إن الإذن الأول بالقتال في قوله تعالى ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا﴾ الحج، في مرحلة الدفاع في الثانية من الهجرة لا يعني أنهم مأذونون أبدا أي في كل وقت شاءوه أو شاءه أحدهم بقتل أو قتال من قدَرُوا عليه من الكفار وإنما يعني أنهم قد أصبحوا في مرحلة الدفاع كما في قوله ﴿والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون﴾ الشورى، وقوله ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾ البقرة، وقوله ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾ البقرة، وأنهم قد تجاوزوا المرحلة الابتدائية الأولى مرحلة الصبر وكف الأيدي عن القتال.
ويومئذ يوم كان الوحي يتنزل لا يستطع إنفاذ القتال المأذون به ليجعل المسلمين عمليا في مرحلة التنفيذ غير رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتلقى الوحي يأمره ربه بإنفاذه على فلان وفلان أو على طائفة معلومة أو على أصحاب قرية معلومة من الكفار، وكلما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه لإنفاذه فقد خرجوا في سبيل الله وجاهدوا في سبيل الله فإن قاتلوا ففي سبيل الله الذي أمرهم بتلك الغزوة كما هي دلالة قوله ﴿ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله﴾ الحشر، وكما في قوله ﴿إذ تحسّونهم بإذنه﴾ آل عمران، ويعني أن الله أذن لهم بذلك أي أمرهم به، وإن القتيل منهم لفي سبيل الله قد قُتِل.
وإن من تفصيل الكتاب وأصول التشريع والخطاب أي من أصول التفسير التي استنبطتُها أن قوله ﴿قيل﴾ حيث وقعت في الكتاب المنزل فإنما للدلالة على الوحي لا غيره.
ومنه قوله ﴿فبدّل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم﴾ البقرة، أي بدّلوا الوحيَ الذي أنزل على موسى وهو قوله ﴿وإذ قلنا ادخلوا هـذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة﴾ البقرة.
ومنه قوله ﴿وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله  لوّوا رؤوسهم﴾ المنافقون، والقول الذي قيل لهم هو قوله ﴿ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول  لوجدوا الله توابا رحيما﴾ النساء.
ومنه قوله ﴿ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين﴾ التوبة، والقول الذي قيل لهم هو قوله ﴿فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين﴾ التوبة، وكذلك قوله ﴿سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله  قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل﴾ الفتح، ولا يخفى أن قول الله من قبل هو قوله ﴿وقيل اقعدوا مع القاعدين﴾ وقوله ﴿فاقعدوا مع الخالفين﴾،فذلك دليل تأخر نزول حرف الفتح عن حرفي التوبة.
وإلا فإنما هو قول الملائكة تخاطب المخاطبَ بالقول المجهّل كما في قوله ﴿قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسّهم منا عذاب أليم﴾ هود، مما أوحته الملائكة إلى نوح تُنبِّئه به بعد إغراق قومه.
ومنه قوله ﴿قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا﴾ الحديد، وإنما هو قول الملائكة في يوم الدين تخاطب المنافقين والمنافقات.
ومنه قوله ﴿قيل ادخل الجنة﴾ يـس، وإنما هو قول الملائكة تخاطب الرجل الذي جاء من أقصى المدينة ليعز الرسل الثلاثة لما قتله قومه.
إن الذين قيل لهم كُفُّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة هم بنوا إسرائيل بعد أن أُمِروا بالقتال في سبيل الله في التوراة، وتعلّق إنفاذُه بسبب قولهم ﴿يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون﴾ المائدة، وبعد موسى سلّط الله عليهم عدوا جبارا أخرجهم من الديار والأبناء كما في قولهم ﴿وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا﴾  البقرة، وكان نبيُّهم يومها قد قال لهم ﴿كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ النساء، أي كفوا أيديكم عن القتال رغم استضعافهم واحتلال جالوت وجنودِه ديارَهم ورهْنِ الأبناءِ فيها وإخراجِ الآباءِ منها ولم يَأذن لهم نبيُّهم بالقتال في سبيل الله إلا لمّا بعث الله لهم طالوت ملِكا، وكان القتال مع طالوت هو القتال في سبيل الله لا غيره، ولو سارع بعضهم لأجل الحماس إلى القتل والاغتيال في صفوف جالوت وجنوده قبل نزول الإذن بالقتال مع طالوت لما كانوا من المقاتلين في سبيل الله وكما هو صريح حرف البقرة في قوله ﴿ابعث لنا ملكا نقاتلْ في سبيل الله﴾ البقرة، ويعني أن إخراجهم من الديار والأبناء لا يجعل قتالَ المعتدِي الظالمِ الذي احتل الديارَ وأخرجَ الآباءَ ورهَنَ الأبناءَ قتالا في سبيل الله.
إن أولئك اليهود أفقه في الكتاب المنزل من عند الله من قادة التنظيمات الجهادية المعاصرة الذين يوقعون فقه مرحلتي الدفاع والتمكين على مرحلتنا مرحلة الاستضعاف والتشرد.
ولأن اليهود يومئذ حانقون على العدو جالوت وجنوده، ولأن نبيّهم شيخ كبير فقد سألوه أن يبعث لهم ملِكا أي قائدا شابا يختاره لقيادتهم ولن يفعل النبي ذلك إلا بأمر الله، وإنما سألوا نبيّهم التزاما منهم بإنفاذ الأمر لو نزل من عند الله وأنهم لن يقولوا كما قال سلَفُهم لموسى ﴿فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هـاهنا قاعدون﴾ المائدة.
وكذلك القول المجهل "قيل" في قوله:
ـ ﴿يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض﴾ براءة 
ـ ﴿وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا﴾ آل عمران  
إنما يعني أن الوحي كان يتنزل في كل مرة يأمر الله فيها بالقتال أو النفير في سبيل الله.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخرج من بيته غازيا أو يجهز سرية أو يبعث بعثا إلا طاعة لله الذي أمره بتلك الغزوة أو السرية بذاتها كما هي دلالة قوله:
ـ ﴿كما أخرجك ربك من بيتك بالحق﴾ الأنفال 
ـ ﴿وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال﴾  عمران
ـ ﴿يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ الأنفال
ـ ﴿ويقول الذين آمنوا لولا نزّلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال﴾ القتال
ـ ﴿وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله﴾ التوبة 
ويعني أول الأنفال وأول عمران أن الله قد أمر رسوله بالخروج من بيته إلى العدو بالحق وهو الوحي من الله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج من بيته اجتهادا منه أو قصد الإنتقام من قريش.
ويعني ثاني الأنفال تكليف الذين آمنوا بطاعة الله ورسوله إذا دعاهم لما يحييهم وهو الجهاد في سبيل الله لما في القتل في سبيل الله من الحياة البرزخية كما في قوله ﴿ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ عمران، ومن المثاني معه قوله ﴿ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون﴾ البقرة، ومن المثاني معه قوله ﴿قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين﴾ يـس، وهو من الذكر من الأولين والأحرف الثلاثة (حرف البقرة وآل عمران والأنفال) من الوعد في الآخرين.
ويعني حرف القتال أن قد تمنى الصحابة بعد منتصف العهد النبوي أن ينزل الله سورة يأذن فيها بالقتال في سبيله مما يعني أنهم رغم نزول الإذن الأول في حرف الحج سيحتاجون قبل كل سرية أو غزوة إلى إذن آخر.
ولقد تجدد في السنة التاسعة بعد الهجرة نزول حرف التوبة يأمر بالجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بعد نزول الإذن الأول في حرف الحج في السنة الثانية من الهجرة.
ويعني حرف القتال وثاني التوبة أن الإذن بالقتال في سبيل الله متجدد لن يقع الإذن بإنفاذه إلا إذا أنزلت سورة يأمر الله فيها بإنفاذه على عدو معلوم مخصوص، وأن الوحي هو الذي يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال في كل مرة.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخرج من بيته غازيا أو يجهز سرية أو يبعث بعثا إلا طاعة لله الذي أمره بتلك الغزوة أو السرية بذاتها. 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top