الاستعاذة والبسملة
قلت في النظم:
13/ أَعُوذُ كَمَا فِي النَّحْلِ جَهْرًا لِكُلِّهِمْ / وَبَدْءًا فَبَسْمِلْ غَيْرَ تَوْبٍ فَأَهْمِلَا
اتّفق القراء على الجهر بصيغة: (أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرّجِيمِ) وهي تأويل قوله تعالى ﴿فَإذا قرأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ باللهِ مِن الشيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل 98]، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول في سجوده "سبحان ربِّيَ الأعلى" يتأوّل قوله تعالى ﴿سَبِّحِ اسْمَ ربِّكَ الأَعْلَى﴾ [بداية سورة الأعلى].
وحدَّثَني شيخي الذي أجازني في القراءات (في رجب 1410 هـ) محمد عبد الله ابن الإمام بن عبد الجليل الجكني  رحمه الله تعالى أن الأمرَ بعد النهي يقتضي الجواز كقوله تعالى ﴿وإذا حلَلْتُم فاصْطَادُوا﴾ [المائدة 2] فهو أمرٌ وخطاب بعد النهي عنه في قوله تعالى ﴿غيرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة 1]:
وتقتصر دلالة الخطاب بالصيد بعد التحلل من الحج والعمرة خارج مكة على الندْبِ والجواز إذ لا يلزم كل حاجٍّ ومعتمِرٍ الصَّيْدُ بعد التحلُّلِ.
أمّا الخطاب والأمرُ غير المسبوق بنهْيٍ فهو للوجوب كالخطاب بالصلاة والإنفاق والصوم والبرِّ وفعل الخيرات والتعوّذِ لقراءة القرآن.
قلتُ في النظم:
14/ وَبَسْمَلَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ لِنَافِعٍ / سِوَى أزْرَقٍ فالسَّكْتَ عَنْهُ قَدِ امْتَلَا
للدّاني البسملةُ لِنافع ين السورتين لا قبل سورة براءة، وترجيحُ السّكت بين السورتين للأزرق عن نافع.
15/ لِفَاتِحَةٍ بَسْمِلْ، وَبَدْءٍ، وَعَنْ خَلَفْ / لِزُهْرٍ قِيَاسًا وَهْوَ فِي الْغَرْبِ أُعْمِلَا
ليس للدّاني ولا لجميع القراء وطرُقِهم المصنفين غيرُ البسملة لابتداء القراءة بسورة الفاتحة ولعلها مما طُمِسَ واندرسَ، وكذلك لزوم البسملة عند الابتداء بقراءة كل سورة من سُور القرآن باستثناء سورة براءة.
وتفرّد شيخ الدّاني خلف بن خاقان الخاقاني باختيار البسملة للساكتين بين سورتي المدِّثّرِ والقيامة وبين سورتيِ الانفطار والمطففين وبين سورتي الفجر والبلد وبين سورتَيِ العصر والهُمَزَة، مستبشعين وصْلَ ﴿لَا﴾ في ﴿لَا أُقْسِمُ بيَوْمِ القيامةٍ﴾ بآخر المدثّر ﴿هُو أَهْلُ التَّقْوَى وأَهْلُ المغفرةِ﴾، ووصَلَ ﴿وَيْلٌ﴾ في ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفّفين﴾ بآخر الانفطار ﴿والأمْرُ يَومَئِذٍ للهِ﴾، ومستبشعين وَصْلَ ﴿لَا﴾ في ﴿لَا أُقْسِمُ بهذا الْبَلَدِ﴾ بآخر الفجر ﴿فادْخُلِي فِي عِبادِي وادْخُلِي جَنَّتِي﴾، ومستبشعين وصل ﴿وَيْلٌ﴾ في ﴿وَيْلٌ لكلِّ هَمزةٍ﴾ بآخر العصر ﴿وتَوَاصَوْا بالْحَقِّ وتَواصَوْا بالصّبْرِ﴾.
قلتُ: ولا يستقيم هذا التخصيصُ بين السورتين في المواضع المذكورة بل ثبتَ الوَصْلُ تلاوةً في السورة الواحدة بل الآية الواحدة ومنهما كما في النماذج التالية:
﴿ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أهواءَهم مِن بعد ما جاءَكَ مِن العلم إنّكَ إِذًا لَّمِن الظالِمِينَ . الذين ءَاتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَه كما يعرفون أبناءَهم﴾ [البقرة 145 ـ 146]
﴿الذين ءَاتَيْنَاهم الكتاب يعرفونه كما يَعرِفُون أبناءَهم . الذين خَسِرُوا أنفُسَهم فهم لا يُؤمنون﴾ [الأنعام 20]
﴿فَلا يُحْزِنكَ قَولُهُم . إِنَّا نَعلمُ ما يُسِرُّون وما يُعْلِنون﴾ [يس 76]
﴿ولا يُحْزِنْكَ قَوْلُهُم . إنَّ الْعِزَّةَ للهِ جميعًا هو السّميعُ العليمُ﴾ [يونس 65]
﴿واتَّقُوا اللهَ إنّ اللهَ شديدُ العِقَابِ . للفقراءِ المهاجرين﴾ [الحشر 7]
﴿وكذلك حَقَّتْ كلمةُ ربِّكَ على الذين كفروا أنّهم أصحاب النَّارِ . الذينَ يحملون العرشَ ومَنْ حَولَه يُسَبِّحون بحمد ربِّهم ويؤْمنون به﴾ [غافر 6 ـ 7]
﴿واللهُ لا يَهْدِي القومَ الظالِمِين ـ الذين ءامَنُوا وهاجَرُوا وجاهدوا في سبيلِ اللهِ بأموالهم وأنفسهم﴾ [براءة 19 ـ 20]
وظهر ولا يَخْفَى الانقطاع الكلِّيُّ بين جزءيْ كل آيةٍ من الآيات المتْلُوَّة آنفًا بقرائنَ منها:
ـ أنْ ليس الْمُكرَمون المصطفَوْنَ الذين ءاتاهم ربُّهم الكتاب هم المنهِيُّ عن اتّباع أهوائهم، وليسُوا هم الذين خَسِرُوا أنفُسَهم وأهليهم وأنهم لا يُؤمنون.
ـ أنّ قوله تعالى ﴿إِنَّا نَعلمُ ما يُسِرُّون وما يُعْلِنون﴾ [يس 76] وقوله تعالى ﴿إنَّ الْعِزَّةَ للهِ جميعًا هو السّميعُ العليمُ﴾ [يونس 65] ليس مِن قولِ الْمُكذِّبين الذين شاقّوا اللهَ ورسُوله وحزِنَ لهُ.
ـ أنّ الفقراء الصادقين المهاجرين من مكة إلى المدينة ليْسُوا هم الموعودين بالعذاب الشديد.
ـ أنَّ الملائكة المقرّبين حملةَ العرش ومَن حوله ليسُوا مِن الذين كفروا وحقَّتْ عليهم كلمة ربِّنا أنهم أصحاب النار.
ـ أَنَّ الذين ءَامَنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ليسُوا هم الظالِمين الذين لا يهدِيهم الله.
قلتُ: وهذه المواطن في السورة الواحدة أحقُّ بالفصْلِ ـ لو جازَ إدراجُ اختيارٍ في القراءة والرواية ـ من تصوُّر اجتماع اتِّصال معنًى في آخر سورة بمعنًى آخرَ في أول سورة أخرى.
وكذلك لا يستقيم الاحتجاج بالحرف ﴿لا﴾ في أوّل سورتي القيامة والبلد لتخصيص فصلٍ بسكت أو ببسملة دون سائر ما بين السُّوَر، إذ قد تضمّن القرآن في السورة الواحدة وفي الآية المتلوة الواحدة عشرات النماذج اختصرتُها في:
﴿اللهُ لَا إِلَهَ إلّا هو الْحَيُّ القَيُّومُ لاَ تأْخُذُه سِنَةٌ ولا نومٌ﴾ [البقرة 255]
﴿وهو العلِيّ العظيمُ لَا إِكْرَاهَ في الدِّينِ﴾ [البقرة 255 ـ 256]
﴿واعْلمُوا أَنَّ اللهُ غَفُورٌ حليمٌ لا جُنَاح عليكم﴾ [البقرة 235 ـ 236]
﴿فقد استمسك بالعروةِ الوُثْقَى لا انفِصامَ لها﴾ [ البقرة 256]
﴿واللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ لا يَغُرَّنَّكَ تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد﴾ [آل عمران 195 ـ 196]
﴿وكان فضلُ اللهِ عليك عظيما لا خَيْرَ في كثيرِ مِّن نَّجواهم﴾ [النساء 113 ـ 114]
﴿قُلْ إنَّ صلاتِي ونُسُكي ومحيايَ ومماتِي للهِ ربِّ العالمين لا شَريك له﴾ [الأنعام 162 ـ 163]
﴿إنّهُ لقرءانٌ كريمٌ في كتابٍ مكنونٍ لا يَمَسُّهُ إلا الْمُطَهَّرون﴾ [الواقعة 77 ـ 78 ـ 79]
﴿إنَهُ كان وعْدُه مَأْتِيًّا لا يسمعون فيها لَغْوًا إلا سلامًا﴾ [مريم 61 ـ 62]
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبدِّلَ لكلماته﴾ [الأنعام 115]
﴿ومِن ءايَاتِه اللّيْلُ والنّهارُ والشمسُ والقمَرُ لا تَسْجُدُوا للشمس ولا للقمر﴾ [فصلت 37]
﴿وللهِ مُلْكُ السّماواتِ والأرضِ لا يَسْتَوِي مِنكم مّن   أنفق مِن قبل الفتح وقاتَلَ﴾ [الحديد 10]
﴿إنّ اللهَ قَوِيٌّ عزيزٌ لا تَجِدُ قومًا يؤمنون بالله واليومِ الآخر يُوادُّون مَن حادَّ اللهَ ورسوله﴾ [المجادلة 21 ـ 22]
﴿واللهُ قديرٌ واللهُ غفورٌ رّحيمُ لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يُقاتِلُوكم في الدِّينِ﴾ [الممتحنة 7 ـ 8]
وقد ورد حرف النفي أو النّهي ﴿لا﴾ في كل من هذه الآياتِ المتلوّة آنفا ولا تسَلْ عن التكلُّفِ في تصور الوقف عليه وما هو بمحلِّ وقف، ويعني قبول القياس بتخصيص سورتي المدثر والقيامة وسورتي الفجر والبلد لُزومه في ثنايا السور في عشرات المواضع اقتصرتُ على بعضها هنا.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top