إن
ابن آدم لحقيقٌ بدراية افتقارِه إلى خالِقِه مُدبِّرِ أمْرِه فاطرِ السماوات
والأرض ولِيَستغرِقَ بَحثُه الفِكْرَ بأدواتِ الكَسْبِ كالعقلِ والسمع والبصر
والإحساسِ لِيَهْتَدِيَ إذ لم يَخْلُقْ نَفْسَه إلى أنَّه لم يُخْلَقْ سُدًى ولا
عَبَثا وإنما لغايةٍ يسْعى إليها مَن عقلها واهتدى إلى المسارعة إلى شكر نِعَم
الله الظاهرة والباطنة وإذ خَلَقه فجعلَه شيئا مذكورا بعد أن لم يكن، وفضّله على
كثير من العالمين كالجن والأنعام والدوابّ والطير ...
وفرارا
من دعوة المكلَّفين إلى الإيمان الأعمى إيمانِ المقلِّدين، ولأن مبلَغَ علمي هو
تدبُّرُ كتاب الله، وهو ما أملك من تصور وموازينَ لا أعدوه إلى غير هَدْيِ النبوة،
فقد قذفتُ من مكان بعيد التقليدَ ومصادرةَ حرية الرأي والفكر والتأمل والاجتهاد
والبحث العلمي مستأنسا بقوله تعالى ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا
تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون﴾ سبأ، منهجٌ مُنصِفٌ يأمَن في ظلاله
المخالفُ من تعصّب الطرف الآخر وتطرفه وغلوّه ويأمَن غَدْرَه وصولَته، ويمنح
الباحثَ المتجرد ـ من التعصب والتطرف ـ احترامَ المخالفين رأيَه ويجعلهم على
استعداد للتلقّي والنقاش والحوار ليصلوا جميعا إلى الهدف السامي بعد تحرير البحث
العلمي المجرد.
وإن أكبر الكليات وأقدس المقدسات لحقيقة
وحدانية الله وأن لا شريك له وأنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كُفْءٌ ولا شبيه ولا
مِثُل ولا نِدٌّ، وتضمن الكتاب المنزل من عند الله هـذه الحقائق دون أن يصادر حرية
الرأي والتأمل والفكر والبحث العلمي ودون أن يفرضَ تقليدَها على الناس ومنهم
المخالفون، وإنما بالأمر باستعمال كافة أدوات البحث العلمي كالسمع والبصر والتأمل
والفكر والعقل كما في قوله:
ـ ﴿أمن
يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أءِلـهٌ مع الله قل هاتوا
برهانكم إن كنتم صادقين﴾ النمل
ـ ﴿أم
اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم﴾ الأنبياء
ـ ﴿ومن
يدع مع الله إلـها آخر لا برهان له به﴾ الفلاح
ـ ﴿إنهم فتية
آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات
والأرض لن ندعوا من دونه إلـها لقد قلنا
إذن شططا هـؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن﴾ الكهف
ـ ﴿ويوم
يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا
برهانكم﴾ القصص
ويعني حرف النمل أن الله أمر الناس
بالتأمل والنظر والبحث العلمي وسيعلمون أن الذي يبدأ الخلق ثم يعدمه ثم يعيده
والذي يرزق من السماء والأرض هو الله وحده لا شريك له فمن لم يفقه ذلك بعد التأمل
والنظر واتخذ مع الله شريكا فليأت ببرهانه ودليله على أن لشريكه من الخلق والقدرة
مثل ما لله.
ويعني حرف الأنبياء أن الله أمَر من
اتخذ من دونه آلهة أن يأتيَ ببرهانه أي دليله عليه.
ويعني حرف الفلاح أن القاصر المقلد الذي
لم يتأمل ولم يبحث هو الذي يدعو مع الله إلـها آخر لا برهان له به وإنما بسبب
التقليد.
ويعني حرف الكهف أن الفتية الذين آمنوا
بربهم وزادهم هدى قد علموا أن من دعا إلـها دون رب السماوات والأرض قد قال شططا إذ
خالف الصواب، وأقرّ القرآن الفتية إذ أنصفوا قومهم المشركين فسألوهم سلطانا بيّنا
أي دليلا وحجة على أن آلهتهم هي رب السماوات والأرض الذي خلقهن ويدبر الأمر فيهن.
ويعني حرف القصص أن الله قبل أن يعذب
المشركين يوم القيامة سيسْألُهم برهانَهم ودليلهم على أن شركاءهم في الدنيا كانوا
شركاء لله حقا وإذن فلينصروهم من العذاب في الآخرة.
إن الكتاب المنزل وهو يناقش ويحاور في
أعظم المقدسات وأكبر الكليات لبريءٌ من التقليد والحجر على الرأي والفكر والعقل.
إن الحقيقة ـ جزئية أو كليَّةً ـ ستبقى
كذلك لا تزداد ثبوتا وصحة بإجماع جميع الإنس والجن عليها ولا تنقص بنكرانهم في عصر
من العصور أو عبر التاريخ، وكذلك شهادة أن لا إلـه إلا الله وأن محمدا رسول الله
لكلية من الكليات لن تزداد ثبوتا بإقرار أهل الأرض كما لن تنقص لو أنكروها، وإنما تزداد
بصيرة المقرين بوحدانية الله المصدقين ما جاء به الرسل والنبيون من عنده.
إن
الكتاب المنزل قد ناقش فريقين من الناس: منكِرُ وحدانيةِ اللهِ الكافرُ بالغيب
ومؤمِنٌ باللهِ وبالغيب في الكتاب المنزل.
ودعا
الكتابُ المنزل الفريقَ المنكِرَ إلى استعمال العقل والنظر لإثبات الخلق وتدبير
الأمر إلى غير اللهِ، ولستُ بصدد مناقشة هذا الفريق في بحثي هذا وإنما بالتقيُّدِ بدعوة
الكتاب المنزل الفريقَ المؤمنَ إلى الاحتجاج بما تضن الكتاب المنزل كما في قوله
تعالى: ﴿أم لكم سلطانٌ مبينٌ فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين﴾ الصافات.
ويعني
أن لا سبيلَ إلى الإخبارِ بعلمٍ عن الله إلا كما في الكتاب المنزل أو بإخبار الرسل
والنبيين المصطفَيْنَ الأخيار بما تلقَّوُا الوحيَ من الله.
وأبدأ
مستعينا بالله بتبيان معانيَ اسمِ اللهِ ودلالاتِه تبيانا وتفصيلا خلت منه المكتبة
الإسلامية العريضة تفسيرا وحديثا وفقها ...
0 التعليقات:
إرسال تعليق