دراسة نقدية حول الأسانيد والإجازات المعاصرة
بسم الله الرحمـــان الرحيم الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه وبعد:
فإن القرآن كان ولا يزال متواترا قرآنا وكتابة أي
أداء ورسما محفوظا ذينك الحفظين منذ نزّله روح القدس جبريل على قلب النبيّ الأمي
الرسول به محمد بن عبد الله الهاشمي صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله.
وأما
القراءات فقد نشأت في القرن الثاني بعد نزول القرآن باختيارات من القراء والرواة
والطرق عنهم لتفسير مسألتين اثنتين:
1.
الأحرف السبعة
التي أنزل عليها القرآن
2.
تعليل الاختلاف
في رسم المصاحف العثمانية
وتقتصر
القراءات على أحرف قليلة جدا ـ إذا ما قورنت بالمتفق عليه ـ وقع في رسمها وفي
النطق بها أي في أدائها خلاف قليل بين المصاحف العثمانية ثم خلاف آخر يدور حول
تسهيل الهمز وتحقيقها وحول الإمالة بنوعيها والفتح وحول الإدغام والإظهار وحول
الترقيق والتغليظ، وقام المصنفون من طرق الرواة بتجذيره وتأصيله ليتأتى تعدد
الروايات ولكأنهم لم يتصوروا تواتر القرآن وحفظه إلا بتعدد الاختيارات.
وتضمنت
القراءاتُ الضعيفَ والشاذَّ والوهْمَ والوضْعَ الذي منه القياس فاستحال ترادفها مع
القرآنِ المتواترِ أداؤُه حرفا حرفا كلمة كلمة منذ قرأه النبيّ الأميّ صلى الله
عليه وسلم على صحابته الكرام تواترا في كل جيل إلى يومنا هذا.
أما
الإجازات فشهادة من المجيز لا اعتراض عليها إن سلمت من التدليس والتقوّل على رجال الإسناد،
ولا تخلو إجازة القرّاء من احتمالين:
أحدهما:
إجازة بتلاوة القرآن وإقرائه كما أنزل ويلزم موافقتُها أداء أحدَ الصحابة المقرئين
بالمصاحف العثمانية ومطابقتها من غير زيادة اختيار طارئ بعدها.
ثانيهما:
إجازة بالقراءات وإقرائها ويلزم توقفها عند أحد المصنفين من طرق رواة القراءات
كابن مهران وابن مجاهد وابني غلبون ومكّيّ والداني والشاطبي وابن الجزري رحمهم
الله تعالى.
وأبدأ
بتفصيل المسألة الأولى: فاضحا الفرية الكبرى أن لا سبيل إلى معرفة الأداء الواحد
الذي أقرأ به كل واحد من الصحابة الأبرار الأخيار المقرئين بالمصاحف العثمانية،
ورغم حرص المصنفين من طرق الرواة على طمس أسمائهم واستبدال أدائهم باختيارات
متأخرة عنهم فإليكم التفصيل:
وكان الأداءُ بالمصاحف العثمانية أكبرَ مبلَّغ
بلَّغَه الصحابةُ الكرامُ، بلاغا غير خبط عشواء ولا رجما بالغيب، بل اجتمعوا واتّفقوا
وأجمعوا على المصاحف العثمانية الستة وانتدبوا لكل مصحف من المصاحف الخمسة المخصصة
للأمصار قارئا من خيار الصحابة يقرئ به الناس.
وأجمع الصحابة الكرام رضي الله عنهم على تكليف
الصحابي الكريم زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي المقرئ الفرضي رضي الله عنه بإقراء
أهل المدينة بالمصحف المدني، ولا يتأتّى الطعنُ في زيد بن ثابت رضي الله عنه بل هو
كاتب النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وأمينه على الوحي وهو أحد الذين جمعوا القرآن
في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار وهو الذي كتب المصحف لأبي الصديق رضي
الله عنه ثم لعثمان رضي الله عنه، وكان قد عرض القرآن على النبي الأمي صلى الله
عليه وسلم وقرأ على زيد من الصحابة أبو هريرة وابن عباس ومن التابعين أبو عبد
الرحمان السلمي وأبو العالية الرياحي وقيل وأبو جعفر، وتوفي زيد سنة 45هـ ويعني
أنه أقرأ بالمصحف المدني حوالي عشرين سنة.
وحمل أبو عبد الرحمان السلمي المصحف الكوفي من
المدينة النبوية إلى الكوفة وسلّمه إلى عبد الله بن مسعود بن الحارث الهذلي (ت
32هـ) ليقرئ به أهل الكوفة ومن حولهم، وأقرأ به حوالي سبع سنين، ولا يعرف العامة
عن ابن مسعود غير القراءة الشاذة أي التي تخلفت عن المصاحف العثمانية قبل الإجماع
عليها، والحقيقة أنه المقرئ بالمصحف الكوفي، قال ابن الجزري في غاية النهاية ترجمة
ابن مسعود (1914) "أحد السابقين والبدريين أسلم قبل عمر، عرض القرآن على
النبي صلى الله عليه وسلم ....وعن عبد الرحمان ابن أبـي ليلى أن ابن مسعود كان إذا
اجتمع إخوانه نشروا المصحف فقرأوا وفسّر لهم، وعن مسروق كان عبد الله يقرئنا
القرآن في المسجد ثم نجلس بعده نثبت الناس" اهـ وإنما يصف عبد الرحمان بن أبي
ليلى المصحف العثماني في الكوفة، ويصف مسروق إقراء ابن مسعود بالمصحف العثماني
كبار طلبته ومنهم مسروق نفسه وكذلك عدّدَهم ابن الجزري فقال: "عرض عليه
الأسود وتميم بن حذلـم والحارث بن قيس وزر بن حبيش وعبيد بن قيس وعبيد بن نضلة
وعلقمة وعبيد السلماني وعمرو بن شرحبيل وأبو عبد الرحمان السلمي وأبو عمرو
الشيباني وزيد بن وهب ومسروق" اهـ وكذلك دلالة الوثيقة التالية في غاية
النهاية في ترجمة سعيد بن جبير (1340) "قال إسماعيل بن عبد الملك كان سعيد بن
جبير يؤمّنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله يعني ابن مسعود وليلة بقراءة
زيد بن ثابت" اهـ وهو صريح في اصطلاحهم على تسمية الأداء بالمصحف المدني
بقراءة زيد بن ثابت والأداء بالمصحف الكوفي بقراءة عبد الله بن مسعود.
وحمل عبد الله بن السائب المخزومي المصحف المكي وأقرأ
به أهل مكة وما حولها طيلة خمس وأربعين سنة قال عنه ابن الجزري في غاية النهاية
(1775) "وروينا من طريق الشافعي رحمه الله قال مجاهد كنا نفخر على الناس
بقارئنا عبد الله بن السائب وبفقيهنا ابن عباس وبمؤذننا أبي محذورة وبقاضينا عبيد
بن عمير توفي في حدود سنة سبعين في إمارة ابن الزبير، قال ابن أبي مليكة رأيت عبد
الله بن عباس لما فرغ من دفن عبد الله بن السائب وقف على قبره فدعا له ثم انصرف"
اهــ
وحمل المغيرة بن أبي شهاب المصحف الشامي إلى دمشق
وإنما أقرأ به أبو الدرداء (ت32هـ) عويمر بن زيد الأنصاري الخزرجي حوالي سبع سنين،
قال ابن الجزري في غاية النهاية في ترجمته المرقمة برقم (2480) "حكيم هذه
الأمة وأحد الذين جمعوا القرآن حفظا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف
ولي قضاء دمشق وهو أول قاض وليها وكان من العلماء الحكماء الذين يشفون من الداء
... قال سويد بن عبد العزيز كان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا صلّى الغداة في جامع
دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه فكان يجعلهم عشرة عشرة وعلى كل عشرة عريفا ويقف هو
بالمحراب يرمقهم ببصره فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفه فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي
الدرداء فسأله عن ذلك وكان ابن عامر عريفا على عشرة فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن
عامر"اهـ
وحمل عامر بن عبد الله بن عبد قيس المصحف البصري
وإنما أقرأ به حوالي عشرين سنة عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري اليماني (ت في ذي
الحجة 44هـ) وقيل (53هـ) قال ابن الجزري في غاية النهاية (1851) "وحفظ القرآن
وعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه القرآن حطان بن عبد الله الرقاشي
وأبو رجاء العطاردي وأبقو شيخ الهنائي" اهـ
قلت: ويعني اقتصار مصاحف الأمصار على خمس قراءات حسب
المقرئين بها من الصحابة:
1. قراءة زيد بن ثابت الخزرجي الأنصاري
بالمصحف المدني
2. قراءة عبد الله بن السائب المخزومي
بالمصحف المكي
3. قراءة أبي الدرداء الأنصاري الخزرجي
بالمصحف الشامي
4. قراءة عبد بن مسعود الهذلي بالمصحف
الكوفي
5. قراءة أبي موسى الأشعري اليماني بالمصحف
البصري
وسادسها القراءة بالمصحف الإمام الذي احتفظ به عثمان
بن عفان لنفسه.
وكان إقراء أهل كل مصر وما حولهم بأداء واحد أي
برواية واحدة أو قراءة واحدة تضمنه كل مصحف على حدة، ولو أنصف الباحثون لاكتفوا
بقراءات الصحابة المقرئين بالمصاحف العثمانية الذين وقعت تزكيتهم من كتبة المصاحف
ومن الصحابة الكرام.
ولا يسعنا غير تسميتها بالقراءات كما في الوثيقتين
التاليتين:
أولاهما: في وصف الأداء الذي كان يقرأ به سعيد بن
جبير يؤم به الناس في قيام رمضان قال عنه ابن الجزري في غاية النهاية (1340)
"قال إسماعيل بن عبد الملك كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة
بقراءة عبد الله يعني ابن مسعود وليلة بقراءة زيد بن ثابت" اهـ
وثانيهما: في وصف الأداء الذي كان يقرأ به ابن عباس
قال عنه ابن الجزري في غاية النهاية (1791) "وروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس
أنه كان يقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت إلا ثمانية عشر حرفا أخذها من قراءة
ابن مسعود" اهـ
ورغم إجـماع المصنفين من طرق الرواة على أن لا مزية
للقراء السبعة ورواتهم على غيرهم من أقرانهم، فقد وقع إهمال قراءات الصحابة
المقرئين بالمصاحف العثمانية واستبدالها باختيارات متأخرة عنهم.
ويلزم الذين أصّلوا اختيار قراءات وأداءات متعددة
للمصحف الواحد أن تطعن فـي إجماع الصحابة على كل مصحف، وأن يعترفوا لأصحاب
الاختيارات المتأخرة كرويس وروْح وخلف والكسائي وحمزة بفضل وعلم أكثر مما أوتيه
السابقون الأولون من الصحابة المقرئين بالمصاحف العثمانية.
وانتشرت ظاهرة تعدّد الاختيارات وتدوينها وترويجها
واعتمادها بدل قراءات الصحابة التي أجمعوا عليها في المصاحف العثمانية.
وتتراءى الاختيارات المتأخرة عن الصحابة
ضرورية لحفظ القرآن وللعاملين التاليين:
3.
محاولة تفسير
الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن
4.
محاولة تعليل
الاختلاف في رسم المصاحف العثمانية
وهو توجيهٌ واهٍ ولا يلزم لتلقّي كل خلَف
القرآنَ عن سلفه إقصاءُ أداء الصحابة المقرئين واستبدالها باختيارات تأخر بعضها
إلى نهاية القرن الثالث الهجري.
وإنما يلزم المصنفين من طرق الرواة بدءا بابن مجاهد
وانتهاء بابن الجزري إقصاء قراءات الصحابة المقرئين واستبدالها باختيارات متأخرة
عنهم لإدراج كثير من القياس في الأداء وكان القرآن ولا يزال في غنيّا عنها رغم قول
ابن الجزري في نشره (1/13) "وإذا اشترطنا
التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء
السبعة وغيرهم" اهـ
ويعني أن قد تخلى ابن الجزري ومن
سبقه عن ركن التواتر حفاظا على كثير من الأداء في القراءات السبع والعشر وغيرها
بدافع الحرص على تعدد الروايات والقراءات وليس لأجل حفظ القرآن المحفوظ المتواتر
قبل نشأة القراءات وبعد انقراضها لو انقرضت.
ويتفق المتقدمون والمتأخرون وما بينهما
على أن قراءات طبقة التابعين الأولى أعلى سندا وأقرب إلى الأداء بالمصاحف
العثمانية وأنقى من القياس، ورغم ذلك فقد وقع انقلاب لم أحضره ولم تخف على العوام
بعض مظاهره:
ولا
يسع باحثا غير التساؤل الجادّ عن أسباب رغبة المصنفين من طرق الرواة عن إظهار
أسماء المقرئين بالمصاحف العثمانية وطمسها حتى باتت ظنّية غير قطعية تجاهلا عجيبا
من المصنفين في العصر العباسي بل تغييبا ليتأتى تقديم الاختيارات المتأخرة بدلها،
ويلزم لتفسير سلوكهم احتمالان لا ثالث لهما:
1.
الطعن
في الأداء الذي أجمع عليه الصحابة الكرام يوم كتبوا المصاحف العثمانية وتشذيذه
ويلزم منه الطعن في الأداء الذي قرأ به النبي الأمي صلوات الله وسلامه عليه وعلى
آله.
2.
مغالطة
العامة بأن الاختيارات المتأخرة هي خير من القراءة الواحدة والوجه الواحد الذي
تضمنه كل مصحف عثماني أي خير من الأداء المنزل.
وأتساءل
بعيدا عن الهزل عن مدى مطابقة الإجازات والأسانيد المعاصرة تلاوةَ القرآن وإقرائه
كما أنزل وعن دراية المجازين اليوم على ظهر الأرض ذلك الأداء الذي أقرأ به
المقرئون بالمصاحف العثمانية وتبيّنهم ما طرأ عليه من اختيارات متأخرة عنه.
وأما
المسألة الثانية: وهي الإجازة في القراءات وإقرائها، فلا اعتراض عليها إن توقفت
عند المقرئ صاحب الاختيار أي سلمت من
التدليس وإيهام الخاصة والعامة أنها هي نفسها التي أقرأ بها المقرئون بالمصحف
العثماني من غير طرُوِّ اختيارات متأخرة عليها، ذلكم أن القراءات التي بين أيدينا
هي اختيارات من نسبت إليهم من بين سيل من الروايات تلقَّوْها من شيوخهم ولتقريب
ذلك إلى العوام فإن قراءة نافع بن أبي نعيم الأصبهاني هي تركيبه أداءً واحدا مما
أقرأه شيخه أبو جعفر القارئ جندب بن فيروز وشيخه عبد الرحمن ابن هرمز وشيخه شيبة
ابن نصاح بن سرجس وشيخه يزيد ابن رومان إلى آخرهم ويعني أن نافعا قد اختار التسهيل
من قراءته على أحد شيوخه واختار التقليل من قراءته على شيخ ثان والفتح على شيخ
ثالث، وهكذا في كل حرف من أحرف الخلاف اختار من بين مروياته اختياره.
ولعل الباحثين المتجردين يعترفون بالحقيقة المرة
القاضية بأن القراءات التي بين أيدينا اليوم ليست كل واحدة منها هكذا من أولها إلى
آخرها تنزلت بل نشأت كما وصفها المحققون من المصنفين من طرق الرواة.
قال ابن الجزري في غاية النهاية في طبقات القراء في
مادة نافع بن أبي نعيم رقم (3718) "وقال الأصمعي قال لي نافع تركتُ من قراءة
أبي جعفر سبعين حرفا" اهـ
وقال الداني في جامع البيان (1/139) بإسناده إلى
اليزيدي أنه قال "كان أبو عمرو، وقد عرف القراءة فقرأ من كل قراءة بأحسنها
ومما يختار العرب وبما بلغه من لغة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجاء تصديقه
في كتاب الله عز وجل" اهـ بلفظه
وقال في جامع البيان
(1/167) ما نصه "وأخذ أبو عمرو من كل قراءة أحسنها" اهـ بلفظه
وقال
في جامع البيان (1/156) ما نصه "حدثنا محمد بن أحمد قال حدثنا ابن مجاهد قال
وكان علي بن حمزة (أي الكسائي) قرأ على حمزة ونظر في وجوه القراءات وكانت العربية
علمه وصناعته فاختار من قراءة حمزة وقراءة غيره قراءة متوسطة غير خارجة عن أثر من
تقدم من الأئمة" اهـ بلفظه.
وقال
في جامع البيان (1/156) بسنده عن أبي عبيد القاسم بن سلام ما نصه :"قال فأما
الكسائي فإنه كان يتخير من القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا" اهـ
بلفظه
وقال
ابن الجزري في غاية النهاية رقم (1283) "قال شعبة انظر ما يقرأ أبو عمرو مما
يختار لنفسه فإنه سيصير للناس إسنادا" اهـ
وقال
في غاية النهاية رقم (2212) "علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي
مولاهم وهو من أولاد الفرس من سواد العراق" وقال "وقال أبو عبيد في كتاب
القراءات كان الكسائي يتخير القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا وكان من
أهل القراءة وهي كانت علمه وصناعته ولم يجالس أحدا كان أضبط ولا أقوم بها منه،
وقال ابن مجاهد فاختار من قراءة حمزة وقراءة غيره قراءة متوسطة غير خارجة عن آثار
من تقدم من الأئمة" اهـ
ولابن
قتيبة المتوفى سنة 276 هـ في كتابه تأويل مشكل القرآن ص(58) فما بعدها نكير شديد
على قراءة حمزة واعتبر قراءته أكثر تخليطا وأشد اضطرابا قال :"لأنه يستعمل
في الحرف ما يدّعه في نظيره ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره لغير ما علة ويختار
في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة هذا إلى نبذه في
قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز بإفراطه في المدّ والهمز والإشباع وإفحاشه في
الإضجاع والإدغام وحمله المتعلمين على المركب الصعب وتعسيره على الأمة ما يسره
الله وتضييقه ما فسّحه" اهـ بلفظه
وقال
ابن الجزري في غاية النهاية عن ورش رقم ( 2090) "وله اختيار خالف فيه
نافعا" اهـ.
وقال
في النشر (1/45) "فقراءة خلف لا تخرج عن قراءة أحد منهم بل ولا عن قراءة
الكوفيين فكيف يقول أحد بعدم تواترها مع ادعائه تواتر السبع" اهـ
وقال
في النشر (1/45) "فقراءة يعقوب جاءت عن عاصم وأبي عمرو" اهـ
وقال
في غاية النهاية عن يحيى الذماري رقم (3830) "وله اختيار في القراءة خالف فيه
ابن عامر رويناه في كتاب الكامل" اهـ
وقال
في غاية النهاية عن يحيى اليزيدي رقم (3860) "وله اختيار خالف فيه أبا عمرو
في حروف يسيرة" اهـ
ومن
اختيارات المصنفين من طرق الرواة أكتفي بالنموذجين التاليين:
لقد تضمن التيسير للداني (ت 444 هـ) رحمه الله للأزرق
عن ورش طريقا أدائية هي قراءته على شيخه خلف ابن خاقان على أحمد ابن أسامة على
النحاس على الأزرق، لكنه في بعض حروف الخلاف اختار غير هذا الأداء كاختياره الفتح
في ما لا راء فيه من سورتي والنازعات ووالشمس فيما كان من الفواصل على لفظ
"ها" من ذوات الياء وتلك قراءة الداني على شيخه أبي الحسن طاهر بن غلبون،
وهو اختيار وتركيب وخلط لا يحتاجه تواتر القرآن رغم موافقته الرواية التي هي الفتح
الخالص كما هي طريق الأصبهاني عن ورش ورواية قالون وقراءة المكي والشامي وعاصم
وأبي جعفر ويعقوب.
واختار
الهذلي (ت 465هـ) في كتابه الكامل أداء في نحو ثمانين حرفا خارج طرق القراء
العشرة، وقد جمعها الشيخ جمال بن السيد رفاعي الشايب محقق كتاب الكامل في القراءات
العشر والأربعين الزائدة عليها للهذلي المغربي في مقدمة تحقيقه.
ولم
يعترض على اختيار الهذلي من عاصروه ولا لاحقوهم مما يعني أنهم كانوا لا يمنعون
اختيار المتصدرين في القراءة من الاختيار، وكذلك كانت نشأة القراءات والروايات
التي بأيدينا اليوم.
تلكم
الاختيارات كلها عبر التاريخ:
ـ
منها الصحيح المعلول بالتركيب ومزج الروايات بعضها في بعض.
ـ
ومنها المكذوب المفترى كاختيار ابن مقسم الذي لم يتقيد بتلقِّي الأداء، وكاختيار
أبي السمال قَعْنَبٍ البصري (ت160هـ) المتصرف في بناء الأفعال يجهل المعلوم ويسمي
المجهول وفي حركات الإعراب إغرابا منه قرأ به لنفسه ولم يقرئ به أحدا.
ـ
ومنها الشاذّ المتخلف عن أداء المصاحف العثمانية كاختيار ابن شنبوذ.
ـ
ومنها الشاذ عن قراءة العامة كاختيار فياض بن غزوان الضبي الكوفي رقم (2578) تلميذ
طلحة بن مصرف، وكذلك اختيار محمد بن مناذر رقم (3481) شيخ الأهوازي.
إنني
لـم أقرأ في نشأة الاختيارات بعد إجماع الصحابة على المصاحف العثمانية غير أنها
أخطر انقلاب وقع في تاريخ الإسلام، ويلزم المطمئنين بها اعتقاد تفضيل أصحاب
الاختيارات قُرّاءً ورُواةً على السواء وأنهم قد استدركوا على خيار الصحابة زيد
ثابت وأبيّ بن كعب وغيرهما من كتبة المصاحف العثمانية.
وعوْدًا
إلى تساؤلي الأول عن أسباب رغبة المصنفين من طرق الرواة عن التوقف عند الأداء الذي
اقتصرت عليه المصاحف العثمانية ولأبدأ بعرض الـمعالم والـمحطات التالية:
ـ
سبق أحمد بن جبير الفارسي الخراساني ثم الكوفي نزيل أنطاكية (ت 258ه) إلى جمع كتاب
في قراءات الخمسة من كل مصر واحد وكما في النشر (1/34) ويعني والله أعلم سعيه إلى
الأداء الأول وإعراضه عن الاختيارات بعد دراستها والقراءة بها.
ـ
توقف الحافظ أبي عبد الله الذهبي وتخليه عن القراءة والإقراء بالقراءات بعد التخصص
فيها وتوجهه على تأليف طبقات القراء واشتغاله بالحديث وتتبع رجاله بالجرح
والتعديل.
ـ
استشكال وصف المتأخرين قراءة حملة المصاحف العثمانية بالشذوذ أن رغب عنها
المتأخرون فلم يشملها اختيارهم وتأصيلهم وتـجذيرهم تعدد الروايات، وإنما يصح الوصف
بالشذوذ على ما تخلف من القراءة عن أداء المصاحف العثمانية سواء سبقها أو تأخر
عنها، وطمس المصطلح ووقع تحريفه وإيقاعه على ما تخلف عن القراءات العشر من طرق
الطيبة ولو كان مما أجمع عليه الصحابة الكرام في المصاحف العثمانية.
ـ انقلاب المصطلحات بوأد القراءة بما لم تشمله
الاختيارات من أداء المصاحف العثمانية وبفتح الباب أمام تعدد الاختيارات كما في
قول ابن الجزري في النشر (1/35 ـ 36) "أما من قرأ بالكامل للهذلي أو سوق
العروس للطبري أو إقناع الأهوازي أو كفاية أبي العز أو مبهج سبط الخياط أو روضة
المالكي ونحو ذلك على ما فيه من ضعيف وشاذ عن السبعة والعشرة وغيرهم فلا نعلم أحدا
أنكر ذلك ولا زعم أنه مخالف لشيء من الأحرف السبعة بل ما زالت علماء الأمة وقضاة
المسلمين يكتبون خطوطهم ويثبتون شهاداتهم في إجازاتنا بمثل هذه الكتب والقراءات اهـ
بلفظه.
وليت المعاصرين يكتشفون الأدلة التي أباحت لمن وصفهم
ابن الجزري رحمه الله بالعلماء وقضاة المسلمين فأفتوا بجواز قراءة القرآن بقراءات
ضعيفة وشاذة عن السبعة والعشرة يقرأ بها حتما من قرأ القرآن بمضمن كتاب الكامل
للهذلي وسوق العروس للطبري وإقناع الأهوازي وكفاية القلانسي ومبهج سبط الخياط
وروضة المالكي وغيره من أمهات النشر أي كتب المصنفين من طرق الرواة.
واختلطت المفاهيم كذلك في قول أبـي الفضل الرازي
"وأنه لو اجتمع عدد لا يحصى فاختار كل واحد منهم حروفا بخلاف صاحبه وجرّد
طريقا في القراءة على حدة في أي مكان كان وفي أي أوان أراد بعد الأئمة الماضين في
ذلك بعد أن كان ذلك المختار بما اختاره من الحروف بشرط الاختيار لما كان بذلك
خارجا عن الأحرف السبعة المنزلة بل فيها متسع إلى يوم القيامة" اهـ بلفظه
ووقع
طمس الحقيقة بقول ابن الجزري في نشره (1/7): "وجردت هذه
المصاحف جميعا من النقط والشكل ليحتملها ما صح نقله وثبت تلاوته عن النبي صلى الله
عليه وسلم" اهـ بلفظه.
ويعني لتحتملها القراءات السبع
والثلاثة معها كما رواها الرواة العشرون عن القراء العشرة، وإنها لفقرة فاقرة
قاصمة ظهر التحقيق العلمي لا تحتمل غير محاولة تبرير منهجه هو ومن سبقه من مصنفي
طرق الرواة باعتماد القراء العشرة بدل القراء الذين انتدبهم الصحابة للإقراء بالمصاحف
العثمانية.
ولا يـحتمل كلام ابن الجزري رحمه
الله إلا الإقرار بوجود النقط والشكل يومئذ، ولعله يحتاج إلى إثبات تاريـخي مؤصَّل،
وإلا فهو عين التدليس والتمويه.
ولقد
ظل البحث العلمي ضحيّة فرارِ الخاصة من إنكار العامة، أو لفرط حرص المقرئين على
التمتع بما أترفوا فيه من احترام العامة قرّبوا البحث العلميّ قربانا وإلا فما بال
المجيزين يوهمون المجاز باتصال الأسانيد في كل جزئية من القراءات بالصحابة
المقربين ثم بالنبي الأميّ ثم بالأمين جبريل ثم باللوح المحفوظ ثم بالقلم عن رب
العزة، وعجبي من الملحق الذي أثبته الشيخ الدكتور أيمن رشدي سويد حفظه الله في آخر
كتابه السلاسل الذهبية بالأسانيد النشرية من شيوخي إلى الحضرة النبوية، يعني اتصال
جميع طرق النشر إلى النبي الأمي وأثبت في آخر كتابه ملحقا يثبت اتصال أسانيد
القراء العشرة بالنبي ثم بجبريل ثم برب العزة تبارك وتعالى.
ولقد
تضمن النشر مئات الكلمات جعل لها المصنفون من طرق الرواة أداء قاسوه على نظائرها
لم تقرأ به من قبل كما في الوثيقتين التاليتين:
قال مكي ابن أبي طالب رحمه الله في آخر كتابه التبصرة
"فجميع ما ذكرناه في هذا الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام قسم قرأت به ونقلته
وهو منصوص في الكتب موجود، وقسم قرأت به وأخذته لفظا أو سماعا وهو غير موجود في
الكتب وقسم لم أقرأ به ولا وجدته في الكتب ولكن قسته على ما قرأت به إذ لا يمكن
فيه إلا ذلك عند عدم الرواية في النقل والنص وهو الأقل" اهـ بلفظه وأثبته
ابن الجزري في النشر.
وقال الداني رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه جامع
البيان (1/101) ما نصه "ولا أعدو في شيء مما أرسمه في كتابي هذا مما قرأته
لفظا، أو أخذته أداء، أو سمعته قراءة، أو رويته عرضا أو سألت عنه إماما، أو ذاكرت
به متصدرا، أو أجيز لي أو كتب به إليّ أو أذن لي في روايته أو بلغني عن شيخ متقدم
ومقرئ متصدر بإسناد عرفته وطريق ميزته أو بحثت عنه عند عدم النص والرواية فيه،
فأبحث بنظيره وأجريت له حكم شبيهه" اهـ بلفظه محل الغرض منه.
وأطأطئ
رأسي إكراما للمصنفين من طرق الرواة شاكرا لهم أمانتهم العلمية إذ لم يخلطوا
الرواية بالقياس بل فصلوهما بإعلان الرواية وبتمييز القياس، وافترى المتأخرون
لقصورهم عن تحرير الطرق فمزجوا بين الرواية وبين القياس جعلوهما شيئا واحدا.
وأعلن
أن ليس من الرواية قول مكي بن أبي طالب "وقسم لم أقرأ به ولا وجدته في
الكتب ولكن قسته على ما قرأت به إذ لا يمكن فيه إلا ذلك عند عدم الرواية في النقل
والنص وهو الأقل" اهـ.
وأعلن
أن ليس من الرواية قول الداني "أو بحثت عنه عند عدم النص والرواية فيه، فأبحث
بنظيره وأجريت له حكم شبيهه" اهـ.
ذلكم
القياس يتوفر في مئات الكلمات فما بال المجيزين المعاصرين يفترون رفع إسنادها إلى
النبيّ الأميّ ثم إلى جبريل ثم إلى الله الواحد القهار.
وانغمس
المتخصصون بعد ابن الجزري في جزئيات من القياس والضرب أبعدتهم عن العودة إلى
الأداء الأول وعن تدبر القرآن كما في زعمهم تحرير
أوجه ﴿ءالآن﴾ المستفهم بها الخمس للأزرق وأن له في الحالة الأولى سبعة أوجه وفي
الثانية تسعة أوجه وفي الثالثة والخامسة ثلاثة عشر وجها وفي الرابعة سبعة وعشرون
وجها، وكذلك في مئات الكلمات من القرآن، وتكثر هذه الأوجه وتحصيلها من الضرب في
باب المد والإمالة وكل ما فيه الوجهان لأحد الرواة في كلمات القرآن حتى بلغ به
بعضهم أربعة آلاف وجه.
وانغمس
المتخصصون المعاصرون بجمع القراءات والإجازات يستكثرون منها رغم ما فيها من
التدليس والخلط واكتفائهم بها عن تحرير الطرق وعن تدبر القرآن العجب لاستنباط ما
يهدي له من الرشد والتي هي أقوم مما نعيشه اليوم من ضعف واستضعاف وذل وصغار.
بقلم طالب العلم/ الحسن محمد ماديك
0 التعليقات:
إرسال تعليق