الذَّنْبُ بإسكان النون: هو قولٌ أو عمَلٌ عَمْدٌ يُـخرِج صاحبَه من الأمن والسِّلْمِ إلى استحقاقِ العِقاب، ولكأنّ الخاطئ بالذنب كالذي ذنّب عمامتَه بإرخاء مُؤخرتها كذنَب الدابّة، وكان القرابة والرحم ذِنابة بالكسر لأنّ لكل منهم عليك حقوقا لا سبيلَ عليه حين يتعلّق بها.
ولم يتضمّن تفصيلُ الكتاب المنزّل تسميةَ الذي أذْنَبَ بالْمُذْنِبِ وإنّما بالخاطِئِ كما في المثاني:
﴿قالوا يا أبَانا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطِئِين﴾ [يوسف 97]
﴿وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ [يوسف 29]
وكذلك تضمّن تفصيلُ الكتاب المنزّل دعوةَ الذين أسْرَفُوا على أنفُسِهم إلى أن لا يقْنَطُوا من رحمة اللهِ الذي يغفر الذُّنوبَ جميعا.
ولعلّ الذي اقترف ذَنبا ينصَرِفُ عن القنوط من رحمة اللهِ إلى المسارعة إلى إصلاح الخطإ بالتوبة والاستقامة، وإنّه لَمِن جَمَالِ القرآن الكريم وكمَالِ هَدْيِه بتَسْمِيَةِ الذي اقترفَ ذَنْبًا بالخاطِئِ وليسَ بالْمُذْنِبِ ولا بالْمُخْطِئِ المتعمِّدِ الذي قد يقْنَطُ من رحمةِ اللهِ فَيَوَلَّى الشيطانَ بالإسراف في الذُّنوب والمعاصي والطغيانِ، وإنّ في وَصْفِ الْمُذْنِبِ بالخَاطئِ لطَوْقَ نجاةٍ إلى غَريق الذّنوب لِيَسْتَمْسِكَ به فيَنْجُو إذْ لا يَلْزَمُ من الخطإ التّعَمُّدُ بل قَدْ يَقَعُ غَفْلةً ونسيانا وجَهْلًا، وإنّ في وَصْفِ الْمُذْنِبِ بالخاطِئِ لَلُطْفًا وَرحمةً به كَعَصَا مُوسَى التي انقَلَبَتْ حَيَّةً تسعَى صغيرة الحَجْمِ في المرَّة الأولَى ءَايَةً يَراها موسَى وحدَه يوم كرامتِه الكبرى، ثم انقَلَبَتْ ثُعبانا ضخما مبينا في المرَّة الأخرَى لِتَخويف فرعون والملإِ مِن قومِه.
إنَّ الذّنبَ في تفصيل الكتاب المنزّلِ هو قولٌ أو عمَلٌ مَنْهِيٌّ عنه يُـخرِجُ صاحبَه من الأمْن والطمأنينةِ والسِّلْمِ إلى استحقاقِ العِقاب، وكذلك دلالةُ قولِ موسى ﴿وَلَهُمْ عَلّيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ [الشعراء 14] على أنه بقَتْله رجلا من قوم فرعون قد جعل لهم سبيلا عليه يعاقبونه بفِعلته.
 ويعني قول عزيز مصر ﴿وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ [يوسف 29] مخاطبا امرأته أنها بِمُراودتِها يوسفَ عن نفسه قد استحقّت العقابَ من اللهِ، ويعني أنهم رغم كانوا يُشركون ويؤمنون بالله الخالقِ وبالبعث والحساب لقُصُور دلالة الاستغفار على طلب سَتْرِ الذّنْبِ يوم يقوم الحساب.
ويعني إقرارُ إخوة يوسف بالذّنْب اعترافَهم باستحقاق العقاب على ما فعلوه بأخيهم.
ويعني تساؤل الموءودة عن الذنب الذي قُتِلت بسببه أن شرعَ الله لـم يتضمّن إذْنا بوأْدِ الأحياء الذي دَفْنُهُم وهم أحياءُ.
وتضمن تفصيل الكتاب المنزل أنّ من الذّنب قتلَ النفس التي لم يأمُرِ اللهُ بقَتْلِها ووأدَ الأحياء وتزيُّنَ المحصنة بالزواج ومراودتَها غيرَ زوجها وحسدَ ذي النعمة والكيدَ به.
ولا يخفى من تفصيل الكتاب المنزل أنّ الذّنبَ أقلُّ وأهوَن من الكفر ومن الإجرام، وإن صدَق استنباطي وتأمُّلي فإنما أُهلِكت أي عُذّبت في الدنيا قومُ نوح وقومُ لوطٍ وعادٌ وثمودُ ومدينُ وأصحابُ الأيكة وقوْمُ فرعون بذُنُوبِـهم، أخذَهم اللهُ بها في الدّنيا ثم هم في اليوم الآخر مُخلّدون في نار جهنم بكفرهم وإجرامهم وصدّهم عن سبيل اللهِ، ورغّب جميع الرسل قومهم في الإيمان ليغفرَ اللهُ لهم ذنوبَهم في الآخرة ولِيؤخّرَهم إلى أجل مسمّى أي يكشف عنهم العذاب في الدنيا بذُنوبهم كما هو تفصيل الكتاب المنزل في تأخير الموعود المتقدِّمِ وتقديم الموعود المتأخّر. 
ولقد كان من الذكر من الأولين أخْذُ الله المكذبين قبل نزول القرآن بذنوبهم فدمّرهم تدميرا بعذاب ماحق مستأصل لم يُبقِ منهم باقيةً كما في قوله ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ [العنكبوت 40] ودمدم رب العالمين على ثمود بذنبهم.
ومن المثاني معه وعدُ الله في الآخِرين هو لهم بالمرصاد كما في قوله:
ـ ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ﴾ [الأعراف 100]
ـ ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ [الأنفال 54]
وبينته في موادّ أصاب وأخذ وكاف التشبيه وغيرها.
وأما الذين لم يعاصروا الرسل بالآيات فذنوبهم إلى مشيئة اللهِ في يوم الحساب إن شاء غفرها وسترها على صاحبها فلم يعرضْها عليه، وإن شاء فضحَه بعَرضِها عليه وليراها يومئذ الملائكة أجمعون وبنُو آدم أجمعون وذلك نقاش الحساب ومن نوقشه هلك أي عذّب بذُنوبِه.
وعظُمت ذنوب النبيين في أعينهم فتراءت لهم المغفرةُ أكبرَ من جهدهم واستحقاقِهم فاستغفروا ربَّهم ليستُرَها بفضله فلا يعرضها عليهم يوم الحساب وبينته في مادة غفر.
وليستِ الدّنيا محل مغفرة الغفور الرحيم كما في صريحِ المثاني:
﴿قال ربِّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم﴾ [القصص 16]
﴿يوم لا يُخزي اللهُ النبيَّ والذين ءَامَنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتممْ لنا نورنا واغفرْ لنا﴾  [التحريم  8] 
﴿إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفرَ الله لهم﴾ [القتال 34]
﴿والذي أطمع أن يغفرَ لي خطيئتي يوم الدين﴾ [الشعراء 82]
﴿ربنا اغفرْ لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب﴾ [إبراهيم 41]
﴿والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه﴾ [البقرة 221]
﴿مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسِن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربِّهم﴾ [القتال 15]
وتعني أن يوم الحساب هو يوم مغفرة الذنوب، وحرف القصص صريح في أن اللهَ غفَرَ ذنْبَ موسى، ولا يخفى انتشارُ خبر قتْلِه القبطيَّ في الدنْيا وخروجه هرَبا من القصاص، وإنما سأل موسى ربَّه أن يسترَ ذنْبَه في الآخرة وأجيبت دعوته فلن يُعرض عليه يوم الحساب قتلُه القبطيّ ولن يكتبه الكاتبون ولن يؤاخذ به.
وحرف التحريم صريح في وصف يوم القيامة، وكذلك حرف القتال لأنه بعد الموت، وذكر بصيغة المستقبل، وإبراهيم يطمع أن يستر الله خطيئته يوم الدِّين فلا تُعرَض عليه، ودعاؤه صريح في أن محل المغفرة إنما هو يوم يقوم الحساب.
ويعني حرف القتال أنّ للمتقين في الجنة مغفرةً من ربهم أي أنّ أعمالَهم السيئة في الدنيا لن تُعرض عليهم بل قد غفرَها اللهُ لهم وستَرَها عنهم فلا يَضِيقون بها ذرعا ولا تنغّص عليهم ما هم فيه من الكرامة ودار الخلود خلافا لأهل النار الذين تُعرض عليهم سيئاتُهم وهم في النار ليزدادوا حسرة وقنوطا من الرحمة كما في قوله ﴿كذلك يُرِيهمُ اللهُ أعمالَهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار﴾ [البقرة 167]
إن الحديث النبوي الصحيح في دعاء زيارة القبور وفي آخره "يغفر الله لنا ولكم" وفي الدعاء للميِّت عند إغماض بصَرِه: "اللهم اغفر له وارفع درجته في المهديين واخلُفه في عقِبِه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين اللهم أوسع له قبره ونور له فيه" لصريح في أن محلّ المغفرة هو يومُ الدِّين ويوم الحساب حين يرَى الناسُ أعمالَهم فيحاسبون على ما عُرِض عليهم من ذُنوبِهم أي على ما لم يُغفر لهم منها.
وإن قوله:
﴿ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ﴾ [هود 52]
﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ﴾ [هود 61]
﴿واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ﴾ [هود 90]
ليعني أن كلا من هود وصالح وشعيب أمَرِ قومه أن يسألوا ربهم أن يغفرَ لهم في يوم الحساب ما سلَف من كفرهم إذ الإيمان بالله واليوم الآخر هو الخطوة الأولى من الإيمان ثم يُتبِعون ذلك بالتوبة إلى ربهم أي الرجوع إليه بالعمل الصالح في الدنيا، ومن المثاني معهما قوله ﴿وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يُـمتِّعْكم متاعا حسَنا إلى أجل مسمى ويؤتِ كلَّ ذي فضل فضلَه﴾ [هود 3] في خطاب المخاطبين بالقرآن.
بقلم 
الحسن ماديك

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top