ضلّ: الضّلالُ في تفصيل الكتاب المنزّل هو النُّقصان بعد النُّقْصان والتَّلاشِـي بعدَ التَّلَاشِـي حتَّـى تغيبَ الْعَيْنُ والأثَرُ فلا يَبْقَى منهما شيْءٌ وكذلك دلالةُ قوله تعالى ﴿وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِـي الْأَرْضِ أَءِنَّا لَـفِـي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [السجدة 10] عجَبًا منهم إحياءَ أجسادٍ تلاشتْ بالمرَّة واختفى عينُهَا وَأثَرُهَا، وتضمنتْ سورة ق أنّ الأرضَ تنقُصُ من الأجساد، وتضمنتْ سورة سبإ أن الأجساد تُمَزَّقُ كُلٍّ مُـمَزَّقٍ، وتضمَّنَ تفصيلُ الكتاب الْـمُنَزَّلِ صيرورةَ الأجسادِ إلى تُرابٍ وعظام وإلى تُراب محضٍ وإلى حجارة أو حديد أو خَلقٍ مما يَكْبُرُ فِـي صُدُورِ مُنْكِري البعثِ.
وكان كيْدُ أصحاب الفيل في تضليلٍ إذ تلاشى فلم يبق منه أثر بل غاب وابتعد عن هدم الكعبة، وكان كيْدُ الكافرين في ضلال أي يتلاشَى فلم يصلْ ولم يهتدِ إلى غايته بل يقصر عنها، وكذا دعاؤهم وهم في جهنم في ضلال أي لا يُستجابُ ولا يصل بهم إلى النجاة من العذاب، وحسِب أصحاب الجنة التي أصبحت كالصّريم أنهم قد ضلّوا طريقها أي لم يهتدوا إلى جنّتِهم التي أقسموا ليصرمُنّها مُصبحين ولا يستثنون للمساكين منها شيئا، ومن خيبة المشركين إذا مسّهم الضر في البحر ضلال شركائهم أي ذهاب ما اعتقدوه فيهم من القدرة على النصر ودفع الضر، وسيتقطّع يوم القيامة ما بين المشركين والشركاء من المودّة أي يضِلُّ ويتلاشى فلا يبقى منه أثر، ومن الوعد في القرآن أن سيُضِلُّ اللهُ الظالمين أي يُهلكهم في الدنيا بالعذاب فلا يبقى منهم أثر كما أهلك سلفَهم من قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وكان ضلال إحدى المرأتين الشاهدتين هو نسيانها الحادثة وذهاب تذكّرها بالمرة.
وورد الضلال في تفصيل الكتاب المنزل في مقابلة الهدى كما في قوله ﴿قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ الأنعام، ومن المثاني معه قوله ﴿قَدْ خَسِرَ الذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ الأنعام، ويعني أن الضالّين لم يحضروا ولم يشهدوا الهداية بل غابوا عنها بما سلكوا طرقا وسبُلا تذهب بهم بعيدا عن الهدى الذي جاء به الرسل والنبيون من عند الله.
ومن الضلال عن الهدى تبدّلُ الكفر بالإيمان والإسرارُ بالمودة إلى عدوّ الله وعدوِّ الذين آمنوا، واتباعُ أهواء المشركين، وعبادةُ الآلهة من دون الله كالذين اتخذوا العجل، وضربُ المثل للنبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم بالرجل المسحور.
ومن الضلال المبين أي الواضح الذي لا يختلط بالهداية معصيةُ الله ورسوله، وعبادةُ الأصنام وقساوةُ القلب من ذكر الله، وتسويةُ المخلوقين بالخالق.
ومن الضلال البعيد الذي ابتعد ونأى بصاحبه عن الهداية: الشركُ بالله والكفرُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والكفرُ والتحاكمُ إلى الطاغوت واستحبابُ الحياة الدنيا عن الآخرة والصدُّ عن سبيل الله وعن اتباع الرسل والكفرُ بآيات ربنا الخارقة مع الرسل بها ودعوةُ ما لا يضر وما لا ينفع من دون الله وعدمُ الإيمان بالآخرة والامتراءُ في الساعة ...
وأما الضالّون فهم الذين لم يهتدوا إلى دراية أن خالقَهم هو ربُّ السماوات والأرض، يقنَط من رحمة ربّــه، والذين كفروا ثم ازدادوا كفرا.
وأضلُّ من هؤلاء أهلُ الكتاب الذين ينقمون على الذين آمنوا إيمانهم بالنبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وعلى ءاله وسلم، والمكلّفون الذين لا يفقهون بقلوبهم الكتابَ المنزلَ ولا يبصرون بأعينهم الهدى مع الرسل والنبيين ومن اتّبع هواه بغير هدًى من الله ومن شاقّوا اللهَ ورسلَه أي خالفوهم ونابذوهم العداوة، ومن دعا مِن دون الله مَن لا يستجيب له إلى يوم القيامة.
وتضمن الكتاب المنزل أن اللهَ يُضِلّ عن الهدى بصيغة الاستقبال المتجدد كلا من الكافرين، ومن هو مسرف مرتاب، والفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصَل ويفسدون في الأرض، وكذا الذين في قلوبهم مرض والكافرون الذين يعترضون على اصطفاء الله رسُله بقولهم ﴿مَا ذَا أَرَادَ اللهُ بِـهَـذَا مَثَلًا﴾ [المدّثّر 31]، ومَن تبيّن له الهدى مع الرسُل به فأعرض عنه كأبـي إبراهيم، ومَن كفروا وحرصوا على تعجيز الرسل فسألوهم الآيات الخارقة للتخويف والقضاء، وكذا مَن زُيّن له سوءُ عمله فرآه حسنًا كالذين يفرحون بما أَتَوْا ويحبون أن يُـحمَدوا بما لم يفعلوا، وكذلك فئتان مِن المنافقين أركسَهم الله بما كسبوا، والمنافقون المذبذبون بين الكفار والمؤمنين، والذين كذّبوا بآيات ربهم، وكفروا ويمكرون، ومَن هم في طغيانهم يعمهون، ومَن ضل عن آيات الله، ومَن ضل عن الاهتداء بأحسن الحديث كتابا متشابها مثاني، والذين خوّفوا النبيّ الأمّيّ أن تُصيبَه آلهتهم بسوء، والذين سيأتي عليهم يوم من أيّام الله التي سيُهلك فيها الأحزابَ، والذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، والذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة بما ضلّوا في الدنيا وأضلّوا أهليهم معهم، فهؤلاء جميعا لا ولـيّ لهم ولا مُرشد يهديهم إلى الـهُدى والرشْد ولا هادي لهم لـِمَا عاقبهم به الله.
وقام فعلُ الإضلال في الكتاب المنزل بفرعون أضَلّ قومَه، وبالشيطان إذ أضلّ جِبِلّا كثيرا من بني آدم، وبفريق من الناس متأخر عن نزول القرآن كما في قوله ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُـجَادِلُ فِـي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِـيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ [الحج 9]، وقوله ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشتَرِي لَـهْوَ الْـحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ [لقمان 6] أي عن الرسول ورسالته كما بينت في مادة سبيل، والأظلم الْمُفترِي على الله كذبا ليُضلّ الناس بغير علم وإنما الافتراء على الله كذبا هو القول بأن اللهَ لم يرسل رسولَه والقول بأن الله لم ينزل كتابه كما بينت في مادة افترى.
ووقعت إرادة الإضلال والحرص عليه من الشيطان ومن طائفة من أهل الكتاب ومن فرعون وملئه وممن جعل لله أندادا، وأكثرُ مَن في الأرض وكثير يُضِلّون غيرَهم بأهوائهم.
وأما قوله:
ـ ﴿الذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهُ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [بداية سورة القتال]
ـ ﴿وَالذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [القتال 8]
ـ ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنْثُورًا﴾ [الفرقان 23]
ـ ﴿وَيَقُولُ الذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ﴾ [المائدة 53]
وشبهه فيعني أن الله سيجعل قبل انقضاء الدنيا سِيما يُعرف بها كلّ من الكافرين والمنافقين في الدنيا ليَميزَ الله الخبيث من الطيب ولا يختلطون بالمؤمنين بل يُعرَف بها أن الذين شاقّوا اللهَ ورُسلَه قد حبطتْ أعمالهم أي ما سلف من صلاتهم وصيامهم وقيامهم وحجّهم وفتاويهم ووعظهم... وإنما سيقع ذلك يوم يقع القول في القرآن على المكذبين فيُخرج ربّـــنا دابّـــةً من الأرض تكلّمهم أن الناس كانوا لا يوقنون بآيات ربهم الخارقة للتخويف والقضاء، وقد بينته كثيرا في مادة حبط من هذا المعجم وفي كلية الآيات من بيان القرآن.
من كتابي "معاني المثاني" معجم معانِي كلمات القرآن وحروفه ومضمراته
الحسن مـحمد ماديك
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top