أولا: الأنظمة السياسيّة:
الأنظمةُ السياسيّة في عالمنا العربـي
والإسلامي جبرياتٌ تـجلَّتْ ـ كالشمسِ في كبِدِ السماء في يومٍ صحْوٍ ـ بِقَهْرِ كُلٍّ
من الحاكم والموظَّفِ والعامِّيِّ وجَبرِه وقهْرِه على سلوكٍ وتصوُّرٍ في فَلَكِ
الدولة الوطنيَّةِ الحديثة التي لا يملِك حاكِمٌ ولا محكومٌ على السواء نفاذا مِن
أقطارِها وقوانينِها وأوراقها المدنيّة وحدودها الوهمية التي تُفرِّقُ بين المجتمع
الواحد والقبيلة الواحدة والأسرة الواحدة، أي هي مرحلةُ جَبْرِ الحاكمِ وجميع الأسلاك
العسكرية والمدنية والقضائية ورجالِ الأعمالِ ومنظومةِ الإعلام، ومرحلةُ جبْرِ
كلِّ نظامٍ سياسيِّ في عالَمنا العربيِّ والإسلاميّ بالتِزامِ سلوكٍ وموازينَ في
فلَك دُوَل قويَّة إذا بطِشَتْ بطِشَتْ بطْشَ الجبَّارينَ وإذا حارَبتْ أهلَكَتِ
الحرْثَ والنسْلَ بقرينة قنبُلة هيروشيما البدائيّة وإذا حاصرتْ قتَلَتْ الصبيّ
والمرأة والعجوزَ والعامِّيَّ الذي لا يفهم السياسةَ صبرا على الجوع والمرض بقرينة
حصار مدن وقرى في سوريا والعراق واليمن.
وتنزّل في تفصيل الكتاب تسميةُ قادة
الجيوش بالملوك كما في المثاني:
﴿أَلَـمْ تَرَ
إِلَـى الْمَلَإِ مِنْ بَنِـي إِسْرَاءِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنبِـيٍّ
لَّـهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِـي سَبِيلِ اللهِ﴾ [البقرة 246].َ
﴿وَقَالَ لَـهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ
لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّـى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَـحْنُ
أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَـمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ﴾ [البقرة 247].
﴿قَالَتْ إنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً
أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾
[النمل 34]
ويعني وصْفُ طالوت بالْـمَلِكِ ووصفُ قادةِ جنود
سليمان بالملوك أنّهم قادة الجيش في الميدان ـ لا في السِّلْمِ ـ ولإظهار ما يجبُ
لهم من الطاعة والالتزام وبقرينة قوله تعالى ﴿فلمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْـجُـُنودِ﴾
[البقرة 249]، وكذلك وصفت ملكة سبأ أمراءَ جُيوشِ النبيِّ سُليمانَ بالملوك ـ
بصيغة الجمع ـ في خطابها الملأَ من قادَتها العسكريين، وإنما سُلَيْمانُ مَلِكٌ
واحدٌ، وظهر زكاةُ انضباطِهم بالرجوع في كل شؤونهم إلى القيادة المدنيَّة في قوله
تعالى ﴿قَالُوا نَـحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ
فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ [النمل 33].
وتعني مقالَةُ ملِكَةِ سبأ تغييرَ نظام الحكم
بالقوَّة، قوَّةِ الملوكِ وهم الغزاةُ قادَةُ التغيير بالقوَّة يجعلون أعِزَّةَ
أهلِ البلَد المفجوع الذي يقع اجتياحُه واحتلالُه أذِلَّةً، وهي سنَّةٌ مطّرِدَةٌ
لا تنخرم كلما دخَلَ غزاةٌ قرْيَةً وبلدًا رغم أنفِ أهلِه وحكامِه المغلوبين
المقهورين.
وإنما شاعَ وذاع غلبةُ استعمال كلمة "الْمَلِك"
على الحاكم العامِّ فخفِيَتْ دلالة كلام ملكة سبإٍ فأوقَعَها العامَّةُ على ذَمِّ
الحاكم العامِّ بصفَة الإفساد في كل قريةٍ وإذلال أهلها تخسيرا من العامَّة ميزانا
قائما لا يُفَرِّقُ بين مصطلحاتنا: (الْمَلِكُ والرئيسُ والأميرُ والامبراطورُ
والحاكمُ) إذ ليستِ العِبرَة بالمصطلحات العُرفيّة المتغيِّرة وإنما بالمعاني
والدلالات، ولقد عرفت البشرية عبر التاريخ وفي القرآن ملوكًا دخلوا قُرًى كثيرة
فلم يُفْسِدوا فيها ولم يجعلوا أعزَّة أهلها أذلّةً بل أصلَحوا ولم يُفْسِدوا.
ولا
يعني وصْفُ الحكام الوطنيين بالجبريّات طعنا ولا تزكية ـ إذ لا إنصاف في تعميم ـ وإنّـما
همُ اليوم واقعٌ ملموسٌ محسوسٌ لا يتجاهلُه غيرُ أحمقَ أخرقَ يُجِيزُ لنفسِه
التوسُّل إلى السَّجان وقوانين السِّجن ويقفُ في أحسنِ أحوالِه ملتَزِما بالأوراق
المدنيّة وبالحدود الجغرافيَّةِ.
وإنَّ
الحكَّام الوطنيين لطبقاتٌ شتَّـى:
ـ فمنهم
الْـخَيِّرُ الْـمُصلح البسيطُ الطيِّب المتواضع الذي لا يُهانُ الإنسانُ ـ
المواطِنُ والوافِدُ على السواء ـ في بلدِه، الْمُنفَتِح على شَعبِه، القائمُ على
الأمن والسِّلمِ الاجتماعي ولم يجعل أهل بلَدِه شِيَعا وطوائفَ يتربَّصُ بعضُهم ببعضٍ
ولا تـخفَى كرامة التعامُلِ معه.
ـ ومنهم
الْمُسْرفُ الْمُفسِد السَّفَّاح الذي شرَّدَ شعبَه وأحرَقَه ومزَّقَه المتلذِّذُ
بإذلال الأحرار الأخيار الضَّائقُ بهم ذَرْعًا الْـمُتَرَبِّصُ الدوائر بمَن
ليْسُوا على شاكلتِه الْـمُغْتَصِبُ الدَّعِيُّ ما لا يـحِقُّ له أي هو واقِعٌ
غيرُ شرعِيٍّ.
قلتُ:
وإنّـما يلزم خواصَّ المسلمين لِيَسْلَموا أن لا يكونوا رُكنا من أركان النظام
السياسيّ غير الشرعيّ أي لا يكونوا من قضاته ورجال أعماله وأوتاده وجنوده التي
يبطش بها وأن يشتغل ما استطاع باستعادة ما تبقَّـى من الفطرة ونَوْشِ ما يكاد
يتلاشَـى من كرامةِ الإنسان وطمأنينته وأن يُعَلِّمَ العلمَ وينشُر الـخيرَ والمعروف
بين الناس.
ـ ومنهم دون ذلك وبين هؤلاء وهؤلاء.
وأمام هذه الوضعيّة غيرِ الشرعيّة انْزلقتْ طائفتان
تصدّرتا للفُتيا والوعظ والإرشاد والتأثير على العامة:
إحداهما: طائفة تصوّرتْ وُجوبَ إلْغَاءِ الواقِعِ
غيْرِ الشرْعِيٍّ ولزومَ إبطالِه بالقُوَّةِ أو بالحيلَةِ وهم الذين تفرّعت منهم
تنظيمات القاعدة وداعش وأخواتهما وتضرر الإسلام والعامَّةُ من تصوّرات هؤلاء.
وإنّ مَن يتعامَلُ مع الواقِعِ غيرِ الشَرعيِّ
باعتبارِه كابوسًا فِـي مَنامٍ أو وَهْمًا مِنَ الأوهام لكالذِي تـمنَّـى في نفسِه
أن يتزوّجَ حسناءَ ذَاتَ حِصْنٍ ومنْصِبٍ فلمَّا أفاقَ مِن سَكرةٍ حُلْمِه أبَى
إلا اعتبارَه واقِعا ملموسًا فانفَلَتَ شَطْرَهَا مُمْسِكًا يَدَهَا يَجْذِبُها إليهِ
بعُنْفٍ مُتطرَّفًا باعتبار حُلْمِه واقِعًا ملموسا محسوسًا على أرض الواقِع ولِيَأخُذَها
إلى حيثُ شاءَ وتَاهَ وَشَاهَ وَعَاهَ.
وثانيهما: طائفَةٌ نَذَرَتْ نَفْسَها لِتشْرِيعِ
الواقعِ غير الشرْعِيِّ والتدليسِ على العامّةِ بِلَـيِّ النصوص الشرعيّة وهم
الذين تفرّع منهم المداخلة وبعض غلاة الفقهاء المتأكِّلين بتجميل الحاكم، ويتضرّرُ
الحاكم غيرُ الشرعيِّ أكثرَ مِن انتفاعِه بهؤلاء، وكثيرا ما يكتفِـي الإسلام
السياسيُّ بدليلٍ عُرفِـيٍّ هو "تَصوُّرُ الصَّواب في مُـخالفةِ
الْـمُخَالِفِ".
ولقد غاب عن الفريقيْن مِن جمال الإسلام وكمالِه
تَعَامُله مع الواقع غير الشرعيّ كما في النماذج التالية:
أحدها:
وصْفُ وزير مصْرَ في القرآن بـ ﴿الْعَزِيزِ﴾، ووصْفُ سَيِّدِه بـ ﴿الْمَلِكُ﴾ ويَتَنَاغَمُ
مع ما في القرآن مِن وَصْفِ حاكم مصرَ الذي عاصَرَ موسَى بـ ﴿فِرْعَوْنَ﴾ وهو لقب
تفخيم وتكريم وعزّةٍ وتكرّرَ الوصفُ في القرآن، ومنها في سِياق مخاطبة موسَى
وهارون بالرسالة إليه، ويعني شَرْعِيَّةَ التعامُل مع الواقِعِ باعتباره واقِعا
ملموسًا على ظهر الأرضِ شرَعَ اللهُ التعامُل معه حِوارا وإنكارا بالعلم
والْـمَنطق بقرينة أنّ موسَى نادَى فرعون بلقبِ الْمُلكِ وطلبَ مِنه تحرير بني
إسرائيل وأنْ يُرْسلَهم معه ليخرُجَ بهم عن مملكته ويتركوه وشأنَه وبقرينة أنّ
موسى لم يأمُرْ قَوْمَه بالتوقُّفِ عن السَّخَرَةِ ولا بالتوقُّفِ عن الالتزام
بنظم آل فرعون التي عبَّدَتْهُم اعترافا مِن موسَى بواقع مُلْك فرعون ونفوذه
وجبرِيَّتِه واحترازا مِن ازدياد القهر والقتل على قوْمِه.
إنّ
في إلْزَامِ موسَى وهارون بالنصْحِ واللِّينِ لفرعونَ عَدُوِّهما وعدُوِّ قومِهما
بني إسرائيل الذي عبَّدَهم بتسخيرِ الرجالِ، وقَتَّلَ الأبناءَ ذبحا واستحْيَى النساءَ
ليُنجِبْنَ عبيدا آخرين دليلا على أنّ الانتصار للنفس لن يجتمع مع الإصلاح، وعلى
أنّ الإيمانَ بالله واليوم الآخر لن يجتمِعَ مع الحِرْصِ على إيقاعِ العدُوِّ في
الشَّرِّ، بل تلك رغبَة عدُوِّ الناسِ إبليسَ الوسواسِ الخَنَّاسِ، وإنَّما بعث
اللهُ الرسلَ مبشِّرين ومُنذِرين لإتاحَة الفُرصةِ لكل مشركٍ ومُسرِف وعاصٍ وطاغٍ
وسَفَّاح وكذّابٍ لِيَدْخُلَ في السِّلْم كافّةً وليكون مِن ورثَة دارِ السَّلام
في اليوم الآخِر.
وإن
المستضعفين المشرَّدين في مشارقِ الأرض ومغاربِها لأحْوَجُ إلى توبَة الذين
شرَّدوهم ومزَّقوهم وحرَّقوهم مِن توبةِ الوُعّاظ وحملة العمائم وحفاظِ متون فقه
الورَقِ والورِقِ، فهلَّا بذَل الْمُصلِحون جهدا في الحِوارِ لدغدغة ما تبقَّى
فيهم من الفطرة إذ هو أقْصَر الطرُقِ وأيْسَرُها إلى دَفْعِ معاناة المستضعفين.
وثانيها:
رسائلُ الرسولِ النبيِّ الأمّيِّ صلّى الله عليه وعلى ءالِه وسلم إلى الْمُلُوكِ
هرقلَ وقيصر وكسرى والْـمُقوْقِس وجفير وعبد ابني الجلندا يدعوهم إلى الإسلام
ويُـخَوِّفُهم إثمَ إضلالِ الرّعيّة بضلال الساسة اعترافا منه بواقِعٍ غيرِ شرعيٍّ
هو نفوذُهم وسلطانُهم على الرّعيّة.
وثالثها:
أن النبـيَّ يوسفَ اعترف بواقعه الجديد رغم عدم شرعيّتِه يوم باعَه السّيَّارةُ
فَأضحى عبدا مملوكا تأمُرُه امرأةُ العزيز فيخدمُها مُطيعا لم يمتنع إلا حين أمرتْهُ
بالفاحشةِ لخِيانة سيِّدِه الذي أحسن مثواه.
ورابعها:
ولد الزِّنا وهو واقِعٌ غيرُ شرعيٍّ وأثبت له الشرع حقوقَه كاملةً غيرَ منقوصةٍ.
وخامسها:
أنّ الإسلام أقرَّ شِراء العبيدِ لـتحريرِهم رغم أنّ استرقاقَهم من قبلُ لم يكن
شرعيّا بل كان بالخطف والقهر كما في نموذج سلمان الفارسي الذي غدَر به رفيقُ
القافلة فباعوه ليهوديّ واعترف النبي الأميّ صلّى الله عليه وسلمَ بمُلْكِ اليهودي
عليه فأعانَه على تحرير رقبَتِه من واقِعٍ غيرِ شرْعِيٍّ.
وسادسها:
أنه صلّى اللهُ عليه وسلّم ظلّ ثلاثة عشر عاما وهو رسول الله يطوف حول الكعبة
وحولها الأصنام لم يمسَسْها بسوء رغم علمه بأنها واقِعٌ غيرُ شرعِيٍّ.
قلتُ:
وأُقِرُّ على نفسي اليوم بتمَنِّـى التوفيق والصلاح لِكُلِّ حاكِمٍ على ظهر الأرضِ
ولو كان سفَّاحًا سَفَّاكا مِثْلَ ما أحرصُ عليه لِنفسِي بل أكثَرَ، إذ لا ينتفعُ
باستقامتـي وتوبتِـي غيرُ نفسي، أمَّا الحاكم السفَّاحُ الذي حَرَّقَ النساء
والأطفالَ وشرَّد الناسَ وعَذَّبهم في السجون وبالحصار والجوع وتهديم البيوت ففي
استقامتِه وتوبتِه أكبَرُ نَفْع ودفْعُ أكبر ضُرٍّ عن الملايين من شَعبِه.
وحرِيٌّ
بالتعذيبِ أن يتوقَّفَ لتَحُلَّ بدَلَه الابتسامة والنقاشُ الهادئُ في مراكز
التحقيق والبحث، وإلا فسيظلُّ الجلّادون رجالَ خوفٍ ومرآةً ذاتَ وجهين: وجهٌ لا
يعكس للحاكم غيرَ تربُّصِ شَعْبِهِ به، ووجهٌ لا يعكس للمتَّهمين والْمُعتقَلين
غيرَ ما يتجرّعونَه باسم الحاكم من بَطْشٍ وتنكيلٍ وإهانةٍ وتمزِيقٍ في ظلمات
الزنازين المشهورة والمغمورة والمجهولة، وستظلُّ القيودُ في ظلمات السجون وسياطُ
الجلّاد أقصرَ الطرق وأيسرَها لتخرُّج الناقمين على الحكّام والمجتمع المدني على
السواء، نقمةً اختلَّتْ معها موازينُ الأطراف المتصارعة فغلب التطرّف وأوشَكَ
الانفلاتُ ولِتقَرَّ أعيُنُ العدُوِّ الخارجِيِّ الْمُتربِّصِ.
وكان
حَرِيًّا بالمباحثِ السياسيَّة أمْن الدولَةِ إنشاءُ قسْمٍ من أهل الحِلم والرأي
من المتقاعدين يُعْنَى بإطفاء الفِتَنِ ووأْدِ الإِحَنِ بالإصلاح بين الناسِ من
جهة وبالتقريبِ بين الحكام والمحكومين من جهة أخرَى، واهتداءً بالكلِّيَّةِ
العامَّة في القرآن ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ
أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا﴾
[النساء 35] ولا يخفَى أن الشِّقاقَ بين الحاكم والمحكومين أكبرُ ضرَرا وأكثرُ
شَرَرا من الشقاق بين الزوجيْن.
ولا
يزال الحكام كذلك في فسحة من الأمر ما لم تتلطَّخْ أيدِيهم بدماء الأطفال والنساء
والعامة، فإن تلطَّخَت بسَفْكِ الدِّماء وبالتعذيب فلْيَعْلَمِ الخاصَّة من أهل
الحِلْمِ والعلم أنّ مِن المحرقة عليهم وعلى العامَّةِ محاولَةُ دَفْعِ الفِتْنَة
بالسلاح والقوة والعنفِ، وأنَّ أَيْسَرَ طرُقِ الإصلاح هي بالحوار وبالتذكير بأنَّ
اللهَ يقبَلُ توبَة العبدِ مهما أسرف وطغَى وبغى ما لم يُغَرْغِرْ وكذلك دلالة
تفصيل الكتاب المنزّلِ:
﴿إنّ
الذين فَتَنُوا المؤمنينَ والمؤمِناتِ ثم لم يتوبوا فلهم عذابُ جهنَّمَ ولهم عذابُ
الحريقِ﴾ [البروج 10].
﴿ثم
إن ربَّك للذين هاجَروا مِن بعدِ ما فَتَنُوا ثمَّ جاهَدوا وصبروا إن ربَّك من
بعدِها لغفور رحيم﴾ [النحل 110] بالتسمية في ﴿فُتِنُوا﴾ على قراءة ابن عامر
كالمتفق عليه في حرف البروج.
ويحرصُ
التكفيريون الانتحاريُّون على حِرمانِ الحكام المُسرِفين بسَفْكِ الدِّماء والفساد
في الأرض من رحمة الرحمان، ولقد أتاحَ اللهُ لفرعون أسبابَ التوبة والإنابة
والصلاح والإصلاح يوم أرسل إليه موسَى وهارون وأمهله قبل الإغراق وكذلك دلالةُ
المثاني:
﴿اذْهَبَا
إلى فرعوْنَ إنَّه طغَى فقولا له قَولا ليِّنًا لعله يتذكَّرُ أو يخشَى﴾ [طه 43 ـ
44].
﴿هل
أتاكَ حديثُ موسَى إذ ناداه ربُّه بالوادِ المُقَدَّسِ طوًى اذْهَبْ إلى فرعوْنَ
إنَّه طغَى فقل هل لك إلى أن تزَكَّى وأهْدِيَكَ إلى ربِّكَ فتَخْشَى﴾ [النازعات
15 ـ 18].
وإنَّه
لا يُضَيِّقُ رحمةَ اللهِ التي وسِعَتْ كلَّ شيءٍ إلا المحروم منها، ولو علِم
الذين زكَّوْا أنفُسَهم بالحِرْصِ على حِرمان السّفَاحين والقَتَلَة قُطَّاعِ
الطرق المُحارِبينَ من رحمة الرحمان أنّ اللهَ قد ينفعُ بتوبة أحدِ هؤلاء أكثرَ
مما ينفع بتوبة غيرِهم من أهل العلم والحِلْمِ والعامَّةِ، ولقد أعزَّ اللهُ
الإسلامَ عبر التاريخ بتوبة بعض مَن كانوا رأسَ الحربَة عليه، فليتَقِ اللهَ كهنةٌ
يُزَكُّون أنفسَهم بحرمان العصاة والمسرفين على أنفسهم فما هم بخيْرٍ مِن الرسول
النبيِّ الأمِّيِّ صلى اللهُ عليه وسلَّم المخاطَبِ في القرآن بقوله ﴿قل ما كنتُ
بِدْعًا من الرسُلِ وما أدرِي ما يُفْعَلُ بي ولا بكم﴾ [الأحقاف 9] ولن يتمكَّنَ
أحدُهم من تخصيصِ عُمومِ وَعْدِ الله الكبير المتعالي ﴿قل يا عبادِيَ الذين
أسرَفوا على أنفُسِهم إن اللهَ يغفرُ الذُّنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم﴾ [الزمر
53] والمعنى فلْيستغفروا ولْيُنيبوا إلى ربِّهم فهو غفور رحيم.
الحسن مـحمد ماديك
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه
المرحلة