الباب الأول: الفصل الأول: دلالة
الكتاب
دلالة كتب في الكتاب المنزل
إن من تفصيل الكتاب أن لفعل كتب معان متعددة تتفق كلها على المصاحبة
واللزوم وعدم النقض أو النسخ، وهي حسب السياق والقرائن:
أولاها: بمعنى فرض على المكلفين من المؤمنين
بالغيب خاصة وقد وردت تعديتها بحرف الجر "على" كما في قوله ﴿إِنَّ
الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ﴾ النساء، أي
ألزمهم فريضة فرضت عليهم في أوقات معلومة.
وفرض الله على الذين آمنوا أي ألزمهم الصيام
والقصاص في القتلى وفرض عليهم بعد تجاوز مرحلة الاستضعاف القتال أي في مرحلتي
الدفاع والتمكين، وفرض ليتامى النساء مهرا كاملا ألزم به من يتزوجهن ولو كان من
الأولياء الكافلين.
وإنما وقع الخطاب والتكليف بجميع الفروع على
المسلمين وأجيب من اعترض بقوله تعالى ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا﴾ آل عمران، بصريح تخصيصه وتبيانه بقوله تعالى ﴿إنما المشركون نجس فلا يقربوا
المسجد الحرام بعد عامهم هذا﴾ براءة.
وسيهتدي الراشدون بالقرآن إلى فرائض كثيرة ـ هي
من الرشد ومن التي هي أقوم ـ ولم يقع بعد التكليف بها والله المستعان ومنها قوله ﴿وَلَوْ
أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ
دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ النساء، وبينتها في مادة خرج
ومادة قتل من معجم معاني كلمات القرآن وحروفه.
ولم تفرض الرهبانية على الذين اتبعوا النبي
عيسى وإنما ابتدعوها.
ثانيها: بمعنى النصيب من الكتاب القدَر المقدور
المحتوم اللازم ووردت تعديتها بحرف الجر على كما في قوله ﴿قُل لَّوْ كُنْتُمْ فِي
بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾
آل عمران، ويعني أن لكل منا مضجعا كتب عليه تقبض روحه فيه موتا أو قتلا.
ووردت تعديتها باللام كما في قوله:
ـ ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا
كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾ البقرة
ـ ﴿قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ
اللهُ لَنَا﴾ براءة
ويعني حرف البقرة التكليف بجماع الأزواج
والتنبيه إلى أن الجماع ليس هو الذي يأتي بالولد وإنما هو سبب يُبْتَغي به النصيب
من الولد.
ويعني حرف براءة أن لن يصيب ابن آدم من الآفات
والمصائب إلا نصيبه منها المقدّر عليه من قبل.
وثالثها: بمعنى التخصيص والإثبات والدوام ووردت
تعديتها باللام كما في قوله ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا
لِلذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالذِينَ هُم بِآيَاتِنَا
يُؤْمِنُونَ﴾ الأعراف، وهو مما نبَّأَ الله به موسى حين آتاه التوراة أن سيخصّ
برحمته التي وسعت كل شيء أولئك المتقين في آخر أجل البشرية ويثْبتها لهم فلا تتحول
عنهم وإنما المتقون في تفصيل الكتاب المنزل هم عباد الله الصالحون الناجون من
العذاب الذي أهلك الله به المكذبين من قبل وسيهلِك بمثله المكذبين المجرمين في آخر
هذه الأمة وبينته في مادة وقى.
ورابعها: دلالتها على الإيجاد والتثبيت وأن لا
يلحقه نسخ ولا تبديل كما في قوله ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾
المجادلة، ويعني أن الله قد أنعم الله على الذين تبرأوا من أعداء الله ولو كانوا
أولي قربى فأثبت في قلوبهم الإيمان فلا يدخلها كفر ولا نفاق.
وخامسها: دلالتها على الكتابة المعلومة كما في
قوله ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ
وَلْيُمْلِلِ الذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ البقرة
كتابة أعمال المكلفين
وإن من العجب أن من الكتاب ما لم تفهمه البشرية بعد إذ قد تتأخّر عن
أكثر الناس كتابة أعمالهم إلى يوم الحساب والملائكة الشهود حاضرون فإن أقرّ كُتبت
وإن أنكر خُتم على فمه ويُنطق الله الذي أنطق كل شيء جلودهم وتشهد أيديهم وأرجلهم،
ثم يُوبَقُ بما عُرض عليه من أعماله السيئة أي بما لم يغفره الله منها وبينته في
مادة غفر.
إن كتابة الأعمال ليست كما يتصوره العامة تقع في حياة المكلف
بل هي حسب التفصيل التالي:
أولا: أعمال لا تقع كتابتها إلا في يوم الدين كما في:
ـ قوله ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي
الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ
فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ يس، ويعني أن أعمال المكلفين لن تكتب في
حياتهم الدنيا وإنما بعد البعث حين يقوم الحساب كما في صريح صيغتي الاستقبال في
فعليْ إحياء الموتى وكتابة أعمالهم.
ـ وقوله ﴿أَفَرَأَيْتَ الذِي كَفَرَ
بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ
اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ
لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ مريم، ويعني أن الذي كفر بآيات ربه وزعم أن لو بعث
فسيؤتى مالا وولدا ـ وهو مما مضى يوم نزل الكتاب على خاتم النبيين صلى الله عليه
وسلم ـ لم تقع بعد كتابة مقالته وإنما سيكتب ما يقول بصيغة المستقبل إذ سيعرض عليه
يوم الحساب فيراه بأم عينيه فيكتبه الحفظة الكرام الكاتبون وهم الشهود عليه في
الدنيا ويعذب ويمدّ له العذاب مدّا.
ـ وقوله ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الذِينَ قَالُوا
إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقِّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ عمران،
ويعني أن الذين قالوا إن الله فقير ووصفوا أنفسهم بأنهم أغنياء وقتلوا النبيين
بغير حق ـ ولا يخفى أنهم كانوا قبل خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بِعِدّةِ قرون
ـ لم يكتب قولهم ولا قتلهم الأنبياء بعد، وإنما سيكتب يوم الحساب وهم يرون أعمالهم
تعرض عليهم ويقول ذوقوا عذاب الحريق أي يعذبهم في نار جهنم ولا يظلم ربنا أحدا.
ـ وقوله ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الذِينَ
هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ
شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ الزخرف، ويعني أن الله وعد أن تكتب يوم القيامة
شهادة الذين جعلوا الملائكة إناثا ويسألون عنها حينئذ، وكانوا من المشركين قبل
النبي الأمي صلى الله عليه وسلم ومن معاصريه.
وأما قوله ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ
كَاتِبُونَ﴾ الأنبياء، فهو صريح الوعد بكتابة الأعمال الصالحة وإثباتها للمؤمنين
في يوم الدين ليجزوا بها في اليوم الآخر، وتأخرت كتابتها حتى لا ينسخها كفر أو
رياء أو نفاق أو شرك أو موبق من الموبقات أو إثم من الآثام محبط عمله الصالح
المتقدم.
وأما قوله ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ الانفطار، فيعني أن الملائكة الذين يحفظون العبد في
الدنيا هم الشهود عليه يوم الحساب لأنهم يعلمون ما يفعل في الدنيا أي يرونه لا
يغيب عنهم منه شيء، ولا يعني علمهم ما يفعله العباد كتابته في الدنيا.
ثانيا: أعمال صالحة تكتب مباشرة في الدنيا حين يعملها صاحبها كما في قوله
﴿ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا
بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا
يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله
لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب
لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون﴾ براءة، ولا يخفى تخصيصه بالأعمال الموصوفة
بأنها في سبيل الله كالهجرة والإنفاق والقتال والجهاد في سبيل الله ممن وقع عليهم
الخطاب والتكليف في ظل نبوة أو رسالة فأطاعوا، وجزاهم ربهم بكتابة أعمالهم مباشرة
دلالة على أن الله قد تقبّلها منهم وسيجزيهم بها كما هي دلالة الحديث النبوي
الصحيح "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت
لكم" وتأوّل بها النبي الأمي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ﴿لولا كتاب من
الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم﴾ الأنفال، ويعني الحسنى التي سبقت من الله
كما في قوله تعالى ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون
حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة
هذا يومكم الذي كنتم توعدون﴾ الأنبياء.
ويعني حرفا براءة أن كتابة العمل الصالح في الدنيا أمان لصاحبه من
فتن الرياء والنفاق والكفر والشرك وغيرها من المحبطات الموبقات.
ثالثا: مكر وعمل سيء من المنافقين حادّوا الله ورسوله كتبه الله في
الدنيا أي أثبته لهم فلا يتوبون منه بل زهقت أنفسهم على الكفر ولن يغفره الله لهم
في يوم الدين أي سيعذبون به كما في قوله تعالى ﴿ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك
بيّت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيّتون فأعرض عنهم وتوكل على الله
وكفى بالله وكيلا﴾ النساء.
رابعا: سعي المجرمين المكذبين آيات ربهم الخارقة مع الرسل بها يكتبه
الملائكة الكرام الكاتبون في الدنيا كما كتب إجرام قوم نوح وقوم لوط وكذا عاد
وثمود ومدين الذي عذّبوا به في الدنيا، وسيكتب كذلك في الدنيا أعمال المجرمين في
آخر هذه الأمة ويعذبون به في الدنيا كما في قوله ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّه فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي
مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّنْ بَعْدِ
ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ
مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ يونس.
إن كتابة الأعمال السيئة التي يكتبها الملائكة
الكرام الكاتبون لمقترنة بالمؤاخذة والمحاسبة عليها تلازما لا ينفصلان بحال من الأحوال
سواء وقعت الكتابة في الدنيا أو في الآخرة، إنصافا وعدلا ممن لا يظلم الناس شيئا
وإنما الناس يظلمون أنفسهم.
دلالة الكتاب في الكتاب المنزل
إن الكتاب والقرآن في كلامنا كلمتان مترادفتان
لدلالة كل منهما على ما بين دفتي المصحف، وهو الكتاب أي المكتوب، وهو القرآن أي
المقروء، ولإثبات قصور هـذا الإطلاق في كلامنا فإن من تفصيل الكتاب أن قد وردت
للفظ الكتاب في المصحف عشرة معان هي:
أولاها: بمعنى المكتوب كما في قوله: ﴿وَلَا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحَ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ البقرة، وعلى
المتربصة بنفسها أربعة أشهر وعشرا إن لم تكن من أولات الأحمال أن تكتب يوم ابتدأت
العدةَ ليبلغ الكتاب أجله المعلوم وهو انقضاء العدة، ولكأن العدة دَيْن عليها
ووجبت كتابة الدَّيْن.
وعلى المكاتب أن يجعل لنفسه أجلا معلوما يفتدي
به من الرق وليكتب ذلك الأجل يوم ابتدئ العقد.
والكتاب الذي حمله الهدهد إلى ملكة سبإ هو
رسالة سليمان المعلومة.
وثانيها: بمعنى الفريضة على المكلفين كما في قوله ﴿إِنَّ
الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ النساء، أي فريضة
فرضت عليهم في أوقات معلومة، وكما في قوله ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ
إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ النساء، يعني أن
تحريم المذكورات فريضة من الله عليكم.
وثالثها: اللوح المحفوظ كما في قوله:
ـ ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ
الْأُولَى قَالَ عِلْمُاَ عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ﴾ طـه
ـ ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ
الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ سورة ق
ـ ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ
إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا﴾ آل عمران
ولا يصح وصف اللوح المحفوظ بالمبين
لاستحالة الاطلاع عليه من جانب المخاطبين بالكتاب المنزل.
ورابعها: الصحف التي سيؤتاها يوم يقوم الحساب صاحب
اليمين بيمينه وصاحب الشمال بشماله وأشقى منه وراء ظهره، وتعني الأعمال الفردية
التي لم يشترك معه غيره فيها.
وخامسها: كتاب كل أمة يوم القيامة ويعني الأعمال
الجماعية التي اشترك فيها اثنان فأكثر كتسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون
يوم تحالفوا وتقاسموا أن يغتالوا صالحا رسول الله كما في قوله:
ـ ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ﴾ الزمر
ـ ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا
لِهَـذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا
وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ الكهف
ـ ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً
كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ هَـذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ الجاثية
ـ ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ
بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ قد أفلح
ولْيتوقّفْ اللاهون اللاغون الناشرون
عبر الأثير وفي الأوراق عن نشر الباطل واللغو حتى لا يضل بإضلالهم قوم آخرون.
وسادسها: بمعنى الظرف المكاني الذي تنتقل إليه الأرواح
والصور المستنسخة من الأعمال بعد الموت، والتي ستعرض على غير المغفور له يوم
الحساب.
أما أرواح الأبرار بعد موتهم فيصعد بها إلى علّيّين
بعد أن تفتح لهم أبواب السماء فيجدون أمامهم أعمالهم الصالحة مستنسخة تعرض عليهم
كأنما هي كتاب مرقوم أي لا يفرقون بينها وبين ما عملوه في الدنيا كما في قوله ﴿كَلَّا
إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ
كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ التطفيف، أي أن المقربين في عِلّيّين
يحضرون أرواح الأبرار بعد موتهم حين صعودها إلى عليين فيسأل الأولون منهم اللاحقين
عمّن تركوا خلفهم من الأهل والأصحاب كما في الأحاديث النبوية التي بيّن بها النبي
الأمي صلى الله عليه وسلم حرف التطفيف.
وأما أرواح الفجّار بعد موتهم فيهبط بها إلى
أسفل في سِجّين في أعماق الأرض فيجدون أمامهم أعمالهم السيئة مستنسخة تعرض عليهم
كأنما هي كتاب مرقوم أي هي صور رقمية مستنسخة من الأعمال في الدنيا كما في قوله ﴿كَلَّا
إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ
مَّرْقُومٌ﴾ التطفيف.
وتعني دلالة كلمة الكتاب الخامسة والسادسة
وقوعها على ما ينظر إليه ويعرف ولو كان صورا معروضة، وكذلك الحروف المكتوبة
المقروءة لها ظرفها المكاني الذي يجمعها ويشملها وهي الصحف والكتاب.
وسابعها: الكتاب الذي أوتيه جميع النبيين والرسل قبل
التوراة كما في قوله:
ـ ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ عمران
ـ ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسَلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾ الحديد
ـ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاُه هَارُونَ وَزِيرًا فَقُلْنَا اذْهَبَا
إِلَى الْقَوْمِ الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدّمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا﴾
الفرقان
ولا يخفى أن كثيرا من النبيين والرسل كانوا قبل
التوراة التي أوتيها موسى ومنهم إبراهيم وإسماعيل، ولا تخفى دلالة حرف الفرقان على
كتاب أوتيه موسى قبل رسالته إلى فرعون، وإنما أوتي موسى التوراة بعد إغراق فرعون
وجنوده.
وثامنها: وقوع كلمة الكتاب على التوراة أو الإنجيل أو
هما معا كما في قوله:
ـ ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ﴾ الإسراء
ـ ﴿فَاسْأَلِ الذِينَ يَقْرَأُونَ
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ يونس
ـ ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ
الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ
لَغَافِلِينَ﴾ الأنعام
ـ ﴿ويعلمه الكتاب
والحكمة والتوراة والإنجيل﴾ آل عمران
وكذلك حيث اقترن الكتاب بموسى سوى حرف الفرقان
وحيث ورد أهل الكتاب والذين أوتوا الكتاب.
ولا تخفى
المغايرة بين الكلمات الأربع "الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" وإلا
للزم القول بأن التوراة هي نفس الإنجيل وهو ظاهر السقوط.
ولن يصح إبدال الكتاب في الأحرف المذكورة
وشبهها بالقرآن لأن للقرآن دلالة أخرى لا يصح إيرادها في غيرها كما يأتي تحقيقه.
وتاسعها: الكتاب المنزل على خاتم النبيين صلى الله عليه
وسلم كما في قوله:
ـ ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ﴾ آل عمران
ـ ﴿وَهَـَذا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ
مُبَارَكٌ﴾ الأنعام
وعاشرها: قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون وهو الكتاب
المبين وكتاب لا ريب فيه كما في قوله ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ
مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ عبس، وبينته في مادة الصحف
ومادة ريب وغيرها.
إن الكتاب الذي أوتيه النبيون والرسل قبل
التوراة لا اختلاف بينه وبين الكتاب الذي تضمنه كل من التوراة والإنجيل والقرآن،
لأن التوراة قد حوت الكتاب وزادت عليه نبوة موسى، وحوى الإنجيل الكتاب وزاد عليه
نبوة عيسى، وحوى القرآن الكتاب وزاد عليه نبوة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم
ونبوة النبيين قبله.
وإنما علم الرسل والنبيون قبل التوراة الكتاب
غيبا فكانوا يعلّمون أممهم منه بقدر استعدادهم للتلقي ثم أنزل الله الكتاب مع موسى
وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم وتعبد الناس بدراسته لدرايته.
إن الكتاب هو ما تضمن المصحف من الإيمان بالله
رب العالمين، وما تضمن عن العالمين كخلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما،
وتدبير أمر الخلق كله، وما حوى من النعم في الدنيا ومن وصف مخلوقاته وكذا المؤمنون
والكفار والمشركون والمنافقون، وما حوى من التشريع أي الخطاب الفردي والجماعي، ومن
التكليف لسائر العالمين، وما تضمن عن الحياة والموت والقدر كله والبعث والحساب
والجزاء بالجنة أو النار.
وهكذا كان من تفصيل الكتاب أن قوله:
ـ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ النساء
ـ ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ الزمر
ـ ﴿ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم
فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء﴾ النساء
قد تضمن مادة الكتاب لاشتماله على الحكم بين
الناس وعلى الأمر بالعبادة وعلى الأحكام الشرعية التي شرع الله للناس، ولو أبدلت
كلمة الكتاب بكلمة القرآن في الآيات المتلوة المذكورة لانخرم المعنى كما بينت في
مادة القرآن.
إن عاقلا أو مغفلا لن يقول إنه خلق السماوات
والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم سيعدمه ويعيد خلقه كما خلقه أول مرة، وكان حريا
بالناس أن يفهموا الكتاب لوضوحه وهل في اللهِ فاطرِ السماوات والأرض شكٌّ ؟ ومتى
احتاج التكليف بالصلاة والزكاة وسائر التكاليف إلى تدبر؟ وإنما هي تكاليف من رب
العالمين فمن شاء زكَّى نفسه بها ومن شاء دسّاها بالإعراض عنها.
الفصل
الثاني:دلالة القرآن في الكتاب المنزل
وأما القرآن فهو ما حوى المصحف من نور
مبين في القصص والذكر والقول والنبوة والأمثال يقع على غيب وعد الله أن يصبح شهادة
معلومة بعد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وقبل النفخ في الصور.
وكان من تفصيل الكتاب المنزل أن قوله:
ـ ﴿وإنك لتلقى القرآن
من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله امكثوا إني آنست نارا﴾ النمل
ـ ﴿نحن نقص عليك
أحسن القصص بما أوحينا إليك هـذا القرآن﴾ يوسف
ـ ﴿وأوحي إليَّ
هـذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ﴾
الأنعام
ـ ﴿ولقد يسرنا القرآن
للذكر فهل من مدكر﴾ مكررة
في القمر
ـ ﴿فذكر بالقرآن
من يخاف وعيد﴾ خاتمة سورة ق
ـ ﴿ولقد ضربنا
للناس في هـذا القرآن من كل مثل﴾
الروم ـ الزمر
ـ ﴿هل أتاك حديث
الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط بل هو قرآن
مجيد في لوح محفوظ﴾
خاتمة البروج
وشبهه قد تضمن مادة القرآن لاشتماله على القصص
والوعد في الدنيا والذكر والأمثال ولو أبدلت كلمة القرآن فيه بكلمة الكتاب لانخرم
المعنى.
ولقد أدرك كفار قريش هـذا التفصيل وقالوا كما في
قوله ﴿وقال الذين كفروا لن نؤمن بهـذا القرآن
ولا بالذي بين يديه﴾ سبأ، أي لن يؤمنوا بالقرآن ذي
الموعودات في الدنيا ولا بالكتاب ذي التكاليف التي على رأسها ترك الأوثان وعبادة
الله وحده، وذي الموعودات بالآخرة.
بيان قوله ﴿قد
جاءكم من الله نور وكتاب مبين﴾
وإن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن لفظ النور حيث
وقع في الكتاب المنزل فإن له أكثر من دلالة إذ يقع على:
أولا:
نور خارق معجز تشرق به الأرض يوم القيامة كما في قوله ﴿وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع
الكتاب﴾ الزمر
ثانيا:
نور في يوم القيامة يهتدي به المكرمون إلى حيث يأمنون كما في قوله :
ـ ﴿يوم لا يخزي
الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم
لنا نورنا﴾ التحريم
ـ ﴿والشهداء عند
ربهم لهم أجرهم ونورهم﴾
الحديد
ـ ﴿يوم ترى
المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم﴾ الحديد
ـ ﴿يوم يقول
المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم﴾ الحديد
ثالثا:
نور كالموصوف في سورة النور وكما في قوله ﴿أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا
له نورا يمشي به في الناس﴾
الأنعام ، وسيُرى في الدنيا مع من سيصطفيه الله في آخر الأمة طالوتـِها
الجديد خليفةٍ في الأرض وإمامِ المتقين المؤيَّدِ بعيسى ابن مريم، وبينته في مادة
النور في المعجم.
رابعا:
يقع على تبيّن ما في الكتاب المنزل والاهتداء به أي في مقابلة الظلمات وهي كل سلوك
ومنهج اختاره الإنسان لنفسه مخالفا لهدي الكتاب المنزل كما في قوله:
ـ ﴿ولقد أرسلنا
موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور﴾ إبراهيم
ـ ﴿الله ولي
الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم
من النور إلى الظلمات﴾
البقرة
ـ ﴿فاتقوا الله
يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلوا عليكم آيات الله
مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور﴾ الطلاق
وأما
قوله:
ـ ﴿قل من أنزل
الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس﴾ الأنعام
ـ ﴿إنا أنزلنا
التوراة فيها هدى ونور﴾
المائدة
ـ ﴿وآتيناه
الإنجيل فيه هدى ونور﴾
المائدة
فيعني أن كلا من التوراة والإنجيل قد تضمن موعودات
نبأ الله بها موسى وعيسى لن تقع إلا متأخرة كثيرا، وكذلك النور يقع على البعيد في
ظلمات الغيب فيبصره المؤمنون فيؤمنون به وينتظرونه، ومما نبأ الله به موسى
قوله ﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة
الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين﴾
المائدة، ووقعت نبوة موسى هـذه بعده فجعل الله فيهم أنبياء بعده وجعل فيهم ملوكا
كطالوت وداوود وسليمان وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ومنه أن علّم داوود
وسليمان منطق الطير وآتاهما من كل شيء، ومما نبأ الله به عيسى قوله ﴿ومبشرا
برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد﴾ الصف
وإن من المثاني قوله:
ـ ﴿وكذلك أوحينا
إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا
نهدي به من نشاء من عبادنا﴾
الشورى
ـ ﴿يا أهل الكتاب
قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم
من الله نور وكتاب مبين﴾
المائدة
ـ ﴿فآمنوا بالله
ورسوله والنور الذي أنزلنا﴾
التغابن
ـ ﴿يا أيها الناس
قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا﴾ النساء
ـ ﴿فالذين آمنوا
به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون﴾ الأعراف
وتعني أن القرآن نور أنزل من عند الله وكلف الناس
بالاهتداء به، إذ يقع على موعودات بعيدة يوم نزل القرآن على النبي الأمي صلى الله
عليه وسلم وكذلك النور يقع على البعيد فيتراءى لك قبل أن تصل إليه، وسيعلم الناس
رأي العين في الدنيا يوم تقع موعودات القرآن فتصبح شهادة بعد أن كانت غيبا يوم نزل
القرآن أن القرآن قول ثقيل ألقِيَ على خاتم النبيين وأنه قرآن عجب يهدي إلى الرشد
وإلى التي هي أقوم إذ سيهتدي به يوم تقع موعوداته أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى،
وسيزداد به الذين في قلوبهم مرض رجسا إلى رجسهم وضلالا إلى ضلالهم.
الفصل الثالث: النسخ
إن كلا من الكتاب والقرآن كلام الله وليس من قول
البشر كما هي دلالة قوله ﴿ولو نزّلناه
على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين﴾
الشعراء، ويعني أن لو كان الرسول بالقرآن أعجميا لا يتكلم اللسان العربي لقرأ
القرآن على الناس كما نُزّل على قلبه أي كما أُقرِئ تماما كما أضحى معلوما لكل
الناس سماع الكلام من الأشرطة والأسطوانات التي لا تملك له تحريفا ولا تغييرا ،
وهكذا أقرئ النبي الأمي القرآن كما في قوله ﴿سنقرئك
فلا تنسى إلا ما شاء الله﴾ الأعلى، وليس
الاستثناء من الله حشوا ولا زيادة لا تعني شيئا سبحان الله وتعالى وإنما هو وعد
سيتم نفاذه أي سينسى منه النبي الأمي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وهو ما لم
تتضمنه العرضتان الأخيرتان.
ولم يقع في القرآن نسخ سبحان الله وتعالى أن يخلف
الميعاد وإنما القرآن ذكر وقصص وموعودات نبئ بها النبي الأمي صلى الله عليه وسلم ستقع
قبل النفخ في الصور.
ولم يقع نسخ في موعودات الكتاب التي ستقع في الآخرة
ولا في أسماء الله ومشيئته وتدبيره الأمر في السماوات والأرض.
إن قوله:
ـ ﴿ما ننسخ من
آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾ البقرة
ـ ﴿وإذا بدلنا
آية مكان آية﴾ النحل
ليعني وقوع النسخ في التشريع خاصة من الكتاب
المنزل، وقد وعد الله أن يأتي بآية خير من الآية المنسوخة أي يُنزلها، وكان في كل
آية مبدَلة إصر أو تحريم وفي الآية البدل تخفيف وتيسير أو تحليل، ألم تر أن قوله ﴿وعلى
الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت
ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون﴾
الأنعام، يعني أن نبيا بعد موسى نزل عليه ذلك التحريم ، وأن قوله ﴿ومصدقا
لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم﴾
عمران، يعني أن عيسى قد نزل عليه تحليل بعض ما حُرّم على بني إسرائيل كالذي تضمنه
حرف الأنعام، فالأول المنسوخ فيه إصر وتحريم والثاني البدل فيه تخفيف وتحليل،
وكذلك تضمن التشريع المنزل على النبي الأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثل ذلك
كما في نسخ شرب الخمر بقوله ﴿يـأيها الذين
ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم
تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم
عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون﴾ المائدة، وذلك
بعد الكراهة كما في قوله ﴿ومن ثمرات
النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون﴾
النحل، ويعني أن من يعقل سيدرك أن الموصوف بالسكر ليس رزقا حسنا وإنما هو رزق قبيح
وكذلك بعد قوله ﴿يـأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة
وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون﴾ النساء،
ويعني أن السكر مذهب للعلم والوعي والإدراك.
وكذلك تضمن التشريع المنزل على النبي الأمي مثل ذلك
كما في تكليف الواحد من المؤمنين وهو في ساحة المعركة أن يصبر ولا يوَلِّيَ الدبر
ولو قاتله العشرة من الكفار بقوله ﴿يـأيها النبي
حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم
مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون﴾
الأنفال، ولا يخفى ما فيه من المشقة على البعض وقد نسخ بقوله ﴿الآن
خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن
منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ﴾ الأنفال.
وكذلك تضمن التشريع المنزل على النبي الأمي مثل ذلك
كما في نسخ التكليف بفرض الإقامة الجبرية
في المنزل على الزانية مدى الحياة كما في قوله ﴿واللاتي
يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت
حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا﴾
النساء، وقد نسخ بقوله ﴿الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة﴾
النور، ولا يخفى أن في الأول المنسوخ إصر ومشقة وفي الثاني البدل تخفيف وتيسير هو
على الأمة خير من التكليف الأول الثقيل.