بسم الله الرحمان الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:
فإن مما أشكل على الباحثين وأعضل عن فقه نقلِ الدم والأعضاءِ اعتبارُ نقل دم الإنسان إلى أخيه الإنسان طعاما وتغذية يضطرر إليها مَن خاف الهلاكَ بمرض أو تلَفٍ، وكذلك اعتبارُ نقل الأعضاء ليس من المثلة ولا من تغيير خَلقِ الله الذي وعدَ بالإضلال به إبليسُ.
ويستدل المجيزون شرعيةَ نقل دم الإنسان إلى المريض بقرينة اضطراره إليه بمرض أو نزيف اضطرارا أكبر من اضطرار ذي مخمصة إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهِلَّ به لغير الله وما لم تتم ذكاته قبل موته من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومما أكل السبع.  
ولا يخفى ما في هذا القياس من تحريف الكلم عن مواضعه وإنما وقع إطلاق الدم في سورة النحل والبقرة والمائدة لتأخر نزول السور الثلاثة عن سورة الأنعام التي تضمنت وصف الدم بالمسفوح في قوله تعالى ﴿قل لا أجد في ما أُوحِيَ إليَّ محرَّما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دما مسفوحا أو لحمَ خنزير فإنه رجس أو فِسقا أُهِلَّ لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربَّك غفور رحيم﴾ أي هو الدم المسفوح من ذبيحة الأنعام وما يحل أكله من غير الأنعام كالأرانب وبعض الطيور وغيرها، لا دمُ حرامِ الأكل من البهائم والطير وأكبر منه حرمة وأبشع دمُ الإنسان، ويهتدي متدبرُ القرآن إلى نزولِ سورة الأنعام في بداية العهد المكي ثم تَنزُّلِ سورة النحل في آخر العهد المكي بقرينتين اثنتين أولاهما أن سورة النحل تضمنت قوله تعالى ﴿وعلى الذين هادوا حرَّمنا ما قصصنا عليك من قبلُ﴾ وهو صريح في تنزل سورة الأنعام قبلها وثاني القرينتين تكررُ التكليف بالهجرة في سورة النحل أي هو قبيل الهجرة في آخر العهد المكي، أما سورتا البقرة والمائدة فمدنيتان بقرائن عديدة منها التكليف بالقتال في سبيل الله إذ لم يتنزل الإذن به في تفصيل الكتاب المنزل قبل الهجرة.
ومن مواضع الكلم التي وقع تحريفها ـ بتجويز نقل دم الإنسان إلى المريض المضطر قياسا على شرعية تلافي حياة ذي المخمصة بأكل الميتة وأخواتها ـ أن السياق انحصر في الطعام كما في صريح التكليف في سورة البقرة بالأكل من طيبات ما رزقنا الله، ومثله في سورة النحل بالتكليف بالأكل من رزق الله حلالا طيبا، وفي صريح تحليل بهيمة الأنعام وصيد غير المحرم في سورة المائدة، وفي صريح تبيان منافع الأنعام وثمانية الأزواج منها في سورة الأنعام.   
إن نقل دم الإنسان إلى المتلقي المضطرِّ عبر الأوردة والعروق ليس مما يطعمه الطاعم بقرينة عدم تذوق طعمه بالفم واللسان، وبقرينة اقتصار دلالة مادة "طعم" في لسان العرب على المأكولات فإن أضيف الطعام إلى أمَّةٍ اختصت دلالته على ذبائحهم ولحومهم كقوله تعالى ﴿وطعامُ الذين أوتوا الكتابَ حِلٌّ لكم وطعامُكم حِلٌّ لهم﴾ المائدة، أما الفواكه فهي في تفصيل الكتاب المنزل الطيباتُ من الرزق ويليها سائرُ ما تنبتُ الأرض مما حلَّ وطابَ مما يأكل الناس والأنعام من غير تخصيص أمَّة بها دون أمَّة.
وتضمن تفصيلُ الكتاب المنزل التفرقةَ بين الطعام والشراب كما في قول إبراهيم ﴿والذي هو يطعمني ويسقين﴾ الشعراء، إلا في قول المصطفى طالوت ﴿إن اللهَ مُبتليكم بنَهَرٍ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمْه فإنه مني إلا من اغترف غرفةً بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم﴾ البقرة، ولم تقع في تفصيل الكتاب المنزل تسميةُ الأكل والشرب بغير الفمِ أداةِ الطعم والتذوق، وأجمع الأطباء قبل بعض العمليات الجراحية على تكليف المريض بالصوم أي بترك الطعام والشراب ولا يعتبرون الحقن المغذية عبر العروق طعاما ولا شرابا.
وتجاهل المفتون بشرعية نقل دم الإنسان إلى الإنسان عبر العروق والأوردة خمسة موانع:
أولها: اختصاص ذي المخمصة بالإذن دون المريض المشرفِ على الموتِ ومن خيفَ عليه تلفٌ بعملية أو بحادث ونحوه.
وثانيها: أن المأذون به هو دفع مخمصة المضطر عبر الفم والتذوق ليصبح طعاما أو شرابا.
وثالثها: أن المأذون به هو الدم المسفوح مما أُحِلَّ أكلُه.
ورابعها: الحاجة إلى دليل من الكتاب المنزل والهدي النبوي لشرعية الدم المسفوح مما حرُم أكلُه من البهائم والطير.
وخامسها: الحاجة إلى دليل من الوحي يُـجيز للمضطر بالمخمصة أكلَ لحم الإنسان قبل الاستدلال على جواز شرب دمه إذ قد شرَع الله أكل لحوم الأنعام وغيرها وحرَّم شربَ دمائها المسفوحة إلا للمضطر في مخمصة يخاف الهلكة بها.
إن تحريم أكل العقارب والديدان لأكبر من تحريم أكل كلِّ ذي ناب كالسّبع والضباع وكل ذي مخلب كالنسر بدليل رغبة فطرة الإنسان السوية عنها وكراهتها إياها وكذلك كراهتها أكل لحم الإنسان ميتا كما في قوله تعالى ﴿أيُحِبُّ أحدُكم أن يأكُلَ لحمَ أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا اللهَ إن اللهَ تواب رحيم﴾ الحجرات، ولا يتفق ولا يأتلف التكليف بالإسراع بدفن الإنسان الميت والقتيل على السواء مع احتمال جواز الانتفاع بدمه أو عضو من أعضائه، وشرع لذي المخمصة المضطر أكل الميتة وغيرها وشرع الانتفاع بجلود الحيوانات إذ لم يقع التكليف بدفنها.   

يتواصل

1 التعليقات:

  1. موضوعكم شيخنا الخاص بنقل الدم والأعضاء من إنسان إلى إنسان آخر لم يتضمن جوابا شافيا في إباحة عملية النقل أو منعها لعلكم شيخنا تردفون بحثكم بموضوع تفصحون فيه عن حكم الشريعة في عملية نقل الدم وكذلك الأعضاء وجزاكم الله خيرا

    ردحذف

 
Top