بسم اللهالرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وكن والله وبعد:
لسْتُ بصدد الحديث عن ليلة يتنزّل فيها القَدَر ـ بفتح الدال ـ ولعلها التي يتحرّاها المسلمون في العشر الأواخر من رمضان، وفَضْلُ قيامِها معلوم في الحديث النبوي الصحيح.
وإنما أنا بصدد الحديث عن ليلة القدْر المتفق على قراءتها بإسكان الدال من القُدرة  أي الليلة التي تظهر فيها قدرة الله على أعدائه المكذّبين كما في قوله تعالى ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ﴾[الزخرف 42]
وحسب النّاسُ أنَّ المنزَّل في ليلة القدْرِ هو القرآن وإنما هو النصر كما في قوله تعالى ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرْقَانِ يَزْمَ الْتَقَى الْـجَمْعَانِ﴾[الأنفال 41] وهو النصر اتفاقا تنزّلَ يوم بدر أما القرآن في شأنها فنزل بعد رجوعهم إلى المدينة وأخذِهم الفداء من الأسرى.
وكما أنزل ربّنا النصرَ أنزل العذاب في القرآن كما في قوله:
﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِـمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾[البقرة 59]
﴿إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِـمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾[العنكبوت 34]
﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ﴾[الصافات 177]
﴿وَقُلْ إِنِّـي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾[الحجر 90]
إن قوله ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِـي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ ومن المثاني معه قوله ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِـي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾[الدخان 3] هو من الماضي الذي يراد به المستقبل ومن القرائن في حرف القدر قوله ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ في خاتمة العلق طَلَبًا للنّصر على ﴿الذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّـى﴾[العلق 9] ويتوعّد بنَادِيه فتنزلت سورة القدر معلنة إجابة دعاء النبي الأمّيّ صلّى الله عليه وعلى ءالِه وسلّم في سجوده، ومن المثاني مع قوله ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ قوله ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِـي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[الشعراء 219] لدلالة السمين ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ حيث تنزَّلا في القرآن على استجابة دعاءٍ أو قبول عملٍ صالح. 
والقرينة في حرف الدخان قوله ﴿وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَـُؤَلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [خاتمة الزخرف] ويعني أن النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم سأل ربّه النصر على الذين لا يؤمنون فوقع تكليفه بالصفح عنهم وأُخبِر بأن المكذبين سيعلمون رأي العين ما وعدهم به الله في الدنيا وفي الآخرة وإن من موعوداته في الدنيا تنزل النصر من الله دونما جهد من المؤمنين في ليلة مباركة هي ليلة القدر.
واتفق الحرفان في سورة القدر وسورة الدخان على صيغة قوله ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ للدلالة على الإنزال مرة واحدة وكذلك النصر المنزل في يوم بدر نزل مرة واحدة كما في قوله ﴿إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم الْتقى الجمعان﴾ الأنفال، وأنزل الله التوراة والإنجيل دفعة واحدة لا تفاوتَ فيها ولا تراخيَ، أما القرآن فقد تنزّل مرة ومرة تنزّلا متفاوتا كما هو معلوم طيلة ثلاث وعشرين سنة.
﴿فِـي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾
إن ليلة القدر في أحرفها الثلاثة لمتفق على قراءتها بإسكان الدال أي من القدرة كما في اسمه القادر القدير المقتدر.
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾
وإن من تفصيل الكتاب وتأصيله أن قوله ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ إنـما وردت في سياق الإخبار عن غيب ذي هول وفزع منتظر بعد نزول القرآن لن يدركه النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم  في حياته كما في قوله:
﴿وما أدراك ما يوم الفصل﴾ المرسلات
﴿وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله﴾ خاتمة الانفطار
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ القارعة
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَهْ﴾ القارعة
﴿وما أدراك مَا الْـحُطَمَةُ﴾ الهمزة
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرَ﴾ المدثر
وجميعه من الغيب الموعود في يوم القيامة أو في اليوم الآخر.
وأما قوله:
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾ التطفيف
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ﴾ التطفيف
فمن الغيب المنتظر في البرزخ بعد الموت
وأما قوله ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْـحَاقَّةُ﴾ الحاقة، فهو من الغيب المنتظر في الدنيا وفي الآخرة كذلك وبينته في المعجم في مادة الحقّ.
وأما قوله ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ الطارق، فهو من الغيب المنتظر في الدنيا لا في الآخرة ومن المثاني معه قوله ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ وإنما أقسم الله به لتأكيد أنه من الغيب المنتظر كما هي دلالة القسم في القرآن، وكذلك قوله ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ هو من الغيب المنتظر بعد نزول القرآن ولن يدركه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته قبل موته.
﴿ليلة القدر خير من ألف شهر﴾
إن قوله ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ ليعني أن ألف شهر هي التي سيُمتّع فيها من سيُهلكون في فجر ليلة القدر كما في قوله ﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَـى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُـمَتَّعُونَ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَـهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِـمِينَ﴾[الشعراء 205 ـ 209] ويعني أن العذاب الموعود في فجر ليلة القدر سينتهي به مَتاع المكذبين قبله في ألْف شهر، أو سيتمُّ في مطلع فجر ليلة القَدْر اجتثاث شجرة ملعونة من المنافقين استمرُّ جبروتها وطغيانُها أَلْف شهرٍ.
وإن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب المنزّل أن الذي هو خير ليس جزءا من الذي هو أدنى، مما يعني المغايرة كما في قوله:
﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾[البقرة 263]
﴿مَنْ جَاءَ بِالْـحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾[القصص 84]
﴿فَمَا ءَاتَانِـيَ اللهُ خَيْرٌ مِـمَّا ءَاتَاكُمْ﴾[النمل 36]
ويعني أن الأذى ليس جزءا من الصدقة والمعروف، وأن مغفرة الله وجنّتَه ليست جزءا من الأعمال الصالحة في الدنيا، وأن ما آتى اللهُ سليمانَ من النبوة والملك والتمكين ليس جزءا من ملك أهل سبإٍ.
وكذلك ليلة القدر خير من ألف شهر، وليست جزءا منها كما زعم التراث أنها تأتي كل عام أو في كل رمضان أي أنها متكررة في ألف شهر ثلاثا وثمانين مرة، وإنما المعنى أن المجرمين سيُغلَبون بالنصر يتنزل على المؤمنين في ليلة واحدة هي ليلة القدر، ولا ينفعهم ما مُتِّعوا به ألف شهر قبلها وسيهلك الله فيها من الأحزاب أكثر مما قتل الأحزاب في ألف شهر قبلها من المسلمين.
وإني لأتوجس أن يهلك في فجر ليلة القدر من المجرمين أكثر مما أهلك المجرمون وعَذّبوا وحرَّقوا ومزّقوا من المسلمين في ألف شهر قبل ليلة القدر.  
﴿تنزل الملائكة والروح فيها﴾
إِنَّ قوله ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالُّروحُ فِيهَا﴾ لمن المثاني مع ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾[الأنعام 8] وقوله ﴿مَا نُنَزِّلُ الْـمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْـحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنْظَرِينَ﴾[الحجر 8]، وإنّـما سأل المشركون الذين عاصروا تنزّل القرآن إنزال ملائكة يبصرونهم ويكلمونهم يعني حرف الأنعام أنّ إنزال الملائكة إلى الأرض كما طلبوا سيقترن معه تدمير المكذِّبين أجمعين أي لا إنظار لهم بعدَه، ويعني حرف الحجر أنّ تنزُل الملائكة سيتم بالحقِّ أي ليس لأجل أن تقرّ به أعيُنُ المجرمين ولا عبثا ولا هزلا وإنما سينزل ربنا الملائكة بالحق لإنفاذ وعده بإهلاك المجرمين في آخر الأمة، فإذا تنزلت الملائكة بالعذاب  فسيسأل المكذبون التأخير ليؤمنوا ولن ينظروا كما في صريح قوله ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَـى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُـجِبْ دعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾[إبراهيم 44].
إنّ تنزُّل الملائكة في ليلة القَدْر ليس كما يتصورُه الخاصة والعامة على السواء غير محسوس بل سيراهم أهل الأرض أجمعون كما في هي دلالة المثاني:
﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَاَئِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقولُونَ حِجْرًا مَـحْجُورًا﴾[الفرقان 22]
﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِـي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدًّا حَتَّـى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾[مريم 75]
﴿حَتَّـى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا يُوعَدُونَ أَمْ يَـجْعَلُ لَهُ رَبِّـي أَمَدًا عَالِـمُ الْغَيْبِ﴾[الجن 24 ـ 26]
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَكَانِ قَرِيبٍ﴾[سبأ 51]
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْـمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَـهُمُ الْـمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَـهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّـى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْـمُنْذَرِينَ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّـى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾[الصافات 171 ـ 179]
ويعني حرف الفرقان أن الذين استكبروا وعتَوْا عُتُوّا كبيرا سيرون الملائكة مرتين أولاهما في الدنيا في ليلة القدر فيقولون حجرا محجورا إذ لا حيلة إلى الهروب ولا حول إلى أسباب النجاة كما في المثاني معه في حرف سبإ ﴿فَلَا فَوْتَ﴾، أي لن يُفلِتَ منهم أحد، وثانيهما يومَ تشقق السماء بالغمام وتتنزل الملائكة تنزيلا في يوم البعثِ فهما يومان لا تخفى المغايرة بينهما، وتضمنتِ المغايرة بينهما  أيضا كل من سورة الأنعام ومريم.
ويعني حرف مريم ـ وهو من القَول ـ ولا يقع نفاذ القَوْلِ إلا متأخرا عن حياة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قُبَيْلَ خروج الدَّابَّة ـ أن أهل الضلالة سيُستدرجون في الدنيا بما يـمُدُّهم به الرحمان من أسباب القوة والتمكين حتى إذا رأوا ما يوعدون وهو وعدان: أولهما العذاب في الدنيا كما عذّب الأولون، وثانيهما الساعة وهي أدهى وأمرّ، وفي كل من الوعدين سيعلم الضّالُّون أنهم ﴿شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾ وسيعلمون كما في حرف الجن أنهم ﴿أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا﴾، والمقارنة إنما هي بين جندِهم وناصرهم وعددهم وبين جُنودِ ربِّنَا الملائكةِ التي ستتنزل عليهم بالعذاب في الدنيا، أما في الآخرة فكما في قوله ﴿وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾[مريم 95] أي لا جنود ولا ناصر ولا عدد.
ويعني حرف سبإ أنّ المجرمين سيفزعون فزعا في الدنيا حين تتنزَّل عليهم الملائكة لِتأخذَهم من مكان قريب فيقولون ﴿ءَامَنَّا بِهِ﴾ فلا ينفعهم الإيمان بل يحال بينهم وبين ما يشتهون من المتاع والأهل وهي القرينة على أنه العذاب في الدنيا ﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِنْ قَبْلُ﴾ وهم قوم نوح وقوم لوط وعاد وثمود ومدين والأحزاب المعذبون قبل نزول القرآن.
ويعني حرف الصافات أنّ كلمات ربنا أي وَعْدَهُ بوعده رسله من الناس لم تَنْقَضِ وَأَنّ منها ما لا يزال مُنتَظَرًا وَخاطب اللهُ رسولَه النبيَّ الأمّيّ صلّى اللهُ عليه وعلى ءالِه وسلّم بانتظار نفاذِ الوعود كما هو مُقتَضَى قوله ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّـى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ أي أن حِينًا من الدهر سينقضي قبل نفاذ ذلك الوعد بنصر رُسُل ربِّنَا، وتكرر في حرف الصافات تكليف النبِـيِّ الأمِّيِّ صلّى اللهُ عليه وعلى ءالِه وسلّم بانتظار الوعد كما في قوله ﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّـى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ أي ولينزلنّ العذابُ الذي كانوا يستعجلون به ـ بعد حِينٍ من نزول القرآن ـ على ساحتِهم فيسوء صباحُهم وسيُبصرونه فلا يكذِّبُون به، وسبحان الله وتعالى علوا كبيرا أن يكلّف رسوله بالقرآن النبِـيِّ الأمِّيِّ صلّى اللهُ عليه وعلى ءالِه وسلّم بانتظار وَهْمٍ من الأوهام لا يتجاوز تسليّةً نفسيّةً.
﴿بإذن ربِّهم
إن المثاني:
﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾
﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم 64]
لظاهرة الدلالة على أن الملائكة لا تتنزل إلا بإذْنِ ربِّنا، ولى أن جبريل كان يتنزّل مع الملائكة بالعذاب على القرون الأولى، وكما يستأنس به في حرف هود في وصف ضيف إبراهيم ولوط وهم الملائكة الْمُرسلون بالعذاب إلـى قوم لوط.
﴿من كل أمر﴾
إنّ من الذِّكْرِ من الأوّلين قولَه تعالى:
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِـهَتُهُمُ التِـي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾[هود 100 ـ 101]
﴿وَلَـمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَـى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُـمُونِـي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾[الأعراف 150]
ويعني حرف هود أنّ الأمْرَ الْمُسنَدَ إلـى ربِّنا في تفصيل الكتاب المنزل يقع على استئصال المجرمين خاصة بعذابٍ لا قِبَلَ لهم به ولم يك في الحسبان، وكذلك جاء أَمْرُ رَبِّنَا طوفانًا لـمّا فار التَّنُّورُ فأغرق قومَ نوح، وجاء أمْرُ ربِّنا ريحا عقيما فأهلك عادًا الأولى، وجاء أَمْرُ رَبِّنا صيحة أخذتْ ثمود ومدين فَاصْبحوا في دارِهم جاثِمين، وأخبرتِ الملائكةُ ضيفُ إبراهيم أنّ قوم لوط ءاتيهم أَمْرُ رَبِّنا عذابا غَيْرَ مردودٍ وجاءهم حجارةً من سِجِّيلٍ منضود  
ويعني حرف الأعراف أنّ بني إسراءيل باتخاذهم العجل قد تعجّلوا أمْرَ ربِّهم أي عذابه في الدنيا.
ومن المثاني معه وعْدًا في الآخِرين:
﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ﴾
﴿وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾[القمر 3]
﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَـمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾[القمر 50 ـ 51]
ويعني حرف القدر أن كل أمْرٍ عُذِّبَ به الأولون ستتنزل به الملائكة في ليلة القدر، وأن ليلة القدر سلام على المجرمين إذ لن يصيبهم فيها شيء من العذاب حتى مطلع الفجر، فإذا طلع الفجر استقر عليهم كل أمر عذب به الأولون كما هي دلالة حرف القمر.
ويعني ثاني القمر أنّ أمْرَ ربِّنا الذي أَهلكَ به الأولين سيَهلَكُ به الآخرون فهل من عاقل يذّكّر فينجو بالإيمان من أمر ربنا الموعود.
﴿سلام هي﴾
إن قوله ﴿سلام هي﴾ لمن المثاني مع قوله ﴿في ليلة مباركة﴾ الدخان، ويعني أن ليلة القدر سلام من كل عذاب، خالية منه فهي ليلة مباركة لا عذاب فيها، وهكذا لن يقع العذاب على الشام الموصوف في الإسراء والأعراف وسبإ بالأرض المباركة والموصوف في الأنبياء بالأرض المباركة للعالَمين، ولعل أحبار اليهود علِموا من ذلك فحرصوا على احتلال فلسطين والشام كلها.
﴿حتى مطلع الفجر﴾
يعني أن سيهلَكُ جميع الأحزاب بالعذاب بعد مطلع الفجر من ليلة القدْر كما كان الصبح موعدَ إهلاك قوم لوط وموعد إهلاك أصحاب الحِجر وقوم فرعون.
إن قوله ﴿حَتَّـى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ لمن المثاني مع قوله ﴿وَالْفَجْرِ﴾ في سورته، ويعني أن الله سيدمِّر أعداءَه المجرمين المكذبين بعد  مطلع فجر ليلة القدر، أي لا سلام عليهم بعد مطلع الفجر وإنما هو الحرب من الله عليهم، وسيهلكون جميعا ـ إلا من كان منهم في الأرض المقدسة وهم الذين سيقاتلهم المسلمون في سبيل الله في ظل إمامهم ـ منهم ـ ومعه عيسى ابن مريم  في الساعة بين مطلع الفجر ومطلع الشمس كما في قوله ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ﴾ [المدثر] ومن المثاني معه قوله ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾[التكوير] لأن الملائكة التي ستتنزل في ليلة القدر ستُغِير عليهم صُبْحا كما هي دلالة قوله ﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾[العاديات ] ومن المثاني معه قوله ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَـهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّـى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْـمُنْذَرِينَ﴾[الصافات] وسيُقضى الأمرُ قبل الضحى ليتِمَّ نفاذ وعْد الله ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ لِيَعلم الناس أن رب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما ودَّعَه وما قَلاه بل شهِد على صدق رسالته إذ سيجعل غيب القرآن شهادة في صبح ليلة القدر.
إن ليلة القدْر سيدمّر الله في ساعتها بين مطلع الفجر ومطلع الشمس المجرمين المكذبين في آخر هذه الأمة بمثل ما دمّر اللهُ به سلَفهم قوم نوح وقوم لوط وبمثل ما دمّر به عادا وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب مدين وفرعون وقومه، أي أن الله سيهلك طائفة من المكذبين في آخر هذه الأمة بالطوفان والغرق وطائفة بالريح العقيم وطائفة بالصاعقة وطائفة بالصيحة وطائفة بعذاب يوم الظلة وطائفة بالخسف وأن يمطروا بحجارة من سجيل منضود كما هي دلالة قوله تعالى ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِـي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِكَافِرِينَ أَمْثَالُـهَا﴾[]
﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْـحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾[]
باختصار شديد من "مِن بيان سورة القدْر
للحسن ولد ماديك
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة











2 التعليقات:

 
Top