الرحمة: هي النعمة بالسلامة
من الآفات والضر والعذاب كما في قوله ﴿وَلَئِنْ أَذّقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً
ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ
بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ
فَخُورٌ﴾ هود، وإنما هي النعمة بالعافية والأمن فما دونهما.
ووقعت رحمة الله على الماء ينزل من السحاب
وأرسل الرياح مبشراتٍ بين يديها، ولا يخفى أثر رحمة الله بماء السحاب يُحيِي به
الأرض بعد موتها، وعلى سائر الغيث ويفتح منها للناس ويمسك.
ووقعت الرحمة في تفصيل الكتاب المنزل في مقابلة
العذاب والسوء كما في الوعد المنتظر من ربنا بعد نزول القرآن في قوله ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ الإسراء
وتضرع أيوب لمّا مسّه الضرّ، وكان كشف الضرّ
عنه هو رحمة أرحم الراحمين به، ومن محاورة إبراهيم ضيفَه قوله ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِن
رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ الحجر، ويعني أن على المكروب والمحروم من
نعمة أن لا يقنط من الفرَج بعد الشدة ومن المثاني معه قوله ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ
رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾
يوسف، وأخرج الشقيُّ نفسَه بقتلها من سَعَةِ رحمة الرحيم بالمؤمنين.
وكتب الله على نفسه الرحمةَ فأخّر عرضَ الأعمال
والفضيحةَ بها إلى يوم القيامة موطن المغفرة أو المؤاخذة، واقترف المكلفون ذنوبا
تأخر عنهم عقابها بفضل الله ورحمته بهم في الدنيا.
وكتب ربّنا على نفسه الرحمة فوعد بالمغفرة
والرحمة الذين يؤمنون بآيات ربهم الخارقة للتخويف والقضاء كلَّما عملوا السوء
بجهالة ثم تابوا من بعدها وأصلحوا، ويعني الوعد بهما أن لن تُعرَض عليهم الأعمال
السيئة بل سيغفرها الله وسيرحمهم فلا يعذبهم في النار، وآمن السحرة بآيات ربهم
الخارقة للتخويف والقضاء مع موسى فأمِنوا المؤاخذةَ بما سلف من الخطايا ومنها
السحر.
وأخّر ربنا الغني ذو الرحمة عن المكذبين بعد
نزول القرآن العذابَ المستأصِلَ إلى موعد ظهور الخضر معلّم موسى، ويومئذ لن يردّ
بأسه عن القوم المجرمين.
ووقعت رحمة ربنا على الفرَج من الضيق دون جهد
من المرحوم وسألها أصحاب الكهف حين فرارِهم بِدينهم من الفتنة، واستخرج اليتيمان
كنزهما بظهوره على حين فقر وحاجة إليه، وكذلك رحمة ربنا عبدَه زكريا إذ نادته الملائكة
بالبشارة بيحيى بعد ما وهَن العظم منه، وكذلك سَدُّ ذي القرنين رحمةً بقوم لا يكادون
يفقهون قولا، وتنزَّلَ الوحيُ والكتابُ على النبي الأمِّيِّ صلى الله عليه وسلم
رحمة من ربه وفضلا كبيرا عليه ما كان يرجوه ولا علم له به ومن غير جهد منه، ولْينتظر
المعرضون عن اللغو والإيذاء وعدا من الله بفرَج ويسْرٍ وعِزٍّ دون جهد منهم كما هي
دلالة قوله ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا
فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا﴾ الإسراء، ووهب ربُّنا من رحمته لموسى نبوة
أخيه هارون، ووهب لإبراهيم وإسحاق ويعقوب من رحمته فرَجا ومخرجا.
وجعل الله بين الزوجين رحمة أي لم يشرعْ لأحدهما
إيذاءُ الآخر، وإنّ رَحِمَ الأمِّ لقرارٌ مكين لا يضرّ بالجنين ولا يؤذيه، وحرُم
الإجهاضُ بقوله ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ
إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ البقرة، والقتلُ بالإجهاض
أكبرُ من كِتمان النطفة في الرَّحِمِ الذي لا يحِلُّ وكذا ضرْبُ الوالدين أكبر من
قول الشقيّ لوالديه ﴿أُفٍّ لَّكُمَا﴾ الأحقاف، ولا تسل عن عقوق الغلام قتيل الخضر
وجفائه والديه كالأبعد منهم رُحْما وإرهاقهما طغيانا وكفرا كما هو مفصَّلٌ عنه في
المثاني في سورة الأحقاف، ومن خَفَضَ جناحَ الذل من الرحمة لوالديه تباعد عن
الإيذاء والإضرار بهما، وجعل الله للرَّحِم حقوقا لا إثم على من سألها ذوي رَحِمِهِ،
وكان التواصي بالمرحمة مما تُتَجاوز به العقبة في يوم القيامة، ومن عادة المنافقين
يوم يتولَّوْن أي يصبحون وُلاة في الأرض الإفسادُ فيها وتقطيع الأرحام، وشرع الله
في الكتاب المنزل ولاية أولي الأرحام بعضهم على بعض، رغم أنف المتون الفقهية التي
حجبت أولي أرحام المملوك.
وبرحمة من الله لَانَ خُلُقُ النبيّ الأميّ صلى
الله عليه وسلم مع الناس، وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم رحماء بينهم أي لا
يؤذي بعضهم بعضا.
ووقعت الرحمة على صرْفِ عذابِ يومٍ عظيم عن
المرحوم، وكذلك وقاية السيئات يومئذ، ولا يغني يوم الفصل مولى عن مولى شيئا بل
الكل موبَقٌ إلا من رحم الله، وكل نفس أمّارة بالسوء إلا ما رحم ربنا من الأنفس
المطمئنة أو اللوامة.
ووقعت الرحمة ﴿لَعَلَّكُمْ تُرحَمُونَ﴾ على
أسباب النجاة من العذاب أي على طاعة الله والرسول، وعلى اتباع كتابٍ مباركٍ
منزَّلٍ على النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم ، وعلى استغفار ربنا على لسان
رسول الله صالح، وعلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول، ويوم تقع تلاوة
القرآن في ﴿صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة﴾ عبس، على الاستماع له
والإنصات، وعلى تمثل التقوى يوم يقال ﴿اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا
خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ يس، وعلى الإصلاح بين المؤمنين المتقاتلين.
وأشفق كل من آدم وحواء ونوح من الخسران إلا
يغفر ربهما ويرحمهما.
ومن رحمة ربنا بالناس تشريعُ العفو عن الجروح
والعفوُ عن قاتل الفرد الواحد لا عن المحاربين السفاحين الذين يسعون في الأرض
فسادا.
ووقع وصف الكتاب المنزل ـ توراة وإنجيلا وقرآنا
ـ بالرحمة لنجاة من اتبعه من العذاب في الدنيا والآخرة والبرزخ بينهما، ولن يزول
الاستضعاف والذل والصغار والهرج والقتل وتسلط المنافقين ومن لا يرعَوْن في مؤمن إلًّا
ولا ذمة عن المؤمنين إلا باتباع القرآن الموصوف ببصائر من ربنا وهدى ورحمةٍ.
ويعني إيتاء الرحمة من ربنا عبدا من عباده كنوح
وصالح والخضر مُعلِّم موسى على اصطفائِه، وللمصطفَين عهدٌ من الله أن لا يعذّبَـهم.
وأرسل ربّنا النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن
رحمة للعالمين ولن ينزل العذاب في الدنيا على المكذبين إلا بعد رفع القرآن
المبارك، والنبيّ الأميُّ رحمةٌ للذين آمنوا خاصة وهم الصحابة الكرام لا يحتاجون
في حياته إلى اجتهاد قد يخطئ.
ونجّى ربّنا برحمته نوحا والرسل بالآيات بعده
من عذاب في الدنيا أهلك به المجرمين المكذبين، ويوم وقع الطوفان لم ينج من الإغراق
إلا من رحم الله مع نوح.
ووقعت الرحمة على زوال الاستضعاف ـ بقرينة
الوعد بالجنة بعدها ـ عن المؤمنين الذين يوالي بعضهم بعضا ويتآمرون بالمعروف
ويتناهون عن المنكر ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ
اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ براءة، وكان ذريةٌ من بني إسرائيل يكتمون تصديقَهم موسى خوفا
من فرعون أن يفتنهم ومما تضرعوا به إلى ربهم دعاؤهم ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً
لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
يونس، ومن وقوع الرحمة على زوال الاستضعاف قوله ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي
الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ
وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلذِينَ آمَنُوا
وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ يوسف، وسيصيب المؤمنين استضعاف بفتنة السامري الدجال وسينال
الذين آمنوا صلوات من ربهم ورحمة يزول بهما القتل والقرح والجرح وهم المهتدون في
آخر الأمة، وكانوا يدعون ربهم ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً﴾ آل عمران، أي لا تزغ قلوبنا بالدجال بعد إذ
هديتنا بصالح المؤمنين وهب لنا رحمة يزول بها الاستضعاف.
ووقع وصف الجنة برحمة الله يُخَلِّد فيها الذين
ابيَضّت وجوههم، وسيُدخِلها الذين آمنوا بالله واعتصموا به، وما يكون للمسلمين ولو
أسرفوا على أنفسهم أن يقنَطوا من رحمة الله، وسأل موسى ربَّه أن يغفر له ولأخيه
هارون وأن يدخلهما في رحمته، وكره الصالحون الاستغاثة بهم من دون الله وابتغَوُا
الوسيلة إلى ربهم أيهم أقرب إليه ويرجون رحمته بالجنة ويخافون عذابه بالنار.
واقتربت رحمة الله من المحسنين، وبشّر ربنا بها
﴿الذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾براءة،
ويَئِسَ من رحمة الله أي جنته الذين كفروا بآيات الله ولقائه، ويرجو رحمة الله أي
جنته ﴿الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾
البقرة.
وتضمن تفصيل الكتاب المنزل تقديم المغفرة على الرحمة
وبينته في تأصيلي التفسير ومنه تقديم الموعود المتأخر في سياق خطاب المؤمنين
بالغيب الذين يحرصون أوّلًا على أن تغفر ذنوبهم في يوم الحساب فلا تعرض عليهم
ويحرصون بعد ذلك على الرحمة ومنها ما يقع في الدنيا.
وتقع رحمة ربنا على الآيات الخارقة كما هي
دلالة قوله ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ الزخرف، وإن القرآن
لآية خارقة معجزة ومن رحمة ربنا كما في قوله ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا
يَجْمَعُونَ﴾ الزخرف، وإنّ مما يجمعون أموالا وأسلحة ذات بأس شديد وأحزابا وجيوشا،
وقد وعد الله في القرآن أن يكفّه وأن يبطله يوم يُحِقُّ اللهُ الحقَّ بكلماته
فيزهقَ الباطلُ.
ولقد أدخل الله في رحمته قبل نزول القرآن كلا
من لوط وإسماعيل وإدريس وذا الكفل، ووعد في القرآن أن يُدخِل في رحمته من يشاء كما
في سور الشورى والفتح والإنسان.
ومن الوعد في القرآن أن يتنزل خير من ربنا كما
في قوله ﴿وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾
البقرة، وبينته في مادة اختص.
ومن الوعد في القرآن كذلك قوله ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى
هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ
رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾
آل عمران، وبينته في مادة اختص ومادة هدى.
ومن الوعد في القرآن كذلك قوله ﴿يَا أَيُّهَا
الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن
رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ الحديد، وبينته في مادة كفل.
وبينت دلالة قوله ﴿أّمَّنْ هُوَ قَائِمٌ آنَاءَ
اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ
هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذّكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبَابِ﴾ الزمر، في الرجاء وفي أولي الألباب.
وبينت دلالة قوله ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ
إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ هود، في مادة الاختلاف.
وبينت دلالة قوله ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ
وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضَيًّا﴾ في مادة عيسى.
وبينت دلالة قوله ﴿رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ
عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾ في مادة البيت.
وأما قوله ﴿إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾ فهو حال من
الفاعل في ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ هود، وبينته في مادة شاهد، وكذلك حرف
الأحقاف وبينته في مادة مثل ومادة كتاب.
وبينت فاتحة لقمان ﴿هدى ورحمة للمحسنين﴾ في
مادة كتاب.
وبينت ضمن الأسماء الـحُسْنَى اسم الله ﴿الرحمان
الرحيم﴾.
حفظ الله شيخنا الحسن محمد ماديك و وفقه للمزيد من خدمة الإسلام و المسلمين
ردحذف