بسم الله الرحمان الرحيم الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:
فإني أشهد أن: لا إلـه إلا الله وأن محمدا رسول الله بالقرآن ونبَّأه
إلى الناس كافّة وأن الناس قد اتخذوا القرآن مهجورا.
وإن بحثا في أصول التفسير ليُلزم بتبيان
مادة الأصول ومادة التفسير كل على حِدة قبل مناقشة إضافة الأصول إلى التفسير،
ولمناقشة ما عُرف بأصول التفسير عبر التاريخ قبل نشر إضافتي المتواضعة إليه، إضافة
أعتبرها محاولة جادّةً أَبْسُط بها ما عَقَدَه إبليس من الصراط المستقيم كما في
قوله تعالى ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الأعراف، وكان من
إيقاعه أن انغلقت معاني الكتاب المنزل انغلاقا هَوَى بالمسلمين في مكان سحيق واستهْوتْـهم
الشياطينُ في هوّة التقليد والفروع فشغلتهم عن دراية التي هي أقوم ولو استنبطوها
من القرآن العجب لاهتدوا إلى الرشد.
ولا أحسب الطوائف والفرق والمذاهب
المنتسبة إلى الإسلام ولا الحركات والتيارات والأحزاب الإسلامية تستطيع فرادى أو
مجتمعة ادِّعاء أن حال المسلمين اليوم في فلسطين وبورما والأحواز والشام والعراق وغيرها هو
الرُّشْد الذي يهدي إليه القرآن.
ذلكم دليل منطقيّ على ضرورة تجديد أصول
التفسير ليُحسِن المكلَّفون مسلمون وغيرُ مسلمين قراءةَ القرآن قراءةً أكثر من
أدائية تجعلهم يتبيّنون معانيه ودلالاته.
مادة الأصول
إن المثاني في قوله:
ـ ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا
ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ إبراهيم
ـ ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى
أُصُولِهَا﴾ الحشر
لتعني: أن ليس للشجرة فرع غير متصل
بالأصل وأن الأصل إذا اجتُثّ واقتلع سقطت الشجرة وانتفى قيامُها وتعطّلت وظائفُها.
وكانت البُكْرة أصْلا يتفرّع منه شروق
الشمس، وكان الأصيل أصْلا يتفرّع منه غروب الشمس، وفي القاموس المحيط للفيروز
أبادي: والأصيل الهلاك والموت اهـ محل الغرض منه، قلتُ: ولعله من تعريف العامِّ
ببعض جزئياته لهلاك ضوء النهار وتلاشيه بدخول وقت الأصيل الذي تتلاشى معه الشمس
وضوؤها ونهارها.
مادة التفسير
التفسير: هو كشف المغطَّى أو ما خَفِيَ
من معاني الكتاب المنزل بإبانته، ولعله من الفَسْر وهو البيان والكشف والتوضيح وحسُن
عندي توكُّؤُ أصحابِ القواميس على نظر الطبيب في بول المريض يستدلُّ به على صِحّتِه
أو مبلغِ المرض فيه ويسمّونه تفسيرا.
ورغم تخصصي في تحرير طرق القراءات الأدائية فقد قررتُ منذ خمسة عشر عاما
تتبُّع قراءات القرآن الدلالية أو ما يسمونه بالتفاسير.
ولا فرق حسب تصوري القاصر بين التفاسير العربية والترجمات، إذ كل
منهما قراءةٌ من صاحبها للمعاني والدلالات قراءةً ـ هي مبلغ علمه ـ عامّةً أو جزئيّةً
تناولت الفقهَ أو النحوَ والبلاغة أو الإعجاز العلمي ....
وأجزم غير متردد أن العرب الفصحاء الذين عاصروا تنزل القرآن قد علموا
عجزهم المطلق عن ترجمة القرآن بلسان عربي مبين، وبان أن كلا من التفسير والترجمة
إنما هو عرضُ مجموع التصورات والمعاني التي تألّفت عند المفسِّر أو المترجِم بتحويلها
إلى حروف فجمل فمجلدات قاصرة قصور الإنسان في علمه وعقله.
وأول ما وجدتُ وأجد على المفسرين والمترجمين هو إهمالهم أو تناسيهم
أو تجاهلهم إعلانَ كلية كبرى، تزيد المعترف بها حُسنا وجمالا ويتراءى بها للقراء
من بعده باحثا مجتهدا سالما من التدليس وفتنة العامة.
تلكم الكلية الكبرى هي قولهم ـ لو كانوا منصفين: "هذا التفسير
هو مبلغُ علمي وجُهدي في فهم الكتاب المنزل وأبرأ إلى الله من تقديمه على أنه هو
مراد الله علام الغيوب" اهـ
ووا عجبي من تدليس المترجمين إذ يسطرون في الصفحة الأولى أن ترجمتهم
هي القرآن باللغة كذا، ولو صدقوا لاعترفوا بأن الترجمة هي مبلغ فهم المترجم لا
أكثر إن لم يكن أقل.
وكانت ولا تزال أمهات التفسير وأصوله مرجعا مقدّسا لا يتصور العامة
ولا طلبة العلم ولا المتخصصون دلالة للكتاب المنزل خارجه، وظل المفسّر المتأخر
يستنسخ من الأمهات القديمة ويدور في فلكها.
ولا يخفى ما فيه من صدّ الناس عن تدبر الكتاب المنزل، ومن تعطيل
أدوات العلم والبحث، وأضحى المكثرون من الحفظ هم أشرف الناس وأعلاهم رتبة، وإنما
هم في الواقع نسخ أخرى إضافة إلى الورقية والإلكترونية.
نشأة أصول التفسير وتطوره
لقد تأخرت نشأة أصول التفسير بضعة قرون
من غير مبالغة تأخرا لا يعلله أو يفسره غير الاعتراف بثقل انشغال خواص الأمة في
تأليف فروع القراءات وأسانيدها ورسم المصاحف وتعليله وأسانيد الحديث والمتون
الفقهية بأقسامها ومدارسها وفروع النحو والصرف، وبثقل الصراع بين المدارس والمذاهب
والفرق المتعددة، ولو وجدوا من يقدّم لهم تأصيل التفسير كما هو أو قريبا منه
لانشغلوا عن التفرق والصراع والتمزق.
ويعني أن المتقدمين أصحاب القرون الستة
الأولى سارعوا إلى تأخير تدبر القرآن تدبرا يجعلهم يحتاجون إلى تأصيل تفسيره وأعجب
من اتفاق المتقدمين على تأصيل القراءات تأصيلا تجاوز عدد المصاحف العثمانية وتأصيل
المتون الفروعية الفقهية تأصيلا متقدما منذ القرن الثاني الهجري ولكأن مدارس
القراءات والفقه لخَّصَت القرآن أو نسخته فلم تبق منه شيئا ولكأن أصحابها مجددون
مهتدون يمشون سويا على صراط مستقيم كالذي دعا إليه القرآن ويدعو إليه النبي الأمي
صلى الله عليه وسلم.
ولقد كان لأئمة النحو قديما كسيبويه
وأبي عمرو بن العلاء القارئ والكسائي ومن بعدهم ابن مالك الأندلسي سعيٌ في تأصيل
قواعد لسان العرب وصرفه متوكئين على القرآن وعلى أشعار الجاهلية، غير أني قد
استدركت عليهم استدراكات فرضها حاجة التفسير وأصوله إلى تأصيل فقه لسان العرب فأدرجتها
في تأصيلي التفسير، وإنما وقع القصور بسبب استنساخ المتأخرين تأصيلَ أئمة النحو كسيبويه
ومعاصريه من غير العرب.
ورغم ثنائي على سبق الشافعي (ت 204ه) إلى
تأصيل الفقه في كتابه الرسالة، فقد زاغ تأصيل الفقه زيغانا بما أفرط من تتبع
الافتراضات والأقضية والأحجية فكانت لهم متون فروعية لا أصل لها في الكتاب والهدي
النبوي بل نشأت من فراغ، وسارعتُ إلى إنشاء تأصيل جديد للفقه أرجو أن يوفيه
الباحثون الجادون نصيبه من النقض والنقد.
وتأخرت نشأة علم أصول التفسير وتطوره لظهورها
مطلع القرن الخامس الهجري بأبي نصر الحدادي صاحب المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى،
وحتى ظهور كتاب التحبير في علم التفسير للسيوطي (ت 911هـ)، وظلت طيلة خمسة قرون عاجزة
عن التمييز والفصل بين التأصيل الخاص بالتفسير وبين سائر علوم القرآن ومنها التفسير
ذاته.
ونشأ في ذلك الفراغ بضعةَ قرون سَبْقُ
المعتزلة إلى الكشف عن إعجاز القرآن وبلاغته وعلم البلاغة كما لا يخفى من تأصيل
الجاحظ ( ت 255ه) مصطلح "المجاز" وإنشاء ابن قتيبة (ت 276ه) كتابه تأويل
مشكل القرآن.
ولا تزال أصول التفسير دون سن الفطام
تحبو حبوا لم تتمكن من الوقوف والاستقلال مما يعني قصور التفسير نفسه رغم توفر
الأركان الثلاثة القرآن والهدي النبوي ولسان العرب.
ولئن كان النحوُ قواعدَ سماعيةً
وقياسيةً معا وكان كل من القراءات والفقه قياسا على سماع فإن التفسير ظل ولا يزال
مدارسَ واتجاهاتٍ متعددة متخالفة ومتناقضةٍ تناقضا عريضا وأعجبُ من تناقضها اجتجاجُ
الأطراف المتباينة بنفس الآية في السورة الواحدة في السياق الواحد.
ولكأن نشأة أصول الفقه المقتصرة على
آيات الأحكام التعبدية والمعاملات كانت كالمخدّر جعل الأمة لا تتبين الحاجة القصوى
لاستنباط أصول التفسير من الكتاب المنزل والهدي النبوي.
وعجبي من مدرسة المعلم عبد الحميد
الفراهي الهندي (ت 1349ه) صاحب كتاب التكميل لمحاولتها اعتماد أصول الفقه القاصرة
الخاصة بآيات الأحكام وتقديمها كافية شافية لتأصيل التفسير، ولكأنهم اختصروا
القرآن في آيات الأحكام وجعلوا القصص والذكر والأمثال والنبوة والوعد والغيب والقول
حشْوًا ولغْوًا ليس فيها مزدجرٌ ونبأٌ عظيم هم عنه معرضون غافلون ويوم تصبح غيب
القرآن شهادة فلن يعرفوه بالقرآن لاتخاذهم القرآن مهجورا.
ويزداد عجبي مما قرره ابن تيمية في
تأصيله التفسير في كتابه مقدمة التفسير في فتاواه (ج13/329ـ375) إذ قال
(13/331):"فصل يجب أن يُعلَم أن النبي صلى الله عليه وسلم بـيَّـــــنَ
لأصحابه معاني القرآن كما بيّـــن لهم ألفاظه فقوله تعالى ﴿لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ﴾ يتناول هذا وهذا" اهـ محل الغرض منه.
والحق يقال: إن النبي الأمي صلى الله عليه وسلم قد بيّن للناس ما
نزّل إليهم كما هي دلالة قوله ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ النحل، أي أنه قد
علّمهم أن المقروء كذا وكذا هو السورة كذا
من الكتاب المنزل إلى الناس ليتبعوه ويتدبروه ولقد بيّن النبي الأمي للناس القرآن
بنهيهم أن يكتبوا عنه غير القرآن لئلا يختلط بالقرآن وتلاه عليهم وكتبوه من إملائه
عليهم وعلّمهم إياه في العرضتين الأخيرتين وما بينهما، فتمّ بيان النبي الأمي صلى
الله عليه وسلم القرآن وتركه معلوما للناس لم يختلط عليهم بالأحاديث النبوية،
وهكذا كان القرآن منزلا إلى الناس ليتسابقوا إلى تدبره، وأحسنُ الناس عملا هو
السابق إلى فهمه بتدبره ويومئذ سيتفكر الناس أن القرآن ليس كما يتخيلون غير جدير
بالتدبر والتدارس.
وكذلك بيّن النبي الأمي صلى الله عليه وسلم للناس ما نزّل إليهم من
التكاليف الشرعية في الكتاب المنزل فعلّمهم كيف يُسْلمون وكيف يتوضأون ويتطهرون
ويصلون فيخشعون ويضرعون إلى ربهم وكيف يحجون وكيف يتمثلون سائر التكاليف الفردية
ومتى وكيف يتمثلون التكاليف الجماعية كالصلح والدفع والقتال والأقضية وللمسلمين مجتمع
له سلطانه أو خليفته.
ولا يتأتى القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسّر وبيّن وأوضح
مراد الله من جميع القرآن لأن فواتح السور المعلومة من القرآن ولم يقع بيانها
ومرادها من النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بل إن من القرآن العربي غيرها ما لا
يزال مغلقا إلى يومنا هذا ولن يزال مغلقا حتى يأتي تأويله في الدنيا أي يصبح غيب
القرآن شهادة في الدنيا فإذا البشرية في آخر الحياة الدنيا قد شهدت وحضرت حوادث قد
سبق بيانها وذكرها في القرآن العجب منذ عشرات القرون، ولا سبيل إلى الهداية يومئذ
إلا بالقرآن كما في قوله ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ سَيُريكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾
أي يعرفون الحق ومنه الآيات الخارقة للتخويف والقضاء بالقرآن الذي تضمن الوعد بها
وتضمن تفصيلها ووصفها.
إن
الأمة اليوم لفقيرة فقر المضطر إلى تأصيل جديد للتفسير تتبين منه كليات تيسّر لكل
باحث ومتدبر أسباب فقه الكتاب المنزل.
تعريف
أصول التفسير
وألخّصُ تعريف السابقين والمعاصرين أصول التفسير بأنها "قواعد
وأسس يتوصل بها إلى الفهم الصحيح ودراية ما يتراءى من قبيل الاختلاف".
وأقول: إن أصول التفسير هي قواعد تنشأ
باستقراء الكتاب المنزل واستنطاقه تطّرد ولا تنخرم يهتدي بها المتدبر إلى
أن القرآن العظيم أعظم مما تخيله المفسرون، تتراءى بها معانيه أكثر عمقا ودلالة
ليعلم علم اليقين أنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق