إن القرآنَ حدَّثنا عن حديثٍ وحادثةٍ كأنما تواصَى بهما عبرَ التاريخ المُعتَرضون على البيّناتِ لما في الكتاب مع الرُّسُلِ بها، طغيانا من المكذِّبين الضَّائقِين ذرعا بمُحاورة الرسُل والنبيين المُسارِعين إلى إسكاتِهم بالتخويفِ والتهديدِ بالقتْلِ، بل لم يتضمَّنِ القرآنُ في مرحَلة ما قبل التمكين القتلَ ومُحاولتَه والقتالَ والاغتيالَ إلا من جانب مُنكِري الغيْبِ:
ـ ومنه قولُ قوم نوحٍ ﴿لئن لَّم تَنْتَهِ يا نوحُ لتكونَنَّ من المَرجومين﴾ الشعراء 116، يهدِّدونَ الرسولَ نوحًا بالرجم لإسكاتِه عن دعوتِهم إلى الإيمان ويعني أنهم هم مَن أغلقوا بابَ الحوار.  
ـ ومنه قول قوم نوح ﴿إن هو إلا رجل به جِنَّةٌ فتربَّصوا به حتى حِينٍ﴾ قد أفلح 25.
ـ ومنه قولُ ءازَرَ ﴿أراغبٌ أنتَ عن ءالِهَتِي يا إبراهيمُ لئن لم تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّك واهجرْنِي مَلِيًّا﴾ مريم 46، يُهَدِّدُ ابنَه إبراهيم بالرجمِ إلا يتوقَّفْ عن التذكِرَةِ أي لا حِوارَ معه.
ـ ومنه قولُ مَديَنَ ﴿يا شعيبُ ما نَفْقُه كثيرًا مِما تَقولُ وإنّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعيفا ولوْلا رهْطُكَ لرَجمْناكَ وما أنت علينا بعزيزٍ﴾ هود 91، يهَدِّدون الرسولَ شُعَيْبًا بالرَّجْم لإسْكاتِه.
ـ ومنه قولُ أصحابِ القرية ﴿لئن لم تنتَهوا لنَرْجُمَنَّكُم ولَيَمَسّنّكم مِنّا عذابٌ أليمٌ﴾ يـس 18، يُهَدِّدون الرسُلَ الثلاثةَ بالرجْمِ لإسكاتِهم عن دعوى أنهم رسُل ربِّ العالمين، أي لا حِوارَ معهم.
ـ ومنه مَكْرُ تسعةِ رهط من قومِ صالِحٍ كما في قوله تعالى ﴿وكان في المدينة تسعةُ رهطٍ يُفْسِدون في الأرضِ ولا يُصْلِحُون قالوا تقاسَمُوا بالله لنُبَيِّتَنَّه وأهلَه ثم لنَقُولَنَّ لِوَلِيِّه ما شهدنا مهلك أهلِه وإنا لصادقون ومكَروا مكْرا ومكرْنا مكْرا وهم لا يشعرون﴾ النمل 48 ـ 50، ويعني عُدُولَهم عن الحوار إلى الاغتيال.
ـ ومنه رمْيُ إبراهيمَ في النّار التي نجّاه اللهُ منها كما في قوله ﴿قالوا ابْنُوا له بُنيانا فأَلْقُوه في الجحيمِ فأرادوا به كيْدا فجعلناهم الأسفلين﴾ الصافات 97 ـ 98، وقوله ﴿قالوا حرّقوه وانصروا ءالِهَتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين﴾ الأنبياء68 ـ 70، عُدُولا منهم عن محاورتِه إلى قتْلِه بأبشَع صورةٍ ورثَها عنهم معاصرون أضْحَوْا من الموصوفين في قوله تعالى ﴿قل هل نُنبِّئُكم بالأخسَرين أعمالا الذين ضلَّ سَعْيُهم في الحياةِ الدنيا وهم يحسَبون أنهم يُحْسِنون صنعا﴾ الكهف 103 ـ 104.
ـ ومنه المجزرة الجماعيّة لأصحاب الأخدود الذين حُرّقوا بالنار كما في قوله ﴿قُتِل أصحابُ الأخدود النارِ ذاتِ الوَقود إذ هم عليها قُعُود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شُهود وما نقَموا منهم إلا أن يُؤمنوا باللهِ العزيز الحميد الذي له مُلْكُ السماواتِ والأرضِ﴾ البروج 4 ـ 9، أي هو القَتْلُ بالنار الحريق بدلَ الاستماع إلى الدليل والمنطق والبرهان.
ـ ومنه سلوكُ فرعونَ بإعدامِ السَّحرة بعد التمثيلِ بهم بصْلبهم أن ءَامَنوا بربِّ العالمين ربِّ موسى وهارون كما في قوله ﴿وألْقِيَ السحرةُ ساجدين قالوا ءامَنّا بربِّ العالمين ربِّ موسى وهارون قال فرعونُ ءامَنتم به قبل أن ءَاذَنَ لكم إنّ هذا لمكْرٌ مَكرتموه في المدينة لتُخرِجوا منها أهلَها فسوف تعلمون لأُقطّعنّ أيديَكم وأرجلَكم من خِلاف ثم لأصلّبنّكم أجمعين﴾ الأعراف 120 ـ 124، وقوله ﴿فألْقِيَ السَحرةُ سُجّدا قالوا ءامَنّا بربِّ هارون وموسى قال ءَامَنتم له قبل أن ءاذَن لكم إنه لكبيركم الذي علّمكم السحر فلأقطعنّ أيديَكم وأرجلَكم من خلاف ولأصلّبنّكم في جذوع النخل ولتعلمنّ أيّنا أشد عذابا وأبقى﴾ طـه 70 ـ 71، وقوله ﴿فألقي السحرة ساجدين قالوا ءامَنّا برب العالمين رب موسى وهارون قال ءَامَنتم له قبل أن ءاذَن لكم إنه لكبيركم الذي علّمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطّعنّ أيديكم وأرجلَكم من خلاف ولأصلبنّكم أجمعين﴾ الشعراء 46 ـ 49.
ـ ومنه قتْلُ أصحاب القرية الرجلَ الذي جاء من أقصى المدينة ليُعِزّ الرسل الثلاثة كما في قوله ﴿إني ءامَنتُ بربِّكم فاسمعونِ قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرَمين﴾ يـس 25 ـ 27، والمعنى أنهم قتلوه لما أعلن الإيمان بالرسل الثلاثة وأن اللهَ أحياهُ في البرزخ يَنْعَمُ برَوْحِ الجنَّةِ كما هو شأن كل قتيل في سبيل الله.
ـ ومنه قول أصحاب الكهف ﴿إنَّهم إنْ يَظْهَروا عليكم يرجُموكم أو يُعيدوكم في مِلَّتِهم ولن تُفْلحوا إذن أبدا﴾ الكهف 20.
ـ ومنه محاولةُ اليهود قتلَ عيسى لولا أن رفعه الله كما في قوله ﴿وقولِهم إنا قتلْنا المسيحَ عيسى ابن مريم رسولَ اللهِ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم﴾ النساء 157، وقوله ﴿ومكروا ومكَرَ اللهُ واللهُ خير الماكرين ﴾ آل عمران 54.
ـ ومنه عملياتُ قتلِ أنبياءَ وأتباعَهم لم يفصِّلْها القرآن كما في قوله ﴿لقد سمع اللهُ قول الذين قالوا إن اللهَ فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلَهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق﴾ آل عمران 181،  وقوله ﴿قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبيّنات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين﴾ آل عمران 183، وقوله ﴿لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون﴾ المائدة 70، وقوله ﴿ أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون﴾ البقرة 87.
ـ ومنه عبر التاريخ تهديدُ كلِّ رسولٍ بالآياتِ بالإخراج من الديار أو الإكراه على ترك دينه كما في قوله ﴿وقال الذين كفروا لرسُلهم لنُخرجنّكم من أرضنا أو لتعودُنّ في مِلّتنا﴾ إبراهيم 13، وكما في المثاني معه عن مدين ﴿قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنُخرِجَنّك يا شعيب والذين ءامَنوا معك من قريتنا أو لتعودُنّ في ملتنا﴾ الأعراف 88، وكما في قوله عن قوم لوط ﴿قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكوننّ من المُخرَجين﴾ الشعراء 167، وقوله ﴿وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون﴾ الأعراف 82، وقوله ﴿فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون﴾ النمل 56.
ومنه كما في المثاني معه قوله ﴿وإذ يمكُر بك الذين كفروا لِيُثْبِتُوكَ أو يَقْتُلوكَ أو يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرون ويَمكُر اللهُ واللهُ خيْرُ الماكِرين﴾ الأنفال 30.
ومنه قوله ﴿إنّ الذين يكفرون بآياتِ الله ويقتُلون النبيّين بغير حق ويقتُلون الذين يأمُرون بالقسط من الناس فبشِّرْهم بعذابٍ أليمٍ﴾ آل عمران 21
وأما تفكير الأسباط إخوة يوسف في قتله فقد تراجعوا عنه واستغفروا منه وكان قبل نُبوَّتهم وبدافع الغيرة وهم فتيانٌ يلعبون ويمرحون ويستبقون.
وأما قتلُ الخَضِرِ مُعَلِّمِ موسَى الغلامَ فبيانُه كما في القرآن:
﴿فانطَلَقا حتَّى إِذا لَقِيَا غُلَامًا فقتَلَه قال أقتَلْتَ نفسًا زاكيةً بغيرِ نفْسٍ لقد جِئْتَ شيئًا نُكرًا﴾ الكهف 74.
﴿وأمّا الغلامُ فكان أبوَاهُ مؤْمِنيْنِ فخَشِينا أن يُرْهِقَهُما طُغْيَانًا وَكُفْرًا فأردْنَا أن يُبْدِلَهما ربُّهُما خَيْرًا منه زكاةً وأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ الكهف 80 ـ 81.
وبالاستقراء والتَّتَبُّعِ في القرآن نجد أوصاف الغلام وأبوَيْهِ في سورة الكهف متطابقة مع أوصاف الغلام وأبوَيْه في قوله تعالى ﴿والذِي قال لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أتعِدانِنِي أن أُخْرَجَ وقد خَلَتِ القُرونُ من قبلي وهما يستغيثانِ اللهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إنَّ وَعْدَ اللهِ حقٌّ فيقولُ ما هذا إلا أساطيرُ الأوَّلينَ أولئِكَ الذين حَقَّ عليهم القولُ في أمَمٍ قد خَلَتْ مِن قَبْلِهم من الجنِّ والإنسِ إنَّهم كانوا خاسِرينَ﴾ الأحقاف 17 ـ 18.
وما هو بالغلام الصغير الذي لم يبلغ الخطاب والتكليف بقرينة وصْفِه في سورة الكهف بالذي يُرهِق والِدَيْهِ طغيانا وكفرا ومن المثاني معه في سورة الحقاف تأفيفُه لوالديْه وإنكارُه يومَ البعث ووصفُه الوعدَ بالبعث بعد الموتِ بأساطير الأوّلين، أي قد بلغ مَبلغ الخطاب والتكليف واختار طريق الطغيان والكفر وإنكار البعثِ وفكَّر وقدَّر في موعِظَةِ والِدَيْهِ فاعتبرَها خرافة من أساطيرِ الأولين.  
وكما ينفِّذُ السلطانُ حُكْمَ اللهِ بالقَتْلِ في المحارِبِ والقاتِلِ العمْدِ فقد قتَلَ الخَضِرُ ذلك الغلامَ بوَحْيٍ من اللهِ إليه بقرينة قولهِ ﴿وَما فَعَلْتُه عن أمْرِي ذلك تأوِيلُ ما لم تستطع عليهِ صَبْرًا﴾ الكهف 82، وبقرينة أنّ ربَّ العالمين قد ءَاتَاه رحمةً من عندِه وعلَّمَه من لدُنْهُ عِلما وكذلك علَّم ربُّ العالمين ءَادَمَ الأسماء كلها تعليما خارقا من غير واسطة، وإنما حرصَ الرسول النبيّ الكليمُ موسَى على التلَقِّي من صاحب هذه الكرامة وعلى الكرامَةِ بصُحبَتِه، وأغلبُ الظَّنِّ عندِي أن الخَضِرَ قَتلَ الغلامَ بكلمة أو دعوة سمِعَها موسَى ومات في الحِينِ بها الغلامُ الشقِيُّ ولِيَجزيَ اللهُ الأبوين المؤمنَيْنِ كما في قوله ﴿فَأرَدْنَا أنْ يُبَدِّلَهُما ربُّهما خَيْرًا منه زَكاةً وأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ الكهف 81، وإلا فقد أَمَرَ الخَضِرُ مَلَكًا من الملائكة بقَتْلِ الغلام الشقيِّ الذي أرهَقَ والِدَيْهِ طغيانا وكُفرًا بقرينة صيغة ﴿فأَرَدْنَا﴾ الكهف 81، الدّالَّةِ على التثنية أو الجمع على غير نسَقِ ضمير المتكلم المفرد في صيغة ﴿فأردتُّ أن أعيبَها﴾ الكهف 79، وفي كل من الحالتَيْنِ فالغُلامُ قتيلُ صاحِبِ موسَى، وإنما أفاد الاحتمالُ الثاني تأصيلَ مؤاخَذَةِ الذي يأمُرُ غَيْرَهُ بالقَتْلِ أو بجنايَةٍ من الجناياتِ.
قلتُ: ولقد استوفَى موسَى التلقِّي من مُعلِّمه بصيَغِ الإرادة الثلاث المتتالية:
﴿فأَردتُّ أن أعِيبَها وكان وراءَهم مَلِكٌ يأخُذُ كلَّ سَفينةٍ غَصْبًا﴾ الكهف 79.
﴿فَأرَدْنَا أنْ يُبَدِّلَهُما ربُّهما خَيْرًا منه زَكاةً وأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ الكهف 81.
﴿فَأرادَ ربُّك أن يَبْلُغَا أشُدَّهما ويستخْرِجَا كَنْزَهُما رحمةً من ربِّكَ﴾ الكهف 82.
فانظر جمال التدرُّج في الصيغ الثلاثة، وأيّ عِلم بعد الإخبارِ عن إرادةِ اللهِ الواحد القهَّارِ؟ ومَنْ يَملِكُ هذا المقامَ؟ إلا يكنْ مُعَلَّمًا كما في إخبار الخضِرِ عن نفسه ﴿وما فعلْتُهُ عَن أَمْرِي﴾ الكهف 82.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top