حرف الباء: تعددت معانيه:
ـ فمنها بيان القصد والنية كالابتداء باسم الله الذي شرع الطاعة.
ـ ومنها الاستعانة كالاستعانة بالله والاستعاذة به وكغرفة باليد.
ومنها التعليل والسببية كما في قوله ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ﴾ [البقرة 22] وقوله ﴿فَيَقُولُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة 26] وأخذت العزة بالإثم ألدَّ الخصام، وعاقب اللهُ في الدنيا الذين ظلَموا بظُلمهم وبما كانوا يفسقون وبعصيانهم وعدوانهم، وأخذ اللهُ بالعذاب في الدنيا قوما بذنوبهم وسيُوبِقُهم بسبب كفرهم وتكذيبهم بعذاب جهنم في اليوم الآخر.
ـ ومنها الشمول والكلية كما في قوله ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة 17] أي لم يُبْقِ لهم شيئا من الإبصار، وقوله ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة 3] أي بالغيب كله لا يستثنون منه شيئا وهو كل ما وعد اللهُ به في الكتاب المنزل، وكذلك دلالة التكليف بالإيمان بما أنزل إلى النبي الأمي وبالكتاب كله، وبالإيمان باليوم الآخر وبالملائكة والكتب المنزلة وبالرسل وبالقدر، وكذلك دلالة أن الله بكل شيء عليم وبصير وخبير، ولقد أنبأ آدمُ الملائكة بجميع أسماء المخلَصين مِن ذُرِّيّتِه، وعلم حينئِذٍ إبليس أنه لا سلطان له عليهم.
ـ ومنها العوض كالذين يشترون بأيمانهم وبآيات الله ثمنا قليلا أي يبيعونها به ويتبدلون الكفر بالإيمان
ـ ومنها التكافؤ كما في قوله ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة 178] يعني إبطال ما تعارف عليه أهل الجاهلية من باطل ومنه رفع الحر عن المؤاخذة بجريرته ووضع الأنثى والعبد عن المؤاخذة، وأقرّ القرآن أن الحرّ مأخوذ بجريرة الحرّ وكذا الأنثى وكذا العبد كل مأخوذ بجريرة نفسه وكذلك كلية ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام 164] وكما في قوله ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ [البقرة 194] أي أن لجماعة المسلمين رد الاعتداء بمثله فإن كان في الأشهر الحرم فليعتدوا فيها كما اعتدي عليهم فيها.
ـ ومنها المصاحبة والملازمة كقوله ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنْتَ لَـهُمْ﴾ [آل عمران 159] أي بما أنعم اللهُ عليك مِن رحمةٍ لازَمتْك وصحِبَتْكَ في كل أحوالِك لِنْتَ لهم ولم تكن فظًّا غليظ القلْبِ، وقوله ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ [البقرة 282] أي مستصحبا العدل في كل صغيرة وكبيرة، وقوله ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة 213] وكذا التسبيح بحمد الله كتكليف النبي الأمي بالتسبيح مستصحبا نعم الله الظاهرة والباطنة التي أتمها عليه وكذا التسريحُ بإحسان وإيتاؤُهن بالمعروف.
ـ ومنها استغراقُ التفصيل كما في قوله ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ في سياق الوعد بالمحاسبة ونفي أي جزء أو نوع من الغفلة عما قدّم المبطلون من أعمال في الدنيا، وكذلك دلالة تعدية الإيمان بالباء على الغيب المنتظر تفصيلا وظهر في التكليف بالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة وبالكتُبِ المنزّلة وبالقَدَر خيره وشرِّه، وظهر قصور تعدية الإيمان باللام على التصديق من المعاصر خاصة كقوله ﴿وَمَا أنْتَ بِـمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف 17] ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء 111] وقوله ﴿فَمَا ءَامَنَ لِـمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾ [يونس 83].
ـ ومنها اعتبارُ الجزئية والاعتداد بها في المؤاخذة كالكُفْرِ ببعض الكتاب أي بالإيمان بالتوراة وحدها أو بالإنجيل والتوراة دون القرآن، أو بالقرآن دون الغيب في ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ [عبس 13 ـ 16] وتنزّل الخطاب بشُكْرِ الصحابة الكرام على الإيمان بالكتاب كلِّهِ وتنزّل الخطاب في البقرة والرعد والمدثر وغيرها أن يُوصَل بعضُه ببعض.
إنّ قوله تعالى ﴿اقْرَأْ بِسْمِ رَبِّكَ﴾ [بداية العلق] لتعني قراءة خارقة معجزة لا يسَعُهُ صلّى اللهُ عليه وسلّم الامتناع عنها ولا عِصيانُها.
أمّا تعلُّقُ التكليف ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ فله دلالتان إحداهما أنّه مما شرعَه الله للمُكلّفين، وثانيهما تخيير العبد بين الطاعة والعصيان، فالذي يقول "﴿بِسْمِ اللهِ﴾ قبل طعامه وشرابه المباح قد أطاع الله في تكليفه ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف 31]، وإن الذي يقول ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ ويأكل الخنزير والميتة والدّم غير مضطَرٍّ قد افترى على الله كذبا وادّعى أن الله قد شرع ذلك، وإن الذي يقول ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ ويطأ زوجته قد أطاع الله في قوله ﴿وَأَحَّل لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّـحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ [النساء 24] فهي كلمة الله التي استحلَلْنا بها فروج النساء، وإن الذي يقول ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ ويزْنِـي قد افترى على الله وادّعى أن الله شرع له الزِّنا وكلّفه به وما أشبهه بسلَفه من القرامطة الذين كانوا يقرأون القرآن لابتداء الليالي الحمراء فإذا سكت القارئ أطفئت المصابيح ووقع كل رجل على من تقع يدُه عليها ولو كانت أخته أو أمه كما سنّه عليِّ ابن الفضل الجُدَني القرمطي في آخر القرن الثالث الهجري في اليمن.
إن قوله ﴿باسم الله الرحمن الرحيم﴾ ليعني أن قائلها ككاتبها يشهد على نفسه ويُقِرُّ بأنه يبتدئ فعلا هو من تكليف الله تماما كما تعني رسالة سليمان إلى ملكة سبإ والملإ معها من قومها ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـن ِالرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِـي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل 30] أن سليمانَ رسولُ الله إلى الناس وهم أعم من بني إسرائيل وأن كتابه هذا من رسالته إليهم فزيادة التكليف بحسَب زيادة العلم والتمكين.
من موسوعة القرآن "معاني المثاني" معاني كلمات القرآن وحروفه ومضمراته
الحسن مـحمد ماديك
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top