ولا يفتقر تواتر القرآن إلى تمرير اختيارات متأخري التابعين فمن بعدهم إلى يومنا هذا بتبرير وصفها بأنها هي مقتضى ما جاء به الوحي المنزل، لظهور قصور ذلك الإطلاق عن الدرجات السفلى للمنطق والاحتجاج.
قصور شمل ويشمل المتون الفروعية الموصوفة بالفقه يوم اتخذها القوم تأويلا أو بديلا عن الوحي بحجة أنها قد حوت جميع التشريع، مغالطة كبرى وتدليسا محضا على العامة لصرفها عن تدبر القرآن والـهَدْيِ النبوي.
وشمل حركة التفسير ولعل منصفا لقصوره عن الإحاطة بمعاني القرآن ولا فرق بين تفسيرنا نحن المكلفين القاصرين وبين ترجمات القرآن إلى لغات أخرى لاقتصار كل منهما على اجتهاد صاحبه.
ولا يسع باحثا غير التساؤل الجاد عن أسباب رغبة المصنفين من طرق الرواة عن إظهار أسماء حملة المصاحف العثمانية وطمسها إذ أضحت أسماء المقرئين الأولين بالمصاحف العثمانية ظنية غير قطعية تجاهلا عجيبا من المصنفين في العصر العباسي بل تغييبا ليتأتى تقديم الاختيارات المتأخرة بدلها.
ووقع اللبس على المصنفين فخلطوا بين بعض حملة المصاحف وبين المقرئين بها، وأعرض المحقق ابن الجزري عن تفصيله، والتبس على أصحابه فحسبوا حملة المصاحف هم المقرئين بها.
وأجمع الصحابة الكرام رضي الله عنهم على تكليف الصحابي الكريم زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي المقرئ الفرضي رضي الله عنه بإقراء أهل المدينة بالمصحف المدني، ولا يتأتى الطعن في زيد بن ثابت بل هو كاتب النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وأمينه على الوحي وهو أحد الذين جمعوا القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار وهو الذي كتب المصحف لأبي الصديق رضي الله عنه ثم لعثمان رضي الله عنه، وكان قد عرض القرآن على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم وقرأ على زيد من الصحابة أبو هريرة وابن عباس ومن التابعين أبو عبد الرحمان السلمي وأبو العالية الرياحي وقيل وأبو جعفر، وتوفي زيد سنة 45هـ ويعني أنه أقرأ بالمصحف المدني حوالي عشرين سنة.
وحمل أبو عبد الرحمان السلمي المصحف الكوفي من المدينة النبوية إلى الكوفة وسلّمه إلى عبد الله بن مسعود بن الحارث الهذلي (ت 32هـ) ليقرئ به أهل الكوفة ومن حولهم، وأقرأ به حوالي سبع سنين، ولا يعرف العامة عن ابن مسعود غير القراءة الشاذة أي التي تخلفت عن المصاحف العثمانية قبل الإجماع عليها، والحقيقة أنه المقرئ بالمصحف الكوفي، قال ابن الجزري في غاية النهاية ترجمة ابن مسعود (1914) "أحد السابقين والبدريين أسلم قبل عمر، عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ....وعن عبد الرحمان ابن أبـي ليلى أن ابن مسعود كان إذا اجتمع إخوانه نشروا المصحف فقرأوا وفسّر لهم، وعن مسروق كان عبد الله يقرئنا القرآن في المسجد ثم نجلس بعده نثبت الناس" اهـ وإنما يصف عبد الرحمان بن أبي ليلى المصحف العثماني في الكوفة، ويصف مسروق إقراء ابن مسعود بالمصحف العثماني كبار طلبته ومنهم مسروق نفسه وكذلك عددهم ابن الجزري فقال: "عرض عليه الأسود وتميم بن حذلـم والحارث بن قيس وزر بن حبيش وعبيد بن قيس وعبيد بن نضلة وعلقمة وعبيد السلماني وعمرو بن شرحبيل وأبو عبد الرحمان السلمي وأبو عمرو الشيباني وزيد بن وهب ومسروق" اهـ وكذلك دلالة الوثيقة التالية في غاية النهاية في ترجمة سعيد بن جبير (1340) "قال إسماعيل بن عبد الملك كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله يعني ابن مسعود وليلة بقراءة زيد بن ثابت" اهـ وهو صريح في اصطلاحهم على تسمية الأداء بالمصحف المدني بقراءة زيد بن ثابت والأداء بالمصحف الكوفي بقراءة عبد الله بن مسعود.
وحمل عبد الله بن السائب المخزومي المصحف المكي وأقرأ به أهل مكة وما حولها طيلة خمس وأربعين سنة قال عنه ابن الجزري في غاية النهاية (1775) "وروينا من طريق الشافعي رحمه الله قال مجاهد كنا نفخر على الناس بقارئنا عبد الله بن السائب وبفقيهنا ابن عباس وبمؤذننا أبي محذورة وبقاضينا عبيد بن عمير توفي في حدود سنة سبعين في إمارة ابن الزبير، قال ابن أبي مليكة رأيت عبد الله بن عباس لما فرغ من دفن عبد الله بن السائب وقف على قبره فدعا له ثم انصرف" اهــ
وحمل المغيرة بن أبي شهاب المصحف الشامي إلى دمشق وإنما أقرأ به أبو الدرداء (ت32هـ) عويمر بن زيد الأنصاري الخزرجي حوالي سبع سنين، قال ابن الجزري في غاية النهاية في ترجمته المرقمة برقم (2480) "حكيم هذه الأمة وأحد الذين جمعوا القرآن حفظا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف ولي قضاء دمشق وهو أول قاض وليها وكان من العلماء الحكماء الذين يشفون من الداء ... قال سويد بن عبد العزيز كان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه فكان يجعلهم عشرة عشرة وعلى كل عشرة عريفا ويقف هو بالمحراب يرمقهم ببصره فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفه فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء فسأله عن ذلك وكان ابن عامر عريفا على عشرة فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر"اهـ
وحمل عامر بن عبد الله بن عبد قيس المصحف البصري وإنما أقرأ به حوالي عشرين سنة عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري اليماني (ت في ذي الحجة 44هـ) وقيل (53هـ) قال ابن الجزري في غاية النهاية (1851) "وحفظ القرآن وعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه القرآن حطان بن عبد الله الرقاشي وأبو رجاء العطاردي وأبقو شيخ الهنائي" اهـ
قلت: ويعني اقتصار مصاحف الأمصار على خمس قراءات حسب المقرئين بها من الصحابة:
1.    قراءة زيد بن ثابت الخزرجي الأنصاري بالمصحف المدني
2.    قراءة عبد الله بن السائب المخزومي بالمصحف المكي
3.    قراءة أبي الدرداء الأنصاري الخزرجي بالمصحف الشامي
4.    قراءة عبد بن مسعود الهذلي بالمصحف الكوفي
5.    قراءة أبي موسى الأشعري اليماني بالمصحف البصري
وسادسها القراءة بالمصحف الإمام الذي احتفظ به عثمان بن عفان لنفسه.
وكان إقراء أهل كل مصر وما حولهم بأداء واحد أي برواية واحدة أو قراءة واحدة تضمنه كل مصحف على حدة، ولو أنصف الباحثون لاكتفوا بقراءات الصحابة المقرئين بالمصاحف العثمانية الذين وقعت تزكيتهم من كتبة المصاحف ومن الصحابة الكرام.
ولا يسعنا غير تسميتها بالقراءات كما في الوثيقتين التاليتين:
أولاهما: في وصف الأداء الذي كان يقرأ به سعيد بن جبير يؤم به الناس في قيام رمضان قال عنه ابن الجزري في غاية النهاية (1340) "قال إسماعيل بن عبد الملك كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله يعني ابن مسعود وليلة بقراءة زيد بن ثابت" اهـ
وثانيهما: في وصف الأداء الذي كان يقرأ به ابن عباس قال عنه ابن الجزري في غاية النهاية (1791) "وروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس أنه كان يقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت إلا ثمانية عشر حرفا أخذها من قراءة ابن مسعود" اهـ
ورغم إجـماع المصنفين من طرق الرواة على أن لا مزية للقراء السبعة ورواتهم على غيرهم من أقرانهم، فقد وقع إهمال قراءات الصحابة المقرئين بالمصاحف العثمانية واستبدالها باختيارات متأخرة عنهم.
ويلزم الذين أصّلوا اختيار قراءات وأداءات متعددة للمصحف الواحد أن تطعن فـي إجماع الصحابة على كل مصحف، وأن يعترفوا بفضلٍ وأمانةٍ وعلمٍ لأصحاب الاختيارات المتأخرة كرُويس ورَوْح وخلف والكسائي وحمزة أكثر مما أوتيه السابقون الأولون من الصحابة المقرئين بالمصاحف العثمانية.
وانتشرت ظاهرة تعدد الاختيارات وتدوينها وترويجها واعتمادها بدل قراءات الصحابة التي أجمعوا عليها في المصاحف العثمانية.
وتتراءى الاختيارات المتأخرة عن الصحابة ضرورية لحفظ القرآن وللعاملين التاليين:
1.    محاولة تفسير الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن
2.    محاولة تعليل الاختلاف في رسم المصاحف العثمانية
وهو توجيهٌ واهٍ ولا يلزم لتلقي كل خلَف القرآن عن سلفه إقصاءُ أداء الصحابة المقرئين واستبدالها باختيارات تأخر بعضها إلى نهاية القرن الثالث الهجري.
وإنما يلزم المصنفين من طرق الرواة بدءا بابن مجاهد وانتهاء بابن الجزري إقصاء قراءات الصحابة المقرئين واستبدالها باختيارات متأخرة عنهم لإدراج كثير من القياس في الأداء وكان القرآن ولا يزال في غنى عنها رغم قول ابن الجزري في نشره (1/13) "وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء السبعة وغيرهم" اهـ
ويعني أن قد تَـخلَّى ابن الجزري ومن سبقه عن ركن التواتر حفاظا على كثير من الأداء في القراءات السبع والعشر وغيرها بدافع الحرص على تعدد الروايات والقراءات وليس لأجل حفظ القرآن المحفوظ المتواتر قبل نشأة القراءات وبعد انقراضها لو انقرضت.
ويتفق المتقدمون والمتأخرون وما بينهما على أن قراءات طبقة التابعين الأولى أعلى سندا وأقرب إلى الأداء بالمصاحف العثمانية وأنقى من القياس، ورغم ذلك فقد وقع انقلابٌ لم أحضره ولم تخْفَ على العوام بعض مظاهره:
ـ بعد وفاة زيد بن ثابت رضي الله عنه تم عزل قراءته المصحف العثماني المدني وكذلك تم إقصاء الأداء الذي كان يقرأ به كل من العرب التابعين:
1.    معاذ القارئ ابن الحارث أبو حليمة الأنصاري (ت 63ه) المرقم في غاية النهاية (3621) وهو شيخ نافع وابن سيرين
2.    عروة بن الزبير بن العوام (ت 94)
3.    سعيد بن المسيب المخزومي عالم التابعين (ت94ه)
4.    عمر بن عبد العزيز (ت 101ه)
5.    سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أحد الفقهاء السبعة (ت 108)
6.    محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري المدني أحد الأئمة الكبار (ت 124ه)
ووقع استبدال هذا الأداء الأعلى سندا والأنقى من القياس إذ فرض سلطان البلاط العباسي بواسطة المصنفين المقربين منه  اختيارات تأخرت عنه:
1.    أبو جعفر يزيد بن القعقاع  أو جندب بن فيروز (ت130ه)
2.    نافع بن أبي رويم أصله من أصبهان وهو أول القراء في سبعة ابن مجاهد (ت 169ه)

وما هو بالطعن في اختيارهما رحمهما الله وإنما على المصنفين الطعن في الأداء الأول وليتأتى لهم الاحتجاج برغبتهم عنه إلى الأداء المتأخر من اختيارات العجم خاصة دون أقرانهم وشيوخهم من العرب.
يتواصل

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top