إن من تفصيل الكتاب المنزل أن لكل من إسناد الإذن إلى الله وإلى ربنا مدلولا خاصا به، فمما أسند إلى الله قوله ﴿وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني المائدة، ولا يخفى عود ضمير المتكلم إلى الله في قوله ﴿إذ قال الله يا عيسي ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ويعني أن عيسى قد تلقى وحيا من الله علم منه الإذن أن يخلق من الطين كهيئة الطير وإلا لكان تصوير هيئة الطير من الطين عبثا.
وأذن الله لعيسى أن يبرئ الأكمه والأبرص وأن يحيي الموتى ويعني أن الشفاعة إنما تمت بعد إذن الله الذي أذن له بها فتمت بنحو قوله قوله "أبصر أيها الأكمه وابرأ أيها الأبرص بإذن الله" أي أن الله أذن له في الشفاعة في هؤلاء المبتلين.
ويعني أن الله قد جعل عيسى روحا منه كما في قوله ﴿إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه النساء، وحرِيٌّ بالموتى في قبورهم وبالطين أن تدبّ فيهما الحياة بروح من الله وإنها لآية خارقة كالتي يرسل الله بها رسله كما في قوله:
 ـ ﴿وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله إبراهيم
ـ ﴿وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن اللهالرعد ، غافر
ويعني أن الله أذن للحادثة الخارقة أن تحدث على غير نسق نواميس الخلق وسنن الحياة فيه وهكذا كانت كل آية خارقة مع الرسل بها للتخويف والقضاء أو مع النبيين والصالحين للطمأنينة والكرامة.
وكذلك أذن الله للخارقة مع أعداء الله كالسامري الدجال.
ولا يزال الغيب يغيّب وعدا من الله نزل به القرآن ومنه قوله تعالى ﴿من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه البقرة، وقوله ﴿ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن لهسبأ، وقوله ﴿ما من شفيع إلا من بعد إذنهيونس، وقوله ﴿وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى﴾ النجم، ويعني أن سيأذن لثلاثة في آخر أجل الأمة بالشفاعة، أولئك الثلاثة متأخرون عن تنزل القرآن وهم الموصوفون بقوله ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها﴾ فاطر، وعجبي كيف أهمله المفسرون والفقهاء وغيرهم أو غاب عنهم وبينته في مادة شفع وورث وغيرهما، ولا يدخل جنات عدن غير المصطفَيْن والمقربين الأبرار، أما أصحاب الكبائر وغير المشركين فيدخلون أدنى الجنة بعد التطهير والمغفرة.
ولعل الذين يقولون :سنفعل كذا بإذن الله، لا يفقهون ما يقولون لدلالة كلامهم على أن ما يعتزمون فعله هو من شرع وأن الله هو الذي أذن بفعله، يقول أحدهم إنه فاعل ذلك غدا بإذن الله، ولو عقلوا لعلّقوا الوعد بمشيئة الله .
وإنما هو القصور في فقه كتاب الله، ومنهم من يعتبر نفسه خليفة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم على أمته يأمرها بالهجرة والجهاد ويبرم الصلح ويعلن الحرب ...
وكان من تفصيل الكتاب المنزل أن القرآن ذكر أي تضمن ذكرا من الأولين ووعدا في الآخرين ومن قبلُ وعد إسماعيل أباه أن سيجده حال الذبح مسلما صابرا راضيا بقضاء الله، وتعلّق الصبر بمشيئة الله أي أنه سيصبر ما قدّر الله عليه الصبر، واهتدى بنفس الهداية والعلم كل من موسى وهو يعد الخضر، وصالح مدين وهو يعد موسى ـ حين خاف فرعون وملأه ففرّ منهم ـ وتعلّق الصبر والصلاح بمشيئة الله أي ما قدّر الله الصلاح والصبر كأن كلا منهم يبرأ من الحوْل والقوة وتزكية النفس، وتعهد بنو إسرائيل قبيل ذبحهم البقرة أن يهتدوا إن شاء الله إليها بأوصافها، ذلكم من هدي النبوة الأولى وذكر من الأولين.
ومن الوعد في الآخرين أي مما خوطبت به هذه الأمة قوله ﴿ولا تقولنّ لشيء إني فاعلٌ ذلك غدا إلا أن يشاء الله الكهف.
وأما إسناد الإذن إلى ربنا فيعني التسخير الذي لا يقدر على مثله أحد من العالمين ومنه خروج نبات البلد الطيب، وتسخير الجن أن تعمل بين يدي سليمان، وتنزلُ الملائكة والروح فيها بإذن ربهم في ليلة القدر بشارة للمؤمنين لتخاطبهم الملائكة بقولها ﴿لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة .. فصلت، ولِنفاذِ وعد الله في الكتاب المنزل بإهلاك المجرمين كما في وعد الله ووعده الحق ﴿ما نُنَزّل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذًا منظرين  الحجر، ومن المثاني معه وعده ﴿ولو أنزلنا ملكا لقُضِيَ الأمر ثم لا ينظرون﴾ الكهف.
ومنه قوله ﴿وأُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام﴾ إبراهيم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top