فتوى في حكم سبِّ الله والنبيين والرسل
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والَاهُ، وبعد:
فقد شاعت ظاهرة طغيانِ الإنسان وتجبُّرِهِ وتكبُّرِهِ فِي الأرضِ بغير الحق بسَبِّهِ فاطِرَ السماوات والأرض أو مَلَكًا مِن الملائكةِ أو نبيّا من النبيين أو رسولا من رُسُل الله أو الصحابةَ الكرامَ الذين رضيَ اللهُ عنهم.
وتتراءى للإنسان المخلوق مِن ماءٍ مهينٍ نفسُه أكبرَ من اللهِ الكبير المتعالى فيطغَى بِسَبِّ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ علمٍ وتتراءى له نفسُه أفضل من الملائكة والنبيين والرُّسُلِ ثم من الصحابة الكرام فيسُبُّهُم.
ولقد سَفِهَ السَّابُّ نَفسَه فكان شَرًّا من إبليسَ إذ قال ﴿فَبِعِزَّتِكَ﴾[ص 82] إقرارا منه بعزِّةِ الله وبربوبيَته رغم وُقُوعِ اللعنة عليه مِن اللهِ ووعْدِه مِن الله بجهنّم في اليوم الأخِرِ.
وكان المكذِّبون رُسُلَ اللهِ عبر التاريخ يصفونهم بالجنون والسِّحْرِ والافتراء وتبِعَهم العِلمانيون المعاصِرون.
وقَبْلَ نزول القرآن قالت طائفة من أهل الكتاب بنسبة الصاحبة والولد إلى اللهِ سبحانه وتعالى عما يشركون وتَبِعَهم الجاهلون من مشركي العرب، وكذلك كانوا يقولون يوم كان القرآن يتنزل، ولا إشكالَ عندَ الفقهاء الفروعيّين.
وأفتَـى الفقهاء وغيرُهم ـ غيرَةً منهم ـ بقَتْلِ كُلِّ مسلم سبَّ اللهَ أو سَبَّ نبيًّا أو رسولا.
ولا يصحُّ تقديمُ اجتهاداتِهم وآرائِهم على كتاب الله وهدْيِ نبيِّه صلى اللهُ عليه وعلى ءالِه وسلّم إذ لم يتنزَّلْ في القرآن الإذْنُ مِن اللهِ بقَتْلِ الذِينَ قالوا إنَّ اللهَ فقيرٌ، ولا بقتْلِ الذين قالوا إنَّ اللهَ اتَّـخَذَ صاحبةً وولدًا، ولا بقتْلِ الذين قالوا يَدُ اللهِ مغلولةٌ، ولم يأمُرْ نوح وهود وصالح وشعيب وموسى ولا الرسول النبي الأمِّيُّ صحابتَهم بقَتْلِ الذين وصفوا كُلًّا منهم بأنّه ساحرٌ أو مجنون وافترى على اللهِ كذِبًا.
ويُخصِّصُ بعضُ الفقهاء عقوبةَ قتْلِ السَّابِّ بالمسلِمِ المرْتَدِّ بِسَبِّهِ ولا يَسْلَمُ استدلالُـهم البتّةَ بقرائنَ عديدةٍ منها:
ـ لم يأذَنِ النبيُّ الأمّيُّ صلّى الله عليه وعلى ءاله وسلَّم بِقتْلِ الذِين قالوا ﴿لَئِن رَّجَعْنَا إِلَـى الْـمَدِينَةِ لَيُـخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾[المنافقون 8]، وأيُّ سَبٍّ أبشَعُ مِن وصْفِ النبيِّ صلّى الله عليه وعلى ءاله وسلَّم بالذُّلِّ؟
ـ لم يأذَنِ النبيُّ الأمّيُّ صلّى الله عليه وعلى ءاله وسلَّم كما في الصحيحين بِقتْلِ ذي الخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيّ الذِي قال له (اعْدِلْ) وفي رواية (فإنَّكَ لم تَعْدِلْ) وكذلك أخبرَ القرآن عن إيذاءِ هذا المنافق بقوله تعالى ﴿وَمِنْهُم مَّنْ يَلْمِزُكَ فِـي الصَّدَقَاتِ﴾[براءة 58]، وأيُّ سبٍّ وَإيذاءٍ أكبرُ مِن سَبِّ الرَّسُول النبيّ الأمِّيِّ صلّى الله عليه وعلى ءاله وسلَّم باتِّهامِه بالْـجَوْرِ وبلَـمْزِه؟
ـ الاحتجاج بقَتْلِ كَعْبٍ بنِ الأشرف مردود لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وعلى ءاله وسلَّم قد هداه اللهُ صِراطًا مستقيما فلا يعمَلُ عملا إلا بوحْيٍ وإذْنٍ من الله، بمعنَـى أن لم يَخْرُجِ الرسولُ صلّى اللهُ عليه وعلى ءالِه وسلّمَ من بيتِه غازيا أو يُجَهِّزْ سريّة أو يَبعثْ بعثا إلا طاعة للهِ الذي أمَره بتلك الغزوة أو السريّة بذاتها كما في المثاني:
﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْـحَقِّ﴾[الأنفال 5] 
﴿وَيَقُولُ الذِينَ ءَامَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُّـحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ﴾[القتال 20]
﴿وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ﴾[براءة 86]
ويعني حرف الأنفال أن اللهَ أمَر رسولَه بالخروج من بيتِه إلى العدو بالحق وهو الوحي من الله، وأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يخرجْ من بيته اجتهادا منه أو قصد الانتقام من قريش.
ويعني حرف القتال أن قد تمنّى الصحابة بعد منتصف العهد النبوي أن يُنزِّلَ اللهُ سورة أخرى يأذن فيها بالقتال في سبيله مما يعني أنهم رغم نزول الإذن الأول في سورة الحج سيحتاجون قبل كل سرية أو غزوة إلى إذن آخر.
ولقد تجدّد في السنة التاسعة بعد الهجرة نزول حرف براءة يأمر بالجهاد مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بعد نزول الإذن الأول في حرف الحج في السنة الثانية من الهجرة.
ويعني حرف القتال وبراءة أن الإذن بالقتال في سبيل الله متجدّدٌ لن يقع الإذن بإنفاذه إلا إذا أنزلت سورة يأمر اللهُ فيها بإنفاذه على عدوٍّ معلوم مخصوص، وأن الوحيَ هو الذي يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال في كل مرة.
وكذلك قتْلُ كعب بن الأشرف كان بوحْيٍ من الله وإذْنٍ به.
وكذلك كان قَتْلُ الْـخَضِرِ الغلام بإذْنٍ من الله ووحْيٍ إليه به كما هي دلالة قوله ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾[الكهف 82]، ودلالة قوله ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدَنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾[الكهف 65].
وعلى الْـمُفتِـي بقَتْلِ السَّابِّ إثباتُ الوحْيَ إليه مِن الله بقَتْلِ مُعاصِرِه فلانٍ وفلانٍ من الكافرين أو مِن المنافقين أو مِن المستهزِئين؟
وعلى الْـمُفتِـي بقَتْلِ السَّابِّ الاستدلال بصحّةِ تقليدِه الخضِرَ بنَفْيِ اختصاص الخضِرِ بالعلم من الله حينَ قتلَ الغلام الذي أرهقَ والِدَيْهِ طغيانا وكفرا فقال لهما ﴿أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَاِنِنِـي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خًلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِـي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾[الأحقاف 17]
أمَّا الحديث النبوي "لا يحلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة" (عن ابن مسعود مرفوعا) في الصحيحين وفي سنن أبي داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم ومسند أحمد وأبي يعلى الموصلي والبحر الزخار مسند البزار، فيعني الاحتجاجُ به بقَتْلِ الْمُرتَدِّ القَولَ بنسخ وإبطال كليَّة ﴿لَا إِكْرَاهَ فِـي الدِّينِ﴾ [البقرة 256].
والحديثُ أصْلٌ في تحصين المجتمع وسِلْمِهِ الاجتماعي بتشريعِه عِقاب القاتل والزاني والْمُحارِبِ الْمُنشَقِّ المفارقِ دينَه الشَّاذِّ عن جماعة المسلمين يُفارقهم بالسَّعْيِ فيهم بالأراجيفِ وممالأة العدُوِّ، أو هو الذي يفارِقُ دِينَه ويترُك جماعته يسعَى في الأرضِ حرابة وقطْعَ طريقٍ بل لا يتأتَّى قطع الطريق ومحاربة المجتمع إلا ممن اتّصَف بالوصف في الحديث النبويّ " والمفارق لدينه التارك للجماعة".
ويلزم الحاكِمَ تعزيرُ كُلِّ مَن يُهَدِّدُ سِلْمَ المجتمع فيما دون الحدود المعلومة.
إنَّ قوله تعالى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِـي الدِّينِ﴾[البقرة 256] ليعني تقريرَ إطلاقِ اختيارِ الْمُكَلَّفين في تصوراتهم وفي سُلوكِهم وأنْ لا جَبْرَ عليهم فيه وأنَّ الحسابَ إلى الله في يوم الدِّينِ.
ولو كان الإسلامُ دِينَ إكراهٍ لَمَا صالَـحَ النبيّ الأمّيُّ صلى الله عليه وسلم قُريشًا يوم الحديبيّة على "أنّ لقريشٍ الاحتفاظَ بمَن ارتَدَّ من المسلمين واختار حِلْفَ العدُوِّ المحارِبِ ولا يَرُدُّونه إلى المسلمين".
ولو كان الإسلام دينَ إكراهٍ على الدِّين لما أعطى الزوجَةَ المسلمَة حقَ الرغبَة عن أسرَتِها وعن دِينِها لتلحَقَ بالكفَّار كما في صريح قوله تعالى ﴿وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَـى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا﴾[الممتحنة 11] ويعني عدمَ التكليفِ بقَهْرِها وجَبْرِها على دِينٍ رَغِبتْ عنه وعلى زَوْجٍ كرِهَتْه.
إن المثاني:
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الذِينَ يَـخُوضُونَ فِـي ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّـى يَـخُوضُوا فِـي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِينَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[الأنعام 68].
﴿وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِـي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّـى يَـخُوضُوا فِـي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِـي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾[النساء 140].
لتعني أنَّ المسلمين غيْرُ مأذونينَ من الله بعقاب الكافرين بآيات الله المستهزِئين بها بغير مُفارقة مجالِسِهم التي يسْتَهْزِئُون فيها.
إنّ قوله تعالى ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّـمَا كُنَّا نَـخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَسْتَهْزِئُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيـمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُـجْرِمِينَ﴾[براءة 65 ـ 66] ليعني أنَّ عقاب المستهزِئين بالله وءاياته ورسوله إلى الله وليس إلى المسلمين.
رابع شوال 1441 هـ
بقلم/ الْـحسَن ولد ماديك
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة
رئيس مركز إحياء للبحوث والدّراسات


3 التعليقات:

  1. وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَـُؤَلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ
    فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ

    ردحذف
  2. وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ
    وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

    ردحذف

 
Top