بــــــسم الله الرحمان الرحيم الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.
ولْيزدد المؤمنُ طمأنينةً بدراية الحديث النبوي
الصحيح "بلّغوا عنِّـي ولو آيةً" لدلالته على تقرير الاكتفاء بما
حمله إلينا صحابته الكرام من القرآن والـهَدْيِ النّبويِّ فبلغنا من طريقهم رضي
الله عنهم وجزاهم عنا أحسن الجزاء.
وكان
الأداءُ بالمصاحف العثمانية أكبرَ مبلَّغ بلَّغَه الصحابة الكرام، بلاغا غير خبط
عشواء ولا رجما بالغيب، بل اجتمعوا واتفقوا وأجمعوا على المصاحف العثمانية الستة
وانتدبوا لكل مصحف من المصاحف الخمسة المخصصة للأمصار قارئا من خيار الصحابة يقرئ
به الناس.
ولا
يزال الأداء بالمصاحف العثمانية محفوظا في أمهات القراءات للمصنفين من طرق الرواة
وزادت القراءات المعلومة كثيرا من الأداء في الأصول خاصة، زيادة لا يحتاجها تواتر
القرآن ولا ثبوته وإنما تأصيل تعدد الروايات.
واتفقت
سياسة البلاطين الأموي والعباسي على تقديم حفظ السلطة الدينية ومصالحها على حفظ
الوحيين إذ لم يَسْع الحكام إلى تحصين القرآن والـهَدْيِ النبويّ بل أدرجت فيهما
اجتهادات وليتها ظلت تراثا منه السالم السمين ومنه الغثّ ومنه الوهم والوضع إذ ليس
للتراث نفس قداسة الوحي بل يـحتمل الخطأ كاحتماله الصواب.
وطغا
على البلاط الأموي تحصين العرش بسيف العرب لإذلال الطامعين ولم يطمع فيه يومئذ غير
العرب، وكفى دليلا اتفاق ثلاثة ملوك هم عبد الملك بن مروان وابنه الوليد وأخوه
سليمان على تولية الحجاج وعلى تفويضه يُهِين أعداء العرش الأموي صحابةً وتابعيهم.
وطغا
على البلاط العباسي قبل نشأته وفي فترته الذهبية رجال من الفرس اتخذهم العباسيون
مِـجَـنًّـا يتقون بهم طموح انقلاب بيوت من العرب كما انقلب العباسيون على
الأمويين.
ولقد
كان قائد جيوش العباسيين المنقلبين هو أبو مسلم الخراساني الفارسي، وسقط اسم العرب
من الديوان وتمكن الفرس والديلم، وكان قائد جيوش الأمة في عهد المأمون هو الإفشين
المجوسي الوثني ولا تسل عما بينهما وبعده.
ولم
يبسط البلاط الأموي أذرعه بالقوة ولا أصابعَه الخفية لاختيار من يؤُمّ الأمة من
القراء والمحدثين والفقهاء بل ظلت الحركة العلمية منسابة تلقائيا.
ولا
طعن ـ معاذ الله ـ في عدالة أعلام العلم من الموالي بل هي قراءة حوادث التاريخ
وسياسة الملوك والوزراء في العصر العباسي الذي توكأ على غير العرب في سياستي
الدنيا والدين.
ولا
يسعني في هذا البحث غير الاكتفاء بمثال الإقراء.
ولقد
أعرضتْ جميع أمهات القراءات عن الأداء الذي قرأ به حملة المصاحف العثمانية وأقرأوا
به.
ولا
أجد وثيقة أدق ولا أصدق من تقرير ابن الجزري رحمه الله في مقدمة النشر في القراءات
العشر يصف فيها طبقات القراء الثلاث الأولى:
أولا:
الطبقة الأولى الخاصة بالأداء الذي أقرأ به حملة المصاحف العثمانية الخمسة وسادسها
المصحف الإمام الذي اتخذه الخليفة عثمان رضي الله عنه لنفسه، وقد طويت هذه الطبقة
طـيًّـا وأعجمت إعجاما وأبهمت إبهاما في سطر واحد حسب التفصيل التالي لابن الجزري
رحمه الله:
"وقرأ
كل أهل مصر بما في مصحفهم وتلقوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقوه من في رسول الله
صلى الله عليه وسلم" اهـ بلفظه من النشر (1/8)
ثانيا:
الطبقة الثانية: وقد حظيت ببعض النشر وبعض الإعراب كما في التفصيل التالي لابن
الجزري:
"ثم
قاموا بذلك مقام الصحابة الذين تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فممن كان
بالمدينة ابن المسيب، وعروة، وسالم، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان وعطاء ابنا
يسار، ومعاذ بن الحارث المعروف بمعاذ القارئ، وعبد الرحمان بن هرمز الأعرج، وابن
شهاب الزهري، ومسلم بن جندب، وزيد بن أسلم.
وبمكة: عبيد بن عمير، وعطاء، وطاووس ،
ومجاهد، وعكرمة، وابن أبي مليكة.
وبالكوفة: علقمة، والأسود، ومسروق، وعبيدة،
وعمرو بن شرحبيل، والحارث بن قيس، والربيع بن خثيم، وعمرو بن ميمون، وأبو عبد
الرحمان السلمي، وزر بن حبيش، وعبيد بن نضيلة، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير، وسعيد
بن جبير، وإبراهيم النخعي، والشعبي.
وبالبصرة: عامر بن عبد قيس، وأبو العالية، وأبو
رجاء، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، ومعاذ، وجابر بن زيد، والحسن، وابن سيرين،
وقتادة.
وبالشام: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي صاحب
عثمان بن عفان في القراءة، وخليد بن سعد صاحب أبي الدرداء " اهـ بلفظه من
النشر (1/8)
ثالثا: الطبقة الثالثة الخاصة بتأصيل
الأركان الثلاثة لتقرير الاختيارات بدل قراءات الصحابة الذين رافقوا المصاحف
العثمانية، وقد نشرت هذه الطبقة وأعربت كما في التفصيل التالي لابن الجزري:
"ثم تجرد قوم للقراءة والأخذ واعتنوا بضبط القراءة أتم عناية حتى صاروا في
ذلك أئمة يقتدى بهم ويرحل إليهم ويؤخذ عنهم أجمع أهل بلدهم على تلقي قراءتهم
بالقراءة بالقبول ولم يختلف عليهم اثنان ولتصديهم للقراءة نسبت إليهم (فكان
بالمدينة): أبو جعفر يزيد بن القعقاع ثم شيبة بن نصاح ثم نافع بن أبي نعيم، (وكان
بمكة):عبد الله بن كثير وحميد بن قيس الأعرج ومحمد بن محيصن، (وكان بالكوفة): يحيى
بن وثاب وعاصم بن أبي النجود وسليمان الأعمش ثم حمزة ثم الكسائي، (وكان بالبصرة):
عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء ثم عاصم الجحدري ثم يعقوب
الحضرمي، (وكان بالشام): عبد الله بن عامر وعطية بن قيس الكلابي وإسماعيل بن عبد
الله بن المهاجر ثم يحيى بن الحارث الذماري ثم شريح بن يزيد الحضرمي" اهـ
بلفظه من النشر (1/8 ـ 9)
قلت: ولا يخفى أن:
الطبقة الرابعة: هي: طبقات الرواة
ومنهم اختيار خلف
والطبقة الخامسة هي: طبقة المصنفين من
طرق الرواة ابتداء بابن مجاهد وانتهاء بابن الجزري
والطبقة السادسة هي: طبقة المقلدين
الفروعيين بعد عصر ابن الجزري إلى يومنا هذا.
ولا يسعني كباحث متجرد غير التساؤل
الجاد عن أسباب الرغبة عن الأداء الواحد في القراءة الواحدة الذي تضمنه كل مصحف من
مصاحف الأمصار، ولا تعني الرغبة عنه غير احتمالين لا ثالث لهما:
1. الطعن في الأداء الذي أجمع عليه الصحابة الكرام يوم كتبوا المصاحف العثمانية
وتشذيذه ويلزم منه الطعن في الأداء الذي قرأ به النبي الأمي صلوات الله وسلامه
عليه وعلى آله.
2. مغالطة العامة بأن الاختيارات المتأخرة هي خير من القراءة الواحدة
والوجه الواحد الذي تضمنه كل مصحف عثماني أي خير من الأداء المنزل.
ولعل تلك الاختيارات تنقسم إلى ثلاثة
أقسام:
أولا: اختيارات مندثرة
ومنها على سبيل المثال كما في غاية
النهاية:
ـ اختيار أبـي بـحرية عبد الله بن قيس
الكوفي (ت + 80هـ) رقم (1850)
ـ اختيار يزيد بن قطيب السكوني الحمصي
تلميذ أبي بحرية رقم (3881)
ـ اختيار نصر بن عاصم الليثي البصري
النحوي شيخ أبي عمرو (ت 90ه) رقم (3728)
قال ابن الجزري "ويقال إنه أول من زاد الألفين في قوله تعالى ﴿سيقولون
لله﴾ اهــ
ـ اختيار مجاهد بن جبر تابعي من أعلام
التفسير (ت 103هـ) رقم (2659)
ـ اختيار التابعي الكبير طلحة بن مصرف
(ت 112هـ) رقم (1488)
ـ اختيار قتادة بن دعامة البصري المفسر
(ت 117هـ) رقم (2611)
ـ اختيار عون العقيلي رقم ( 2479)
وتوفي شيخه نصر بن عاصم البصري قبل نهاية القرن الأول
اختيار في القراءات على قياس العربية
لأبـي عمر عيسى بن عمر الهمداني مقرئ الكوفة بعد عاصم (ت 149ه) رقم (2497)
ـ اختيار أبـي جعفر محمد بن الحسن
الرؤاسي الكوفي النحوي تلميذ أبـي عمرو البصري وشيخ الكسائي رقم (2924)
ـ اختيار العباس بن الفضل الواقفي (ت
186ه) رقم (1514)
ـ اختيار أبـي زكريا يـحيى بن سلام
البصري صاحب التفسير (ت 200هـ) رقم (3848)
ـ اختيار أبـي حيوة شريح بن يزيد (ت
203ه) رقم (1419)
ـ اختيار إسحاق الـمسيبي (ت 206ه) رقم
(734)
ـ اختيار أبي عبيد القاسم بن سلام (ت
224هـ) رقم (2590)
ـ اختيار محمد بن سعدان (ت231ه) رقم
(3019)
ـ اختيار أبـي جعفر محمد بن سعيد
البزاز الكوفي الضرير خلط روايتي خلف وخلاد فأخرج رواية يقرئ بها رقم (3027)
ـ اختيار تلميذ عاصم جُـوَيَّـة بن
عاتك رقم (919)
ـ اختيار أول ثم ثان لأبي عبد الله
محمد بن عيسى الأصبهاني (ت 253ه) رقم (3340)
ـ اختيار أبي حاتم سهل السجستاني ( ت
255ه) رقم (1403)
ـ اختيار الحسين بن مالك أبي عبد الله
الزعفراني رقم (1130)
اختيار زهير الفرقبي الكسائي المرقم في
غاية النهاية (1301)
ثانيا: اختيارات طبقات القراء والرواة
المعلومة
إن
القراءات التي بين أيدينا هي اختيارات من نسبت إليهم من بين سيل من الروايات تلقَّوْها
من شيوخهم ولتقريب ذلك إلى العوام فإن قراءة نافع بن أبي نعيم الأصبهاني هي تركيبه
أداءً واحدا مما أقرأه شيخه أبو جعفر القارئ جندب بن فيروز وشيخه عبد الرحمن ابن
هرمز وشيخه شيبة ابن نصاح بن سرجس وشيخه يزيد ابن رومان إلى آخرهم ويعني أن نافعا
قد اختار التسهيل من قراءته على أحد شيوخه واختار التقليل من قراءته على شيخ ثان
والفتح على شيخ ثالث، وهكذا في كل حرف من أحرف الخلاف اختار من بين مروياته
اختياره.
ولعل
الباحثين المتجردين يعترفون بالحقيقة المرة القاضية بأن القراءات التي بين أيدينا
اليوم ليست كل واحدة منها هكذا من أولها إلى آخرها تنزلت بل نشأت كما وصفها
المحققون من المصنفين من طرق الرواة.
قال
ابن الجزري في غاية النهاية في طبقات القراء في مادة نافع بن أبي نعيم رقم (3718)
"وقال الأصمعي قال لي نافع تركتُ من قراءة أبي جعفر سبعين حرفا" اهـ
وقال
الداني في جامع البيان (1/139) بإسناده إلى اليزيدي أنه قال "كان أبو
عمرو، وقد عرف القراءة فقرأ من كل قراءة بأحسنها ومما يختار العرب وبما بلغه من
لغة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجاء تصديقه في كتاب الله عز وجل" اهـ
بلفظه
وقال في جامع البيان
(1/167) ما نصه "وأخذ أبو عمرو من كل قراءة أحسنها" اهـ بلفظه
وقال
في جامع البيان (1/156) ما نصه "حدثنا محمد بن أحمد قال حدثنا ابن مجاهد قال
وكان علي بن حمزة (أي الكسائي) قرأ على حمزة ونظر في وجوه القراءات وكانت العربية
علمه وصناعته فاختار من قراءة حمزة وقراءة غيره قراءة متوسطة غير خارجة عن أثر من
تقدم من الأئمة" اهـ بلفظه.
وقال
في جامع البيان (1/156) بسنده عن أبي عبيد القاسم بن سلام ما نصه :"قال فأما
الكسائي فإنه كان يتخير من القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا" اهـ
بلفظه
وقال ابن الجزري في غاية النهاية رقم
(1283) "قال شعبة انظر ما يقرأ أبو عمرو مما يختار لنفسه فإنه سيصير للناس
إسنادا" اهـ
وقال في غاية النهاية رقم (2212)
"علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي مولاهم وهو من أولاد الفرس
من سواد العراق" وقال "وقال أبو عبيد في كتاب القراءات كان الكسائي
يتخير القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا وكان من أهل القراءة وهي كانت
علمه وصناعته ولم يجالس أحدا كان أضبط ولا أقوم بها منه، وقال ابن مجاهد فاختار من
قراءة حمزة وقراءة غيره قراءة متوسطة غير خارجة عن آثار من تقدم من الأئمة"
اهـ
ولابن
قتيبة المتوفى سنة 276 هـ في كتابه تأويل مشكل القرآن ص(58) فما بعدها نكير شديد
على قراءة حمزة واعتبر قراءته أكثر تخليطا وأشد اضطرابا قال :"لأنه يستعمل
في الحرف ما يدّعه في نظيره ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره لغير ما علة ويختار
في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة هذا إلى نبذه في
قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز بإفراطه في المدّ والهمز والإشباع وإفحاشه في
الإضجاع والإدغام وحمله المتعلمين على المركب الصعب وتعسيره على الأمة ما يسره
الله وتضييقه ما فسّحه" اهـ بلفظه
وقال ابن الجزري في غاية النهاية عن
ورش رقم ( 2090) "وله اختيار خالف فيه نافعا" اهـ.
وقال في النشر (1/45) "فقراءة خلف
لا تخرج عن قراءة أحد منهم بل ولا عن قراءة الكوفيين فكيف يقول أحد بعدم تواترها
مع ادعائه تواتر السبع" اهـ
وقال في النشر (1/45) "فقراءة
يعقوب جاءت عن عاصم وأبي عمرو" اهـ
وقال في غاية النهاية عن يحيى الذماري
رقم (3830) "وله اختيار في القراءة خالف فيه ابن عامر رويناه في كتاب
الكامل" اهـ
وقال في غاية النهاية عن يحيى اليزيدي
رقم (3860) "وله اختيار خالف فيه أبا عمرو في حروف يسيرة" اهـ
ثالثا: اختيارات المصنفين من طرق
الرواة ابتداء بابن مجاهد وانتهاء بابن الجزري
وأكتفي بنموذج الداني في التيسير
والهذلي في الكامل:
لقد
تضمن التيسير للداني (ت 444 هـ) رحمه الله للأزرق عن ورش طريقا أدائية هي قراءته
على شيخه خلف ابن خاقان على أحمد ابن أسامة على النحاس على الأزرق، لكنه في بعض
حروف الخلاف اختار غير هذا الأداء كاختياره الفتح في ما لا راء فيه من سورتي
والنازعات ووالشمس فيما كان من الفواصل على لفظ "ها" من ذوات الياء وتلك
قراءة الداني على شيخه أبي الحسن طاهر بن غلبون، وهو اختيار وتركيب وخلط لا يحتاجه
تواتر القرآن رغم موافقته الرواية التي هي الفتح الخالص كما هي طريق الأصبهاني عن
ورش ورواية قالون وقراءة المكي والشامي وعاصم وأبي جعفر ويعقوب.
واختار الهذلي (ت 465هـ) في كتابه
الكامل أداء في نحو ثمانين حرفا خارج طرق القراء العشرة، وقد جمعها الشيخ جمال بن
السيد رفاعي الشايب محقق كتاب الكامل في القراءات العشر والأربعين الزائدة عليها
للهذلي المغربي في مقدمة تحقيقه.
ولم يعترض على اختيار الهذلي من عاصروه
ولا لاحقوهم مما يعني أنهم كانوا لا يمنعون اختيار المتصدرين في القراءة من
الاختيار، وكذلك كانت نشأة القراءات والروايات التي بأيدينا اليوم.
تلكم الاختيارات كلها عبر التاريخ:
ـ منها الصحيح المعلول بالتركيب ومزج
الروايات بعضها في بعض.
ـ ومنها المكذوب المفترى كاختيار ابن
مقسم الذي لم يتقيد بتلقِّي الأداء، وكاختيار أبي السمال قَعْنَبٍ البصري (ت160هـ)
المتصرف في بناء الأفعال يجهل المعلوم ويسمي المجهول وفي حركات الإعراب إغرابا منه
قرأ به لنفسه ولم يقرئ به أحدا.
ـ ومنها الشاذّ المتخلف عن أداء
المصاحف العثمانية كاختيار ابن شنبوذ.
ـ ومنها الشاذ عن قراءة العامة كاختيار
فياض بن غزوان الضبي الكوفي رقم (2578) تلميذ طلحة بن مصرف، وكذلك اختيار محمد بن
مناذر رقم (3481) شيخ الأهوازي.
إنني لـم أقرأ في نشأة الاختيارات بعد
إجماع الصحابة على المصاحف العثمانية غير أنها أخطر انقلاب وقع في تاريخ الإسلام،
ويلزم المطمئنين بها اعتقاد تفضيل أصحاب الاختيارات قُرّاءً ورُواةً على السواء وأنهم
قد استدركوا على خيار الصحابة زيد ثابت وأبيّ بن كعب وغيرهما من كتبة المصاحف
العثمانية.
وعوْدًا إلى تساؤلي الأول عن أسباب
رغبة المصنفين من طرق الرواة عن التوقف عند الأداء الذي اقتصرت عليه المصاحف
العثمانية ولأبدأ بعرض الـمعالم والـمحطات التالية:
ـ سبق أحمد بن جبير الفارسي الخراساني
ثم الكوفي نزيل أنطاكية (ت 258ه) إلى جمع كتاب في قراءات الخمسة من كل مصر واحد
وكما في النشر (1/34) ويعني والله أعلم سعيه إلى الأداء الأول وإعراضه عن
الاختيارات بعد دراستها والقراءة بها.
ـ توقف الحافظ أبي عبد الله الذهبي
وتخليه عن القراءة والإقراء بالقراءات بعد التخصص فيها وتوجهه على تأليف طبقات
القراء واشتغاله بالحديث وتتبع رجاله بالجرح والتعديل.
ـ استشكال وصف المتأخرين قراءة حملة
المصاحف العثمانية بالشذوذ أن رغب عنها المتأخرون فلم يشملها اختيارهم وتأصيلهم
وتـجذيرهم تعدد الروايات، وإنما يصح الوصف بالشذوذ على ما تخلف من القراءة عن أداء
المصاحف العثمانية سواء سبقها أو تأخر عنها، وطمس المصطلح ووقع تحريفه وإيقاعه على
ما تخلف عن القراءات العشر من طرق الطيبة ولو كان مما أجمع عليه الصحابة الكرام في
المصاحف العثمانية.
ـ
انقلاب المصطلحات بوأد القراءة بما لم تشمله الاختيارات من أداء المصاحف العثمانية
وبفتح الباب أمام تعدد الاختيارات كما في قول ابن الجزري في النشر (1/35 ـ 36)
"أما من قرأ بالكامل للهذلي أو سوق العروس للطبري أو إقناع الأهوازي أو كفاية
أبي العز أو مبهج سبط الخياط أو روضة المالكي ونحو ذلك على ما فيه من ضعيف وشاذ عن
السبعة والعشرة وغيرهم فلا نعلم أحدا أنكر ذلك ولا زعم أنه مخالف لشيء من الأحرف
السبعة بل ما زالت علماء الأمة وقضاة المسلمين يكتبون خطوطهم ويثبتون شهاداتهم في
إجازاتنا بمثل هذه الكتب والقراءات اهـ بلفظه.
وليت
المعاصرين يكتشفون الأدلة التي أباحت لمن وصفهم ابن الجزري رحمه الله بالعلماء
وقضاة المسلمين فأفتوا بجواز قراءة القرآن بقراءات ضعيفة وشاذة عن السبعة والعشرة
يقرأ بها حتما من قرأ القرآن بمضمن كتاب الكامل للهذلي وسوق العروس للطبري وإقناع
الأهوازي وكفاية القلانسي ومبهج سبط الخياط وروضة المالكي وغيره من أمهات النشر أي
كتب المصنفين من طرق الرواة.
واختلطت
المفاهيم كذلك في قول أبـي الفضل الرازي "وأنه لو اجتمع عدد لا يحصى فاختار
كل واحد منهم حروفا بخلاف صاحبه وجرّد طريقا في القراءة على حدة في أي مكان كان
وفي أي أوان أراد بعد الأئمة الماضين في ذلك بعد أن كان ذلك المختار بما اختاره من
الحروف بشرط الاختيار لما كان بذلك خارجا عن الأحرف السبعة المنزلة بل فيها متسع
إلى يوم القيامة" اهـ بلفظه
ووقع طمس الحقيقة بقول ابن الجزري في نشره (1/7): "وجردت هذه المصاحف جميعا
من النقط والشكل ليحتملها ما صح نقله وثبت تلاوته عن النبي صلى الله عليه
وسلم" اهـ بلفظه.
ويعني لتحتملها القراءات السبع والثلاثة معها
كما رواها الرواة العشرون عن القراء العشرة، وإنها لفقرة فاقرة قاصمة ظهر التحقيق
العلمي لا تحتمل غير محاولة تبرير منهجه هو ومن سبقه من مصنفي طرق الرواة باعتماد
القراء العشرة بدل القراء الذين انتدبهم الصحابة للإقراء بالمصاحف العثمانية.
ولا يـحتمل كلام ابن الجزري رحمه الله إلا
الإقرار بوجود النقط والشكل يومئذ، ولعله يحتاج إلى إثبات تاريـخي مؤصَّل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق