ثانيا: الإسلام السياسيّ:
"الإسلامُ السيّاسيّ" مُصطَلَح حمَل أكثَرَ من دلالةِ واحتفى به كثير من الناس، ورغِبْتُ عن تفسيراتهم نُفورا وخصّصْتُه بتعريف جديد.
ولعل الصحافة والجهات الرّسمية ـ أواسط القرن الرابع عشر هجري ـ اتَّخَذَتْ من عبارةِ "الإسلام السياسيّ" سِـمَةً يتميَّزُ بها تيّارُ "الإخوان المسلمون" رافِعي شعار "الحاكميّة لله" واعتبرتْه الصحافة والجهات الأمنيّة شعارا سياسيّا محضا لدلالتِه على عدمِ شرعيّة "الحكام الوطنيين" الحاكمين باسم الدساتير الوضعيّة، وتميَّزَ هذا الإسلامُ السيّاسيُّ عن جماعة التبليغ والدعوة غير الْمَعنيّة بسياسة الحكام وعن السلفيّة التقليديّة يوم كانت تكتفي بمـحاربة البدع وتضليل التصوُّف وتتناءَى عن الخَوْضِ في سياسة الحكام.
وسارع اليساريّون العرب أو مُلْـحدوهم ـ ومَنْ شايعَهم مِنَ الذين يتَّبِعون الشهوات ـ إلى تداوُل مصطلح "الإسلام السياسيّ" يشمئزُّون به مِن "البحث في الإسلام عن حلولِ قُصورِ البشريّة وشقائها وانتكاسِها بانْطِماس فِطرتِها وتلاشي إنسانِيّتِها" نفورا منهم ولإعلان موازينهم التي لا تريد للإسلام أن يـتـجاوزَ طُقوس الأوراد والأدعية والتكاليف الفرديّة التي يسمُّونها العباداتِ، فإن يتجاوزْها فهو الإسلام السياسيُّ الذي يتصوّرونه عدوَّ الـحرّيّات العامّة والدولة المدنيّة التِـي تُبِيح لكلِّ ذِي دِينٍ أو رأيٍ التَّصَدُّرَ لإرشَادِ البشرِيّة وقِيادَتِها إلا أن يتطرّفَ بِرَأيٍ أو جُهْدٍ باسم الإسلام فيتظاهَرون عليه بالإثْمِ والعُدوانِ لِعَضْلِه باسم القانون والدّولة المدنيّة كالـمُدانِ جَزائِيًّا وصدرَ بحقِّهِ حُكْمٌ قضائيّ بٍسَلْبِهِ حُقُوقَهُ الْـمَدَنِيّةَ.
وإنّـما نفَرَ اليساريّون العربُ مِن كُلِّ شِرْعَةٍ ـ باسم اللهِ الخالِقِ ـ ذَاتِ حُدُودٍ يَضِيقُ بها الذين يتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ ويكرَهُون تَفَضُّلَ الإنسان بالأخلاق على الوحوش وبهيمة الأنعام.
وظلّ مصطلح "الإسلام السياسي" سِـمَةً تتميّزُ بها التيّارات الإسلامية التي تسعى لإصلاح فسادِ الأمّة وعلى رأسِها تيار "الإخوان المسلمون" الذِي اعتمد المشاركة السياسيّة السِّلميّةَ لتغيير الأنظمة السياسيّة الوطنية وقَصُرَ عن "الْـمُعارَضة الْـمُسلّحةَ" لدى السلفيّة الجهاديّة التي اعتمدت الجهاد بالقتال.
ويشمل مصطلح "الإسلام السياسيّ" "جماعة السروريّة" التي جمعت بين العقائد على مقاس السلفيّة العلمية والإيمانِ بالحاكميّة لله وأضافت اعتماد الوعي والـخلايا السِّرِّيّة والاستفادة من التاريخ واعتبارَ الباطنيّة الصفويّة عدوًّا أوّلَ يلزم التغلّبُ عليه قبل العدو الثاني والثالث المعلومَيْن.
ولا أعتبر من الإسلام السياسيّ في شيءٍ تلكما النسختان الممجوجتان "القاعدة وداعش" وأخواتهما بل هم الْـمُكفِّرون أئمة الاغتيال والغدر بالتفجير.
وظهر التكفير واستحضارُ شعيرةِ الهجرة عن المجتمع المسلم إثْرَ انتشار التعذيبِ في السجون بطغيان سجَّانٍ لا يؤمِنُ بكرامة الإنسان ولا بالغيب طغيانا جعل جماعات التكفير والهجرة في السبعينات تُكفِّرُ الحاكم وأعوانَه والمجتمع المغلوب على أمرِه عن حماية بعض أفراده.
وسهُلَ استدراجُ الإسلاميين المحبَطين بالفقر والغِبْنِ والشعور بالذُلِّ والقهر والتضحيّةُ بهم لإيقاف الزحف الشيوعي في أفغانستان وليقاتلوا الروس نيابة عن الأمريكان وهم يحسبون بطيبوبتهم أنهم يقاتِلون في سبيل الله ولإقامة الخلافة بعيدا عن سلطان الأنظمة السياسية الوطنية، ولا تسَلْ عن نشْوة الماكرين وهم يسرقون جهود الطيّبين المغفّلين.
وتطوَّرت فكرة الانسلاخ من "المعاضة السلميّة" في نسخة "تنظيم القاعدة" ثم "تنظيم داعش" اللذيْنِ اعتمدا التفجيرات الانتحاريّة التي يُقْتَل فيها البريءُ والطبيب والْـمُدرِّسُ والمهندس والفلاح...
وانتشرتْ لدى التنظيمَيْن "القاعدة وداعش" خطيئةُ اختطافِ رهائِنَ يُفَادونهم أو يَقتُلونهم إثْرَ صراعٍ عَقَدِيٍّ أو سياسيٍّ أو اقتصاديّ أو اجتماعيٍّ قد لا يكون ضحاياه جُزْءًا منه ولعلهم ممن لا ناقَةَ له ولا جَمَلَ في الصراع.
ووقعت تنظيمات التكفير والتفجير في أخطاء منهجية باستحضارِهم خطابَ مرحلة التمكين الذي خوطب به كل من داوود وسليمان وذو القرنين في ظل تمكين خارقٍ غيْرِ مُتاحٍ لأحدٍ اليومَ، وكذلك خوطب به النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم بعد تجاوز مرحلة الدفاع بعد غزوة الأحزاب.
وأكبر من ذلك الخطأ المنهجي اعتبارُ فقهِ مرحلةِ التمكين في المتون الفقهية القديمة ناسخا ما قبله في مرحلة الدفاع وفي مرحلة الاستضعاف المحض ذي الطابع الفردي.
ولا يصح الخلط بين الإسلام السياسي ـ الإخوان والسرورية ـ وبين الجهاديين المعاصرين ـ القاعدة وداعش لاختلافهم الجذري في الكليات التالية:
أولا: قيادات الإخوان معروفة معلومة غير مستترة ولا مختفية تُزاحم جميع الفرقاء السياسيين إعلاميا وانتخابيا وخدماتيّا..، أما قيادات القاعدة وداعش فضمائرُ مُـختفية مستترة كصاحب السرداب لدى الروافض لا يصل إليها إلا أشباح مخصوصة، ولن يَرَى العاقلُ أبأسَ ولا أفلسَ مِن مخدوع مغرورٍ بشرعيَّة دَعِيٍّ مُـختفٍ لا يتمكن من تأمين نفسِه ولا يصْدُقُ عليه الوصف بأنه فئةٌ يستطيع تأمين من يأوي إليه من المستضعَفين المشرّدين الممزّقين بل يزداد المستضعفون رَهَقا وذُلّا وانحطاطا وتفرّقا بظهور دعِيٍّ يزعُمُ شرعيةَ إعلانِه الجهاد والقتال القتل والخطف وقطع الرؤوس وحرق الأسرى.
ثانيا: يُراهن الإخوان والسرورية على الوعي وانتشار الإحباط وفساد الأنظمة السياسية فهم حريصون على السِّلْمِ الاجتماعيِّ وليجعلوا من أنفسِهم بديلا سياسيا، ويُراهِن الجهاديّون المعاصرون "القاعدة وداعش" على نقض السِّلم والأمْن الاجتماعي بالخطف والقتل والاغتيال والتفجير.
ثالثا: أكثرُ قادة الإخوان شخصيات علمية ودعويّة ملتزمة معروفة يُتاح لكلٍّ التواصُل معها، وأما قادة الجهاديين المعاصرين فيُفرزُهم الحماسُ للفكرة والمخرقة على السُّذّج الطيِّبين وأغلبُهم ضبّاط مخابرات غَربية تُـمهِّدُ لإعادة احتلال بلدٍ مسلم بحجّة محاربة التطرُّف والإرهاب. 
ووقع "الإخوان المسلمون" في خطإٍ منهجيٍّ أصْمَاهم أو يكادُ بتشجيعِهم ثوراتِ الغوغاء والدّهماءِ التي خطّط لها المبشِّرون بالشرق الأوسط الجديد، وما كان للغرب الاستعماري من عَتَبٍ  على الأنظمة السياسيّة الوطنية، وإنّـما كان حريصا على إعادة الاستعمار من جديد، فكان استغلال "تيّارِ الإسلام السياسي" ما عُرف بالربيع العربي أكبرَ هديّةٍ بـحبْلِ إنقاذٍ تمسَّكَ به حكامٌ وطنيّون تمكّنوا من إقناع المبشِّرين بالشرق الأوسط الجديد بأنّ البديلَ هو "الإسلامُ السياسيّ" عدوُّهم المشترك.
إنَّ الإسلامَ السيَّاسِيّ هو "اتِّفَاقُ تيّار إسلامي على مسايَرَة النظام العالمي للاستفادة من أسباب التمكين المتاحةِ مع الاحتفاظ بسبب أو أكثَر من أسباب الحقدِ الدِّينِي والتاريخي كعنوان "المقاومة" عند الإخوان المسلمين، وعنوان الصراع التاريخي مع الروافض الباطنيين" عند السروريّة.
إنّ "الإسلامَ السيّاسيَّ" اليوم لعَلَى مُفتَرَقِ طُرُقٍ فإمَّا مُراجَعاتٌ جريئة صادقة تسْتبقِـي ما تبقَّى منهم وتسعَى لفكاك رقاب قادتِهم ورموزهم الموبَقين في السجون الوطنيّة المتعددة وإمَّا ضياعٌ يُـحرِقُ مَا تَبَقَّى من الوِلدان والنساء.
وينحصر تفاعُلُ التيّارات والأحزاب والمذاهب الإسلاميّة مع الواقع غير المحبوب في ردَّاتِ فعلٍ ثلاثٍ هي:
أولا: اعتبارُ الواقع وَهْمًا مِن الأوهام كرُؤْيَا منامٍ لا أثَرَ لَـها بعد اليقظة بما تصوَّرَ مِن عدم شرعيّتِها أو لعدم مطابقتِها لمزاجِه أو مصالِـحِه فيأبَـى إلا اعتبارَ اليومِ كالغدِ البعيد على مقاسِ ما يـحْلُم به ويتمنَّـاه، وكما هو سلوك الجهاديين المعاصرين.
ثانيا: اعتبارُ الواقعِ صورةً شاذّةً تصوّرها الإنسان في نفسِه ويكفي لتصحيحها استصحابُ أوصافِ ما اعتبرَه من الماضِي السّعيدِ، فيأبَـى إلا اعتبارَ اليومِ كالأمس البعيد دون أدنَـى تطوُّر أو تغيير وكما هو سلوك فقهاء الفروع الذين لا يملكون من أسباب الإصلاح غير استنساخ المتون القديمة.
ثالثا: اعتبارُ الواقعِ ـ عَقَبَةً ملموسةً محسوسة ويلزم التّعامُلُ معها بِـحكمة كتعامُلِ يوسُفَ مع واقع الاسترقاق غير الشرعي وكما يلزم من الإشفاق على ولَد الزنا بإحيائِه وتربيتِه، وكما يأتي تفصيله في الجزء الأخير من هذا البحث "فقه المرحلة والواقع".
يتواصل
الحسن مـحمد ماديك
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top