوتي التَّدَبُّرِيّةُ زَادًا أتزَوَّدُ به كلَّمَا قَصُرَتِ الْيَدُ عن نفقةِ العِيَالِ وإصلاحِ الْحَالِ.
وإليكم معشر الباحثين الجادِّين بحثا مفَصَّلًا أَصَّلْتُه بالقرآن أكبرِ مرجعيَّة لفقه لِسان العرب.
أَولًا: ضمير جماعة الغائبين.
تنخرمُ ولا يَطَّرِدُ قاعِدة النحو في التفرقة بين ضميريْ التذكير والتأنيث في قوله تعالى:
﴿ما هذه التّماثِيلُ التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا ءاباءَنا لها عابِدين﴾ [الأنبياء 52 ـ 53] 
﴿فَجَعَلُمْ جُذَذًا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرَجِعُون قالوا سمعنا فَتًى يذْكُرُهم﴾ [الأنبياء 58 ـ 59 ـ 60]
﴿قال بَلْ فعَلَه كبيرُهم هذا فاسْأَلُوهم إن كانوا ينطقون﴾ [الأنبياء 63]
﴿فراغَ إلى ءالِهَتِهِم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغَ عليهم ضَرْبًا باليمينِ﴾ [الصافات 91 ـ 92 ـ 93]
ولم يتجاوزِ النحاةُ وصفَ الضمير المؤنث الغائب المفرد في أوّل الأنبياء، ووصفَ ضمير جماعة الذكّور الغائبين، جَلْبًا منهم مقاييسَ أَلْسِنةٍ أقصَرُ باعا من اللسان العربيّ المبين.  
إنّ الضمير (هُم) و (هنَّ) خارج مواطن التذكير والتأنيث وَرَدَ للدلالة على الاستقصاء والتفصيل على عكس صيغة الإجمال المطّرِدة في الضمير الغائب المفرد نحو (ها).
فمن الأول: للتفصيل والاستقصاء قوله تعالى ﴿وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّـــه بكلمات فأتمّهُنَّ﴾ [البقرة 124] ويعني أنه استوفى ووفَّى كما في قوله تعالى ﴿وإبراهيم الذي وفَّـى﴾ [النجم 37].
وقوله ﴿قال فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إليكَ ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءا ثم ادعهنّ يأتينك سعيا﴾ [البقرة 260] أي استوف التقطيع ولا تُبْقِ معك منه شيئا.
وقوله ﴿تسبِّح له السماوات السبع والأرض ومن فيهنَّ وإن من شيء إلا يسبح بحمده﴾ [الإسراء 44] يعني تفصيلا يشمل من في السماوات ومن الأرض.
وقوله ﴿واسجدوا لله الذي خلقهنّ﴾ [فصلت 37] يعني تفصيلا لا يتخلف عنه الشمس ولا القمر ولا غيرهما.
وقوله ﴿قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهنَّ وأنا على ذلكم من الشاهدين﴾ [الأنبياء 56] يعني أن الله فطر السماوات والأرض وما بينهما تفصيلا لا يتخلف عنه شيء.
وكذلك قوله ﴿الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج﴾ [البقرة 197] يعني التكليف بالإعراض عن الرفث والفسوق والجدال تفصيلا لا يستثنى منه شيء يستوفي أشهر الحج على من فرض الحج بالنية والشروع في السفر.
ولا يختص هذا التفصيل بضمير التأنيث (هنّ) بل يشمل ضمير الذكور (هم) كما في قوله تعالى ﴿قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم﴾ الأنبياء، وتأكّدت الصيغة على لسان إبراهيم في قوله ﴿فاسألوهم إن كانوا ينطقون﴾ وإنما هي صيغة التفصيل والاستقصاء بالضمير (هم) أي اسألُوا كل واحد منهم تفصيلا ليظهر لكم عجزه.
وكذلك دلالة قوله ﴿وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلُهنَّ سبع عجاف﴾ [يوسف 43] أي أن البقرات العجاف استوفت أكل البقرات السمان ولم تبق منهن شيئا.
 ومن الثاني للدلالة على الإجمال قوله تعالى ﴿ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وسعى في خرابها﴾ [البقرة 114] أي إجمالا كمنع بعض المساجد والسعي في خرابها ولا يلزم لظلمه منع جميع المساجد، وقوله ﴿وكأين من آية في السماوات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون﴾ [يوسف 105] أي إجمالا ولا يستقصي الناس الآيات في السماوات والأرض أبدا.
وقوله ﴿والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها﴾ [الزمر 17] يقع النهي على الإجمال من غير اشتراط التفصيل.
ولقد اجتمع الضميران ضمير الغائب المفرد ﴿مِنْهَا﴾ وضمير الجمع الغائب ﴿فِيهِنّ﴾ في قوله تعالى ﴿منها أربعة حُرُم ذلك الدِّين القيِّم فلا تظلموا فيهن أنفسكم﴾ [براءة 36] ويعني الأول هنا تخصيص أربعة من إجمال اثني عشر شهرا ويعني الثاني هنا تفصيل تحريم الظلم في الأشهر الحرُم حرمة لا تستثني منه شيئا.
الحسن ولد ماديك
من كتابي "معاني كلمات القرآن وحروفه ومضمراته"

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top