براءةُ الإسلام من تشريع السبي واسترقاق الإنسان وبيعه
في المتون الفروعية
إن كلا من الكتابِ المنزل من عند الله والـهَدْيِ النّبَوِيِّ لدليلٌ في ذاته لا يفتقر لثبوته والاجتجاج به إلى إجماع المكلَّفين، ذلكم أنَّ كل جزئيةٍ من الوحيِ ستظلُّ أبدًا كلِّيةً لا تزداد ثبوتا وصحةً بإجماع جميع الإنس والجن عليها، ولا تنقص بنكرانهم في عصر من العصور أو عبر التاريخ تماما كشهادة أن لا إلـهَ إلا اللهُ وأن محمدا رسولُ الله ستظل حقيقةً لا تنقص لو أجمع على إنكارها كلهم أجمعون ولا تزيد بإقرارهم، ولنا أن نتذكر يومَ أنكرَ أهلُ الأرض جميعا وحدانيةَ الله قبل أن يُـخالفهم كلٌّ من نوحٍ وإبراهيمَ وحده بإعلان التوحيد.
ولا اعتراض على اجتهاد خواصِّ أهل العلم ولا على إجماعِ من يعتبرُ إجماعُهم على ما لم يتضمنه الكتاب المنزل والـهَدْيُ النبويُّ من فروع المعاملات والأقضية ما سلِمَ اجتهادُ المكلَّفين من مانعين اثنين أولهما أن لا يكون بصيغة التشريع والعبادة، وثانيهما أن لا يتجاوز المعاصرين إلى ما بعدهم من الأجيال اللاحقةِ.
وأبرأ إلى الله من تسوية الوحيِ بالتراث الإسلامي وهو في تصوري اجتهادُ الأئمةِ الثقاتِ العدولِ من القراء والمفسرين والمحدثين والفقهاء رضي الله عنهم وغفر لهم أجمعين ولا أخلط بين ما نقلوه لنا عذبا وسلسلا من القرآن والـهَدْيِ النبويِّ وبين فهمهم الذي خالفوا فيه الوحيَ وهذا سرّ الخلاف وموضعُ الدَّاء وموطنٌ يَلزمُ المسلمَ الحزمُ فيه لِـيُقرِّرَ قرارا له ما بعدَه بعبادة الله كما شرعَ أو كما اجتهدَ المجتهدون ودوَّنوا في كتاب من الفروع غير مُنير. 
إن خطأ قاتلا أصمى العربَ بعد خلافة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ولا يزال يبعدهم عن قيادة العالم الإسلامي إلى يومنا هذا، ولا يزالون يزدادون به وهْنا على ضعف، وانحطاطا وسقوطا في هوة سحيقة يتجرّعونـها ذلا وهوانا.
وتولَّـى كِبرَ ذلك الخطإ الفاقرِ القاتلِ الفقهاءُ الفروعيون عبر التاريخ رحمهم الله وغفر لهم اجتهادهم الذي ألحقوه بالكتاب المنزل والـْهَدْيِ النّبويّ، وليس منهما في شيء، بل هو  أملاه ظمأُ غيرِ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصارِ إلى التسلطن وقهر الشعوب المغلوبة المهزومة.
اجتهادٌ غصّت به متون الفقه الفروعيّ وتداولته القرون إلى يومنا هذا معتقدة أنه هو الإسلام كما به النبيون وخاتمهم النبيّ الأمّيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان من مواضع الداء والحاجة إلى الدواء بالبحث العلمي المجرد.
ومن تلك الفقهيات:
ـ أن الإسلام شرع بيعَ الإنسان واسترقاقَه باعتباره متاعا كالدابَّة لا يتصرف في نفسه ولا في أهله وولده ولا مال له بل هو وكسبه لسيده، وأن يشمل الرقُّ سلالاتِه وأن لا يستفيد من عتقِه ذريتُه قبل العتق، وأن تسقط التكاليف الشرعية الجماعية كالجماعة والجمعة والحج والجهاد والقضاء والإمامة عن العبيد، وتكليفهم بدلها بطاعة السيد.
ـ أن الإسلام شرع سَبْيَ نساء المحاربين وذراريهم والدخول بالمسبية المتزوجة فورا أو باستبرائها بحيضة والتفريق بينها وبين زوجها ببيعه لتمزيق الأسرة وتشريد الذرِّية.
وأعلن اليوم صراحةً ودون الإسرار أن دين الإسلام ـ قرآنا وهدْيًا نبويا ـ براءٌ مما امتلأت به بعض متون الفقه وبعض اجتهادات المحدثين وغيرهم حول تجويز استرقاق الإنسان وملك اليمين وبيعه واسترقاق سلالاته وتوارثها.
وإنما لم يتضمّن القرآنُ يوم كان يتنزل تكليفَ العباد بتجاهل الواقع ولو كان غير شرعي كما أقرّ لابن الزنا حقَّه في الحياة الانتساب لأبيه إن عُلِمَ وفي التربية وسائر حقوق بني آدم وأقرّ للمشركين حرمةَ معتقداتهم ومنها الأصنام رغم عدم شرعيّتِها كما في قوله ﴿ولا تسُبُّوا الذين يدعون من دون الله﴾ الأنعام.
وتضمَّن تفصيلُ الكتاب المنزَّل قِصّةَ استرقاقِ يوسف صلى الله عليه وسلم وكيف انقطعت به الأسباب فبِيع بثمن بخس، وتعاملَ الصّدِّيقُ النبيّ مع الرِّقّ كأمْر واقع رغم عدم شرعيته، ولم يتضمن القرآن إعلان تحريره من الرق إذ كان استرقاقه من قبل غير شرعي.
وتضمن القرآن كذلك أن فرعون قد قهَر بني إسرائيل وجعلهم عبيدا كما في قوله ﴿وتلك نعمة تـمُنُّها عليّ أن عبّدتّ بني إسرائيل﴾ الشعراء، من كلام موسى مخاطبا فرعون، ولم يتضمن القرآن إعلانا من فرعون بتحرير بني إسرائيل من الاسترقاق إذ كان استرقاقهم من قبلُ غيرَ شرعي.
وسجل التاريخُ والسيرة النبوية استرقاقَ زيدِ بن حارثة الذي انقطعت به السبل واختطفه الصعاليك فبِيع في مكة، وكذلك سلمان الفارسي الباحثُ عن الحقّ الذي انقطعت به السّبل وهو في طريقه إلى المدينة وباعه من غدروا به فاشتراه يهودي في المدينة، وتعامل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة مع الواقع غير الشرعي فأعان سلمان الفارسي على فداء نفسه من الرقّ.
ولم يقع في العهد النبوي غيرُ شراء العبيد لعِتقهم وتحريرهم من تملِّك الجاهليين كما اشترى الصّدّيق رضي الله عنه بلالا الحبشي لتحريره من سلطان الكافر.
وزعم ركام التراث الإسلامي العريض أن الإسلام أباح الاسترقاق وأجازه تماما كما أجاز النكاح والبيع والأكل والشرب ويلزم منه اعتباره ضرورة من ضرورات الحياة، ولا يخفى ما فيه من المغالطة والتلبيس بدليلين اثنين: أحدهما أن الله قد أباح النكاح بقوله تعالى ﴿فانكحوا ونحوه، وأباح البيع بقوله تعالى ﴿وأحلّ اللهُ البيعَ ونحوه، وأباح الأكل والشُّرْبَ بقوله تعالى ﴿وكلوا واشربوا ولا تُسْرِفوا ونحوه، ولم يتنزل في تفصيل الكتاب المنزل نحو قولنا (استعبدوا) (استرقّوا) (لِتمْتلِكْ أيمانُكم)، وثانيهما أن من تفصيل الكتاب المنزل العفْوُ عما سلَفَ أي سبق تنزّلَ القرآن إذ تعامل القرآن معه كواقع غير شرعيٍّ وهو أصْل من أصول الفقه التي استنبطتُها ونتبيَّن بها دلالة قوله تعالى ﴿ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلَف﴾ النساء، وقوله تعالى ﴿وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلَف﴾، النساء، وقوله تعالى ﴿عفا اللهُ عمّا سلَف ومن عاد فينتقم الله منه﴾ المائدة، ويعني الإبقاء على زواج من تزوج بزوجة أبيه قبل تنزل التحريم، والإبقاء على زواج من جمع بين الأختين قبل تنزُّل التحريم، وجوازَ أكل المُحْرِم من صيده قبل تنزل النهي، وكذلك تعامل الإسلام مع العبيد الذين وقع استرقاقهم قبله ولكن لم يأذن بالاسترقاق من جديد وإنما أوجب تحرير الرقاب وفكّ الرقاب أما ما ملكته الأيمان في تفصيل الكتاب المنزل فله دلالة أخرى ليست من الرق في شيء أبيِّنها في هذا البحث العريض.
ولن تنسَخَ اجتهاداتُ المتون الفقهية ومألوفُ العرب القرآنَ العظيم ومنه قوله تعالى ﴿فإذا لَقِيتُم الذين كفروا فضَرْبَ الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإما مَنًّــا بعدُ وإما فداءً حتى تضع الحربُ أوزارها﴾ القتال، ومعاذ الله أن يخالِفَ هَدْيَ القرآن الرسولُ به الموصوف في القرآن بقوله تعالى ﴿وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم﴾ القلم، إذ كان خُلُقُه صلى الله عليه وعلى آله وسلم القرآنَ العظيمَ، وإنّ من زعم النبيّ الأمّيَّ صلى الله عليه وسلم قد استرقَّ أسيرا بعد حرف القتال فقد أعظم الفِرْية وكذب عليه صلى الله عليه وسلم سواءٌ جهِل أو تعمّد، ولقد أعلن هذه الكلية الشيخ أحمد مصطفى المراغي في تفسيره قال:
"قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى في الأسارى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) وكان عليه عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « بعث النبيّ  صلى الله عليه وسلم خيلا قِبَلَ نجْد، فجاءت برجل من بنى حنيفة، يقال له ثمامة ابن أثال، فربطوه في سارية من سوارى المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير، إن تقتلنى تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت، حتى كان الغد، فقال له : ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك، قال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إلي وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله  وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال لا ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم .
وعن عمران بن حصين قال: أسر أصحاب رسول الله  رجلا من عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي  ففداه رسول الله  صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف." اهـ
ويأبى ركام التراث الإسلامي إلا تقريرَ تجريدِ الإنسان ومنه المسلم من آدميّته ومن التكريم الذي كرَّم الله به بني آدم، ومن أخصِّ ما اختص به بنو آدم من التكريم في قوله تعالى ﴿ولقد كرَّمنا بني آدم﴾ الإسراء، صيانةُ ابن آدم عن البيع والشراء وتوارث ملكيته كأنه قطعة متاع أو حيوان أليفٌ، ذلك القياس الذي امتلأت به متون الفقه التي قاست العبد المملوك بالبقرة والشاة والثوب والدار تأثرا بالحضارات الجاهلية القديمة، وأتمنى على الفقهاء أن يتأملوا قوله ﴿أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفَّـى أن لا تزر وازرة وزر أخرى النجم، ويعني أن الشرع المنزل على إبراهيم وموسى قد تضمن إعلان صيانة حقوق كل مولود من جريرة والديه في الدنيا كما في الآخرة لا يلحقه منها شيء ولن ينتقل الاسترقاقُ من الأبوين أو أحدهما إلى الأبناء فإن وقع فإنما هو اعتداء آخر وقهر آخر لم ينزل به الله سلطانا.
ولم تفقهْ بعض المتون الفقهية من قوله تعالى ﴿ولقد كرّمْنا بني آدم الإسراء، غير تخصيصه بالأحرار فأخرجوا منه ملك اليمين والعبيد القاصرين العاجزين وجعلوا نسلهم وذريتهم مملوكة للسيّد وذريته من بعده أو معه.
وكذلك تضمن الكتاب المنزل على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم تقريرَ ما في الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى كما في قوله ﴿ولا تكسبُ كلُّ نفْسٍ إلا عليها ولا تزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرىالأنعام، وهي كليات تكررت كما في الإسراء وفاطر والزمر.

وأبدأ بتحرير المسألة وتأصيلها بالقرآن والهدي النبوي والله المستعان.
يتواصل

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top