طغا: الطغيان في لسان العرب هو تجاوز حد الاعتدال
والميزان، وأهلكت ثمود بالصاعقة الطاغية إذ تجاوزت صيحتها وشدتها ما ألفوه من
الرعد، والصاعقة، فكانوا في لحظة واحدة كهشيم المحتظر اليابس الخالي من الماء والاخضرار، وكان كافيا لإبادتهم أقلُّ منها، وكم طغا
الإنسان إذا لم يفتقر إلى غيره من بني الإنسان كما في قوله ﴿إن الإنسان ليطغى أن
رآه استغنى﴾ العلق.
ومن الطغيان
حرمان الفقراء والمساكين من حقهم في حصاد الزرع والثمار كما في سورة القلم﴿قالوا
يا ويلنا إنا كنا طاغين﴾، وتضمن حرف النجم نفيَ كل من زيْغانِ بصر النبي الأمي صلى
الله عليه وسلم وطغيانه، ولعل زيْغانَ البصر هو نقصانه وضعفه عن مشاهدة القريب، ولعل
طغيانه هو زيادته وامتلاؤه بترائي دقيق الأشياء ورقيقها وصغيرها كبيرا يمتلئ به
الأفق، وكان الإسراء بالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم والعروج به إلى السماوات العُلى
وأعلى منها إلى سدرة المنتهى بجسده فرأى ببصره ما رأى من آيات ربه الكبرى، ولا
يحتاج الإسراء بالروح إلى الإبصار بالبصر كما لا يحتاج الأعمى في منامه إلى بصره
وهو يرى من المرائي.
وأما الطغيان في
سلوك المكلفين فقد اقترنت صيغته مبالغا فيها بالظلم في وصف قوم نوح، وتعدد اقترانه
بالكفر، ولا ترادف، بل لكل من الطغيان والظلم والكفر مدلوله واجتمعوا في وصف شرار
المكلفين.
واتصف بالطغيان
كل من الحكام والجماعات والأفراد.
وخاف موسى
وهارون طغيان فرعون بتجاوز السماع والتأمل إلى التنكيل بهم، وإنما أكثرَ أوتادُ فرعون
في الأرض الفسادَ لما طَغَوْا في البلاد.
ومن طغيان
الجماعات طغوى ثمود بتجاوزها التذكرة بالناقة إلى عَقْرها، ومن قبل كان قوم نوح
أظلم وأطغى، وإنه لمن الذكر من الأولين ومن المثاني معه وعدا في الآخرين أن سيزداد
كثير من أهل الكتاب طغيانا وكفرا يوم يؤتِ الله ذو الفضل العظيم كِفلين من رحمته
لبني إسماعيل.
ومن طغيان
الأفراد طغيان الغلام قتيل الخضر وقد بلغ مبلغ الخطاب والتكليف بقرينة وصفه
بالطغيان والكفر، كما في المثاني معه في سورة الأحقاف ﴿والذي قال لوالديه أفٍّ
لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان اللهَ ويلك آمِنْ أن
وعدَ الله حقٌّ فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين﴾.
ووقع الوصف
بالطغيان على من تجاوز الكتاب المنزل منذ تنزلِ التوراة، بعدم اعتباره ميزانا للسلوك
والتصور، ولعل من أخوفِ ما تنزلَ على النبي الأمي قوله ﴿فاستقم كما أمرت ومن تاب
معك ولا تطْغَوْا إنه بما تعملون بصير﴾ الشورى، ويعني أن الطغيان هو ترك الاستقامة
المكلفِ بها في قوله ﴿كما أمرتَ﴾ أي في الكتاب المنزل، وبينت في الأسماء الحسنى
دلالة قوله ﴿إنه بما تعملون بصير﴾ على عرض الأعمال المحاسب عليها والمؤاخذة بها.
وأخبر الله عن القرآن
أنه سيزيد أهل الكتاب طغيانا وكفرا كما يزداد به المنافقون رجسا إلى رجسهم وأنه
وقْرٌ في آذان الذين لا يؤمنون وأنه عليهم عمًى.
ومن المثاني معه
قوله تعالى ﴿يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانبَ الطورِ الأيمنَ
ونزَّلنا عليكم المنّ والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم
غضبي﴾ طـه، وهو نص من نصوص التوراة، كما بينت في تأصيلي للتفسير.
ووقع وصف الضلال البعيد بالطغيان في قوله ﴿قال
قرينُه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد﴾ سورة ق، وهو من اعتذار قرين السوء
في يوم الحساب وكذلك يعتذر المستكبرون يوم الحساب يُلقون القولَ إلى خدمهم
المستضعفين ﴿قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما
طاغين﴾ الصافات.
ووقع الوصف بالطغيان
على الاستهزاء بالرسل في قوله ﴿كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر
أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون﴾ الذاريات، وهو من الذكر من الأولين ومن
المثاني معه وعدا في الآخرين وصف المكذبين الذين عاصروا نزول القرآن قوله ﴿أم
يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم
أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون﴾ الطور.
وبينت في تأصيلي
التفسير أن اقتران عمل المكلفين بالجزاء بالحسنى أو السوأى في الآخرة في الكتاب
المنزل له دلالة ظاهرة تعني أن المكلفين قد عملوه يوم كان القرآن يتنزل وسيعملونه
كذلك بعد موت النبي الأمي ومنه قوله:
ـ ﴿إن جهنم كانت
مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما
وغسّاقا جزاء وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذّبوا بآياتنا كِذّابا﴾ النبإ
ـ ﴿هذا وإن
للطاغين لشرَّ مئاب جهنمَ يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه حميم وغسّاقٌ وآخر من
شكله أزواج هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا
مرحبا بكم أنتم قدّمتموه لنا فبئس القرار قالوا ربنا من قدّم لنا هذا فزده عذابا
ضعفا في النار وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدُّهم من الأشرار أتّخذناهم
سِخريّا أم زاغت عنهم الأبصار عن ذلك لحق تخاصم أهل النار﴾ سورة ص
ـ ﴿فأما من طغا
وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى﴾ النازعات
ويعني حرفُ
النبإ وقوعَ صفة الطغيان على الذين لا يرجون حسابا أي يكذبون بالبعث للحساب
ويكذبون بآيات ربنا الخارقة للتخويف والقضاء.
ويعني حرفُ سورة
ص وصفَ كل من المستكبرين والمستضعفين المعرضين عن النبإ العظيم بالطغيان كما اتصف
به فرعون واتصف به معه جنوده في سورة الفجر.
ويعني حرف
النازعات أن من طغا سيؤثر الحياة الدنيا معرضا عن التذكرة كما طغا فرعون وأعرض عن
التذكرة لما جاءه بها موسى فحشر فنادى فقال مقالته السخيفة الكاذبة الخاطئة.
ولقد تتبعت
الكتاب المنزل فإذا بجهنم ذات الجحيم إنما يصلاها: الكفار والمنافقون والمجرمون
والطاغون ومن يقتل مؤمنا متعمدا لا يُقضى عليهم فيها فيموتوا ولا يُخفف عنهم من
عذابها ولا يزيدهم الله فيها إلا عذابا.
وتنزل القرآن
بوصف المكذبين بآيات ربنا الخارقة للتخويف والقضاء بالطغيان كما في قوله ﴿وآتينا
ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا وإذ قلنا لك إن ربك
أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في
القرآن ونخوّفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا﴾ الإسراء، ولعل متدبري القرآن يفقهون
أن التخويف إنما يتنزل قبل المستقبل
المنتظر لا بعد الماضي المنقضي، ويفقهون أن الرؤيا جزء من النبوة وأن النبوة إنما
هي بالإخبار باليقين من العلم الغائب عن المنبإ، وأن لعنةَ الله هي عقابه على
الإعراض عن التذكرة بالحيلولة بين المكلف وبين الخاتمة الحسنة أي بعقابه على الموت
على كفره وإجرامه ومعصيته كما لعن اللهُ إبليسَ فحال بينه وبين السجود والطاعة إلى
يوم الوقت المعلوم ويومئذ لن يتوب بالسجود كما بينته في مادة سجد، وأن الشجرة
الملعونة في القرآن هي أسرة وافرة كثيرة وعد الله بتخويفها بعد نزول القرآن بقوله ﴿ونُخوفهم
فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا﴾ بضمير العاقل المكلف في قوله ﴿ونُخوِّفُهم﴾ وفي قوله
﴿فما يزيدهم﴾ ودلالة الوصف بالطغيان الكبير ظاهرة على أن الموصوف مكلف مارد لا
يأبه بتخويف الله بالآيات الخارقة للتخويف والقضاء كالتي خوّف اللهُ بها ثمود،
وليس الموصوف بالطغيان الكبير شجرة ولا بقرة ولا جبل ولا غير مكلف البتة.
وبعد نزول
القرآن سيعاقب الله المنافقين المفسدين في الأرض الزاعمين أنهم مصلحون المعرضين عن
التذكرة كما في قوله ﴿الله يستهزئ بهم ويَمُدُّهم في طغيانهم يعمهون﴾ البقرة، أي
في عمهٍ لا يتبيّنون فيه أيَّ سبَب أو طريقٍ موصلة إلى الهدى.
ويوم تجيئ
الآيات الخارقة للتخويف والقضاء في آخر الأمة سيعاقب الله المعرضين عن الإيمان كما
في قوله ﴿ونذرُهم في طغيانهم يعمهون﴾ الأنعام.
وبعد تمكن
البشرية من الفضاء والنظر في ملكوت السماوات واقتراب أجل الأمة سيصبح الناس أمام
خيارين إيمان بالحديث أو كفر به وسيختار الكفرَ من عاقبهم الله على ضلالهم كما في
قوله ﴿من يضلل الله فلا هادي له ويذرُهم في طغيانهم يعمهون﴾ الأعراف.
وإن من الوعد في
القرآن الذي لم يقع بعد نفاذه قوله ﴿ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب
الأكبر لعلهم يرجعون﴾ السجدة وفصلته تفصيلا في مادة عذاب وضر وكرب وفي بيان سورة
القدر.
وإذا وقع العذاب
الأول كما بالدخان في سورته سيتضرع الناس كلهم فيرحمهم ربهم ويكشف عنهم الضر فلا
يؤمنون كما في قوله ﴿ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجّوا في طغيانهم يعمهون﴾
الفلاح، ومن المثاني معه ذكرا من الأولين قوله ﴿فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم
بالغوه إذا هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذّبوا بآياتنا
وكانوا عنها غافلين﴾ الأعراف
إن طوفان قوم
نوح قد غطّى الأرض كلها ومن المثاني معه وعدا في الآخرين قوله ﴿ إنا لما طغا الماء
حملناكم في الجارية﴾ الحاقة، وقوله ﴿وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون﴾
يس، ولم يقع بالقرآن غير خطاب هذه الأمة لا قوم نوح، ويعني أن البشرية كلها موعودة
بالطوفان وهو طغيان الماء الموعود في آخر الأمة أي تجاوزه الركب بل المناكب
والأعناق واضطرار الناس إلى ركوب الأنعام والفلك الجارية هربا من الغرق بمياه المحيطات والبحار، وهو كل
كرب في سورة الأنعام الذي سيجّي الله منه ومن ظلمات البر والبحر.
أما الطاغوت
فليس بصنم ولا جماد كآلهة المشركين من قبل بل هم بشرٌ مُكلفون بالَغوا في الطغيان
حتى جعلوا من أنفسهم مُشَرِّعين من دون الله يتحاكم إليهم المنافقون والذين أوتوا
نصيبا من أهل الكتاب، وهم أولياء الذين كفروا ويُقاتِلون في سبيلهم الذين آمنوا،
ولم أتمكن بعدُ من وصف بشاعة الطاغوت ودركاته في الشر غير أن عبَدَتَه ومن يطيعونه
ويؤمنون به قد اقترنوا في الكتاب المنزل بمن لعنه الله وغضب عليه ومسخه قردا أو
خنزيرا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق