فتن
الفتنةُ من المخلوق هي الابتلاء بالمشْغلة عن الطاعة والشكر والعبادة، وهي أَكبرُ من القتْلِ وأشدُّ.
وإذ القتْلُ هو إزهاق النفس بعامل خارجيٍّ مثلِ الإحراق والسمّ والإحصار تجويعا وتعطيشا ومَنْعَ دَواءٍ وبالشّنق كحبس الهواء أو الدم وبالضرب كرجم أو نحوه.
فإنّ الفتنةَ الْمُسندةَ إلى الإنسان والشيطان هي: إزهاقُ كرامةِ الاختيارِ ـ بين الْـخَيْرِ والشّرِّ أي بين الإيمان والكفران ـ في الْـمفتُونِ بتسخيرِه أو بقلْبِ تصوُّراتِه وموازِينِه لِتُزَيِّنَ لَهُ سوءَ عَمَلِه فيَراهُ حَسَنًا فينفرَ من الحقِّ والرُّشْدِ فرارَ الْـحُمُر من القَسْورة وفِرار الإنسان السَّوِيِّ من الْمُوبقات والفواحشِ والفضائح.
وتنزَّل الخطابُ الجماعيّ لجماعة المسلمين في ظلّ سُلطانِهم الممكَّن الظاهر في الأرض غير الْـمُختفِي الْمُستتِرِ بقتال الذين يفتنون الناس بسلْبِهم حريّة الاختيار وليكون الدِّين كلُّهُ لله كما في المثاني [البقرة 193] [الأنفال 39]
ويعني أن دينَ اللهِ هو تقرير كليّة ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَـهَا كَارِهُونَ﴾ [هود 28] ذِكرا مِّن الأوّلين ومن المثاني معه وعدا في الآخِرين ﴿لَا إِكْرَاهَ فِـي الدِّينِ﴾ [البقرة 256]
وتنزّل الكتاب بتحذير بني آدم أن يفتنهمُ الشيطان إبليسُ كما أخرج أبويْنَا من الجنّةِ ينزع عنهما لباسَهما وأراهما سوءاتِهما ويتأصّل به في الفقه تعدد الفاعل بالتأثير، وإنّـما زيّن لهما المعصيّة بقلْبِ التصوُّرات والموازين فأكلا من الشجرة المنهِيِّ عنها فأُسْنِدَ إليه إخراجهما من الجنّة.
وفتَنَ الشياطينُ ومنهم هاروتُ وماروتُ الحريصين على تعلُّم السِّحْر فتنةً ظاهرة من غير تدليس بقولهم ﴿إِنَّمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ [البقرة 102] ويعني إباقَ السّاحر بتشجيعه على الكفر بأنَّ تعلّمَ السحر بموالاة الشياطين أكبرُ نفعا من الإيمان واتِّباع الأنبياء.
ويَفتِنُ الشيطانُ النّاسَ بما يُلقِي لغْوًا من الباطل وزخرف القول واللهو في أمنيّة الرّسُل والأنبياء أن يهتدِيَ الناسُ بالكتاب المنزل وبالوحي، وسينسخ اللهُ ذلك الباطل واللغْوَ ويُحِقُّ الحقَّ بكلماته دونما جهد من المؤمنين وعْدًا تنزل به الكتاب ولا يزال غيبا وسيصبح شهادة قبل انقضاء الدنيا.
ويبتغِي الفتنةَ وتأويلَ آيات الكتاب المحكمات وآيات الكتاب المتشابهات الذين فـي قلوبِهم زَيْغٌ باتِّباع ما تشابه من الكتاب المنزّل.
ولا يفتتِنُ باتخاذ الشركاء من دون الله إلا مَن سيَصْلَوْنَ الْـجَحِيمَ.
وسيُبْصِرُ الراغبون عن الإيمان بالنبيّ الأمِّيِّ صلى اللهُ عليه وسلّم حين يرَوْنَ الملائكة في ليلة القدْر أو حين الموت أنّهم كانوا مفتونين عن الإيمان بتصوراتٍ خاطئةٍ وموازينَ طاغيةٍ، وأنّه صلى اللهُ عليه وسلّم لم يكن  مفتونا أي مصدودا  عن الحقّ بالكهانة ولا بالـجنون ولا بالساحر.   
وحرص الْـمُكذِّبون من قريش على أن يفتِنوا الرسول بالقرآن أي يصُدّوهُ عن الذي أُوحِيَ إليهِ ليفترِيَ على اللهِ غَيرَه، وتنزّل عليه الخطاب ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة 49]
وتتظاهر طائفة من الْـمُنافقين بالصلاح والورع واتّقاءِ الافتتان بنساء الروم أي الانشغال بهنّ عن الإسلام فيستأذنون النبيّ صلى الله عليه وسلّم في التخلُّفِ عن الغزو معه إلى تبوك.
ويعني قوله ﴿إِنَّ الذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ ثُـمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْـحَرِيقِ﴾ [البروج 10] أنّ اللهَ سيُعذِّبُ بعذاب جهنّم وبعذاب الحريق الذِين يفتنون المؤمنين والمؤمنات أي يقطعون عليهم طريق الإيمان بتخييرهم بين الكفر والقتل، ولا تسَل عن كمال القرآن وجمال الإسلام وهو يعلن قبول توبة الذين يحرِّقُون المؤمنين والمؤمنات إن تابوا وأصلحوا بتدارُك ما تبقَّى ومن المثاني معه قراءة ابن عامر بالتسميّة في قوله تعالى ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِين هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فَتَنُوا﴾ [النحل 110] في خطاب المستكبرين الفاتنين المستضْعَفِينَ.
وينفر المنافقون من الإسلام خوفا من الإيذاء الذي هو من فتنة الناس.
وتنزّل تشريع صلاة الخوف بالقَصْر حتى لا يفتنَهم الذين كفروا أي يُشْغِلوهم بالحرب عن الصلاة في وقتها.
وكان الأموال والأولادُ فتنةً أي مشغلةً عن ابتغاء الأجر العظيم عند اللهِ بالزكاة في مواطنها.
وابتغَى المنافقون فتنةَ المؤمنين أي بقطع طريق النصر عليهم فقلَّبُوا لهم الأمورَ ونشروا خلالَـهم القيل والقالَ وتربّصوا بهم الدّوائر وأجابُوا وباركوا كل جهد يسعى للنيل من بيضة الإسلام.
وفتَن المنافقون أنفسَهم عن الاستقامة والالتزام بالتربُّصِ والرَّيبِ والشكّ وبالأماني أنّ اللهَ لنْ يَنصُر أهل دينِهِ.
وإلّا يكنِ المؤمنون بعضهُم أولياءُ بعضٍ تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير عريض بتفرُّقِ المؤمنين أحزابا وشِيَعا وطوائفَ ومذاهبَ يضيق بعضهم ببعض ويمكر بعضهم ببعض ويقاتل بعضهم بعضا.
ووردتِ الفتنة في تفصيل الكتاب المنزّل مسندَةً إلى اللهِ، يفتِنُ بها في الدنيا وفي الآخرة.
فأمّا الفتنة من الله في اليوم الآخر فهي تمحيصُ المفتونِ بظهور ما كان يُنكرُهُ في الدُّنيا موطِنِ التكليفِ، وليَعلمَ المشركون يوم الحساب أن اللهَ هو الْـحقُّ المبينُ بما فُتِنُوا به من ضلال شركائِهم من دون الله عنهم وأنّهم لن ينقِذُوهم من عذاب الله، ويعلمَ الْـخَرَّاصون مُنكِرُوا البعث يوم الدِّين بما فُتِنوا به من عذاب النّار أنّهم كانوا كاذِبين، ويعلمَ الذين ألْفَوْا آباءَهم ضالِّين فهَرَعُوا على آثارِهم تقليدا منهم عطَّلوا به نعمة العقل والفكر أنّهم كانوا ظالِمين وهم يُفتَنون بشجرة الزّقُّوم طعامِ الأثيمِ.
وأمّا الفتنةُ من الله في الدنيا فهي تمحيصٌ منه يظهر به الأخفَى مما في الأنفُسِ من قابليّة واستعداد للخير أو الشّرِّ، أي من الإيمان الكفران ومن الصلاح والفساد ظهورا يفتضح به كذِبُ الكاذِب افتضاحا لا ينفَع معه ندَمٌ،
والفتنة من الله ـ في الدنيا موطِن التكليف ـ ثلاثة أقسام:
أحدها: ابتلاءٌ أي اختبار من الله عبادَه بالسّرّاء وبالضّرّاء لِيظهر انشغال الجاحدين بالسّرَّاء عن الشكر باستعمالِها في الطاعة، وليظهر يأسُ القانطين من رحمة الله ورَوْحِه، كالذي يحسَبُ الفتنة بإيذائه جزءًا من عذاب اللهِ، والذي ينقلبُ على وجهه إن أصابتهُ فتنة بالضرّاء بعد فتنة الخير والسّرّاء، والذي لا يشكر لله نعمة خَوَّلَها إيَّاه بعد ضُرٍّ أَصابه، ويعني أنّ كلا من الخير والشّر فتنة أي اختبار من الله عبادَه كما في قوله ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْـمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْـخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء 35]
وأضحَى الْـمُبتَلُونَ بالشر فتْنَةً للْمُبْتَلين بالخير يتكبّرون في الأرض بغير الحقّ عليهم ينشغلون عن شكر النعم بظلم الضعفاء البائسين ويسخرون منهم وبهم يستهزئون، وكذلك تضرَّع الذين ءامنوا مع إبراهيم وموسَى أن لا يجعلهم ربُّهم فتنةً للذين كفروا كما في التحريم وحرفي يونس.
وافتُتِن زعماء قريش عن الإسلام رغبة منهم عن المساواة مع يعدّونهم من الأرذلين الأشرار إنكارا منهم أن يمُنَّ اللهُ عليهم.
وأضحَى الْـمُبتَلُون بالْـخَيرِ فِتْنَةً للْمُبتلينَ بالشّرّ كما في قوله ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان 20].
وثانيها: ابتلاء من الله يزداد به الأبرار المصطفَوْنَ الأخيارُ انكسارا وإنابةً وتوبة وفتَنَ اللهُ موسَى فُتُونًا بعد قَتْلِهِ غُلَاما من عدُوِّهِ لَم يُؤْمَرْ بِقَتلِه، وظَنّ داوود أنّ الله فَتَنَهُ بالخصْمِ الذين تسوَّروا المحرابَ، وفتَنَ اللهُ سليْمانَ فَأَلْقَى على كرسِيِّه جسدًا.
وثالثها: ابتلاء من الله ـ وأغلبُه في ظلِّ رسالةٍ ـ لا نجاة منه إلا بالاستسلام بتقديم الوحي على العقل،  وكانت النَّاقة فتنةً لثمودَ، وكانت فتنةُ قوم فرعون أن أرسل إليهم ربّ العالمين رسولا من طائفة اتّخذوها عبيدا مستَرذلين، وافتُتِنَ بنو إسرائيل بالسامريّ وعِجْله، وحسِب بنو إسرائيل أن لن يبعث الله من بعد يوسف رسولا فعمُوا وصمُّوا كلّما جاءهم رسول بما لا تَهْوَى أنفسهم، وكذلك خلَفهم وأتباعُهم في هذه الأمّة المنافقون كانوا في العهد النبويّ يُفتَتنون في كلّ عام مرّةً أو مرّتيْنِ أي كلّما رُدُّوا إلى الفتْنَة أركِسُوا فيها ولا يتوبون ولا يذّكّرون، ووعَد اللهُ أن لن يتوب على قوْم متأخّرين عن حياة النبي الأمّيِّ صلّى الله عليه وسلّم يُحرِّفُون الكلمَ مِن بعد مواضعِه سمّاعين للكذبِ بل أراد فتنتَهم ولم يُرِدْ أن يُطَهِّرَ قُلُوبَهم، ويعني أنّ القلْبَ هو موضع الفتنة، وأنّ القلبَ الْمُطَهَّرَ من الفتَن هو الْقَلْب السليمُ كقلبِ إبراهيم.
ولقد تضمَّن القرآنُ التحذيرَ من فتَن مُنتظرة والتكليفَ باتِّقائها كما في المثاني:
﴿فَلْيَـحْذَرِ الذِينَ يُـخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور 63]
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال 25]
﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَـى حِينٍ﴾ [الأنبياء 111]
﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْـحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الذِينَ ءَامَنُوا إِيـمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْـمُؤْمِنُونَ﴾ [المدثر 31]
﴿الـم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت 2] [العنكبوت 3]
﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا التِـي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّـجَرَةَ الْـمَلْعُونَةَ فِـي الْقُرْآنِ وَنُـخَوِّفُهُمْ فَـمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾ [بني إسرائيل 60]
وجعل لتلكَ الفتنة المنتظَرَةِ مَوعِدًا هو في المثاني:
﴿وَلَا تَـمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَـى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا لنَنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ [طــه 131]
﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا لنَنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾ [الجن 17]
وإنَّما النّجاة منها هو التّمسُّكُ بحبل الله المتين الذي هو القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وإلى الرُّشْدِ يومَ يُصبح غيب القرآن شهادة.
(من كتابي: معاني المثاني: معجم معاني كلمات القرآن وحروفه ومضمراته)
الحسن محمد ماديك
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top