لقد عرف لسان
العرب للسين واللام والميم معاني ترك النزاع والخصام للدلالة على إخلاص الخضوع لمن
يقع له الإسلام أو الاستسلام، وعرفت العرب من قبل لدغ الحية بالسِّلْم بكسر اللام
لاستسلام اللديغ لما يفعله به السم وقالوا: أُسلِم الرجلُ بتجهيل الفعل إذا لدغته
الحية، واضطر من لا يجد ما يقتات به إلى السَّلَم بتحريك اللام بالفتح لاستسلامه
أمام من يسلفه من القوت أو المال، ودبغت الجلود بورق السلم وهو شجر لا حلاوة فيه
تكفي مرارته لدبغ الجلود، وعُرِف الصُّلْحُ بالسِّلْم بكسر السين وفتحها لتعهد
المتنازعين بالكف عن أسباب الخصومة والتنازع، ووقع استلام ما كان ممتنعا من قبل،
وكما عرفت الدلو ذات عروة واحدة بالسلم بإسكان اللام لخضوعها لمسارها دون أن
تتنازعها عرى متعددة متفرقة، وقد ضرب الله مثلا في سورة الزمر للمسلم الخاضع لربه
ولا سلطان لغير الله عليه برجل سلَم لرجل وللمشرك برجل فيه شركاء متشاكسون
متنازعون توجيهه وتكليفه.
وشكر الله
لإبراهيم قلبه السليم لخلوه من الكبر ومن سلطان الشيطان والهوى والنفس عليه أي هو
قلب العبد المستسلم ولن ينتفع بماله وبنيه يوم البعث إلا ذو القلب السليم.
ولن ينغلق مدلول
كلمة الإسلام في الكتاب المنزل الذي تضمن تفصيل حال المشركين يوم الحساب ﴿ما لكم لا
تناصرون بل هم اليوم مستسلمون﴾ الصافات.
ووصف حال من في
السماوات ومن في الأرض يوم البعث ﴿إن كل من السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا﴾
فذالكم الاستسلام وتلكم العبودية لله الواحد القهار.
إن قوله تعالى ﴿ومن
يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن
الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصّى بها إبراهيم بنيه
ويعقوب يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ البقرة،
ليعني أن ملة إبراهيم هي الإسلام لرب العالمين، فذلكم إسلام الخليل الذي ابتلاه ربه
بكلمات فأتمهن ووفـّى، ويوم أمره بذبح ابنه إسماعيل أسلم الأب والابن كلاهما كما
في قوله ﴿فلما أسلما وتلَّه للجبين﴾ الصافات، أي جعل جبينه ووجهه مما يلي التل وهو
ما لان من الأرض ليقع الذبح من القفا ولا يتطاير الدم على الأب المبتلى وقد وعد
الابن أباه أن يكون من الصابرين على إنفاذ أمر الله وشرعه في قوله ﴿يا أبت افعل ما
تؤمرُ ستجدني إن شاء الله من الصابرين﴾ الصافات، وأنجز النبي إسماعيل وعده كما في
المثاني معه في قوله ﴿واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد﴾ مريم، والله
عالم الغيب وصف هذا النبي الصابر الصادق الوعد بالحلم قبل أن يولد كما في قوله ﴿فبشرناه
بغلام حليم﴾ الصافات.
واتبع الرسل
والنبيون بعده ملة إبراهيم بإسلامهم لله رب العالمين، وأمر الله رسوله النبي الأمي
صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم كما في قوله ﴿ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة
إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين﴾ النحل، وكما في قوله ﴿وأمرت أن أكون من
المسلمين﴾ النمل.
إن إسلام النبيين هو تحقيقُهم عبوديَّتَهم
لله في جميع أحوالهم في أنفسهم وما يملكون، فهم في الدنيا كإسلام من في السماوات
والأرض يوم القيامة لله كما في قوله ﴿إن كل من في السماوات
والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا﴾
مريم، أي مسلما خاضعا، ولا كرامة بالإسلام في يوم القيامة، وإنما في الدنيا موطن
التكليف والخطاب والاختبار كإسلام الملائكة والنبيين فيها.
ويعني وصفُ العبد بعبوديته في القرآن إظهارَ نبوته التي
أسلم بها لله، وذكّر الله في القرآن بعبودية كل من نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب
وداوود وأيوب وزكريا وعيسى ومحمد ومعلّم موسى.
ولا ينغلق وصف
النبيين الذين يحكمون بالتوراة بالإسلام في قوله ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى
ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا﴾ المائدة، لدلالته على أن رسل الله ـ جميعا ـ
لا يحيفون في حكمهم ولا يظلمون بسبب إسلامهم لله رب العالمين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق