عبَد:
لا يخفى غموض دلالة "العبادة"، رغم ما شاع وذاع عبر التاريخ وفي الجاهلية الأولى من ظلم المستضعفين المغلوبين والذين انقطعت بهم السبل كما باعت سيارة من الناس يوسف فجعلت منه عبدا مُفَرَّغا للقيام بخدمة سيّدته زوجة عزيز مصر، وتضمن القرآن تفصيل تعامُل يوسف مع الواقعِ غيرِ الشرعيِّ، واتخذ فرعون ذو الأوتاد طائفة من الناس هم بنو إسرائيل فجعلهم قائمين مُسخّرين في خدمة آل فرعون.
وتضمّن تفصيلُ الكتاب المنزل المغايرةَ بين العبادة والتوكل كما في قوله  ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [آخر سورة هود] ويعني قبولَ التوكُّل ممن عبَد بتمثُّل الخطاب والتكليف، والمغايرة بين العبادة والتقوى كما في قوله ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ﴾ [العنكبوت 16] وقوله ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾ [نوح 3] ويعني أن لا تقوى من غير العابد.
وتضمّن تفصيلُ الكتاب المنزل المغايرةَ بين العبادة والاستعانة كما في قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة].
وتضمّن تفصيلُ الكتاب المنزل المغايرةَ بين العبادة والشكر كما في قول إبراهيم ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت 17]
وتضمّن تفصيلُ الكتاب المنزّل المغايرةَ بين العبادة والصلاة كما في أول خطاب موسى بالرسالة ﴿فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه 14] ليكون في كل أحواله مستعدا لتمثُّلِ ما يقع عليه من التكاليف وأولها إقامة الصلاة ليذكرَ الله فيها.
وتضمّن تفصيل الكتاب المنزّلِ المغايرةَ بين السجود والعبادة كما في ﴿فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا﴾ [آخر النجم] للدلالة على خطاب المكلفين بالسجود بالمسارعة إلى تمثُّل ما يقع عليهم من التكاليف كقوله ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾ [الشرح 7].
وتضمّن تفصيلُ الكتاب المنزَّل المغايرةَ بين الإيمان والركوع والسجود والعبادة وفعل الخير كما في قوله ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج 77] للدلالة على أن لكل منها مدلوله الخاص، ويعني حرف الإسراء ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أن الإحسان بالوالدين هو أول ما وقع من التكاليف بعد الخطاب بالاستعداد لتمثل ما يقع على الناس من خطاب رب العالمين.
ويعني حرف البقرة أن أول ما وقع من الخطاب على بني إسرائيل في التوراة هو تكليفهم بالعبادة التي هي الاستعداد لطاعة خطاب الله وتكليفه وبعْدَه كلّفهم الله بالإحسان بالوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وأن يقولوا للناس حُسْنا وأن يقيموا الصلاة وأن يؤتوا الزكاة.
إن العبادة ليست هي الركوع ولا السجود ولا التوكل على الله ولا تقواه ولا الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى وقول الحُسنى للناس ولا إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة، ولا القنوت ولا التوبة ولا السياحة ولا فعل الخير ولا الحمد ولا الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر ولا حفظ حدود الله، بل لعبادة الله مدلول مغاير لكل من هذه التكاليف من ربّنا وإلا لَلَزِم القولُ بأنّ السجودَ هو برُّ الوالدين وأن النهيَ عن المنكر هو الركوعُ وهو ظاهر الفساد.
ويتضح في تفصيل الكتاب المنزل وُرُودُ العبادة بعد كلمة ﴿الدِّين﴾ كما في قوله ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة] وفي قوله ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [يونس 104] ويعني المغايرةَ بين مدلول الكلمتين وأن الإيمان بالدِّين وتصوُّرَه يسبق العبادةَ وأنَّ العبادةَ لاحقةٌ بعد الإيمان بالدِّين المنزَّل من عند الله، كلُحوقها بعد التوبة في قوله:
ـ ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ﴾ [التحريم 5]
ـ ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ﴾ [براءة 112]
ويعني ورودُ العبادة بعد التوبة أنّ عبادة الله هي أول ما يبدأ به التائب إلى الله مما سلف من شروده، "فالعِبادةُ هي الاستعدادُ مِن المُسْلِمِ في كل أحواله لِتمثُّلِ ما يقع عليه من الخطاب والتكليف قُرآنا وَهَدْيًا نبويًّا على السواء طاعةً غير مشوبة بحرَج ولا تردّد.
إن العبادة في تفصيل الكتاب المنزل هي الاستعداد والجاهزية لتمثل التكليف، وعلى العابد ربَّه حصْرُ النيّة وتجديدُها في كل سعْيٍ وعمَل مستعينا على تمثُّل التكليف في الكتاب المنزل والهدْيِ النبويِّ معه، ويعني قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ تعهُّدًا ممن آمَن بيوم الدّين وانتظرَه أن يحصر نيّتَه وسَعْيَه وأعمالَه في امتثال التكليف الذي جاء به النبي الأمّيّ صلى الله عليه وسلم، فإن عجَز أو فتَر استعان بالله وحدَه، ويتجدد التعهُّدُ مع كل صلاة وفي كل مرة يقرأ المسلم سورة الفاتحة، وحَسُن أدبُ الحامدين المؤمنين بيوم الدِّين بتقديم ضمير النصب المنفصل على فِعلَيِ العبادة والاستعانة ومن قام بهما من العابدين المستعينين ليمُدَّهم بالعافية والأمن والرزق ليتمكنوا من العبادة كما في قوله ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الذِي أَطْعَمَهُم مِّنْ جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [آخر سورة قريش] وكما في المثاني معه من الذكر من الأولين قوله ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ﴾ [النحل 112] أي لم تستعنْ بنعمتي الرزق والأمن على العبادة، وكما في توجيه النبي الصّدّيق الخليل إبراهيم يخاطب قومه ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت 17] يعني ابتغُوا عند الله الرزق لتستعينوا به على العبادة، وكذلك دلالة قوله ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات 56 ـ 58].
إن قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ بنوني الجماعة لقرينةٌ على إقرارٍ وعهدٍ من الحامدِ المؤمن بيوم الدين أن يعبد الله مع العابدين وأن يستعين بالله مع المستعينين به، ووقع تكليف بني إسرائيل وتكليف مريم ابنة عمران بالركوع مع الراكعين.
وحريٌ بالعابد أن يحرص على هداية الناس كلهم وأن يفرح بعبادة العابدين إشفاقا من غضب الله على العاصين.
ولم يهتدِ كثيرٌ من الناس إلى عبادة الله رب العالمين فاتخذوا أسماء وأصناما عبدوها من دون الله أي عكفُوا على تقديسها كما وصف طائفةٌ من المشركين أنفسَهم ﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ [الشعراء 71] سخّروا أنفسَهم لتقديسها، والواقع أن الضّالّين اتخذوا أهواءَهم آلهة كما في قوله ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَــهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية ] وكذا حرف الفرقان.
ومن عجب القرآن أن جميع الرسل أمَروا أقوامَهم بعبادة الله إلا لوطا فلم يأمرْهم بها وإنما بما يلزم قبلها إذ كلّفهم بالتخلِّي عن الفاحشة وأمرَهم بالتطهّر لأنهم قبل ذلك ليسوا مخاطبين بالعبادة ولا أهلا لها إذ ليسُوا على استعداد لتمثُّل ما يقع عليهم من خطاب رب العالمين، فخُوطبوا بالتكليف الأول فلو أجابوا لخُوطبوا بالثاني وإلا لم يتجاوز خطاب المرحلة الأولى ولأنهم لم يستجيبوا فإن لوطا لم يتجاوز دعوةَ قومه إلى الطهارة والعودة إلى الفطرة فرحم الله لوطا ما أشدَّ ما ابتُلِيَ به وهو ينظر إلى طمس الفطرة في قومه الذين سبقوا العالمين إلى إتيان الفاحشة بإتيان أدبار الذكران من العالمين أي من البشر فإن لم يتمكنوا أتوا أدبار الذكور من الأنعام وغيرها من الحيوانات.  
وإن لوطا الذي آتاه الله حُكْما وعلما قد أصاب في حكمه يوم قال لقومه ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود 78] ومن المثاني معه قوله ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الحجر 71] وإنما أراد لوط أن يرُدَّ قومه إلى الفطرة كما في قوله ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ [الشعراء 165 ـ 166] أي فروج النساء، ولو تمكن لوط من إرجاع قومه إلى الفطرة لسارع إلى تكليفهم بعبادة الله رب العالمين.
إن الذي جنح إليه المفسرون من التأويل لبعيدٌ ومنه قولهم إنما يعني لوط نساء أمته فهم بناته ويردّه قوله ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ [هود 79] ويعني أنهم علِموا أنه يريد بناتِه لا بناتهم اللاتي لا سلطان له عليهم.
إن اللهَ لم يعتبْ على لوط دعوتَه قومَه إلى بناتِه وأنهن أطهرُ لهم من الفاحشة بالذكور وإنما وصفَه بأنه آتاه حكما وعلما وأنه من المحسنين وأنه فضَّله على العالمين وآتاه الكتاب والحكم والنبوة كما في الأنعام.
ولقد منّ الله على النبيين فوفّقهم إلى تحقيقهم العبادة في الدنيا في جميع أحوالهم في أنفسهم وفي ما يملكون، وكان إسلامهم كإسلام من في السماوات والأرض يوم القيامة لله كما في قوله ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا [مريم 93] أي مسلما خاضعا يستجيب للداعي، ولا كرامة بالإسلام في يوم القيامة وإنما في الدنيا كإسلام الملائكة والنبيين فيها.
ومن الحسنة التي آتاها الله النبيين أن وصف كلا منهم بالعبد في القرآن لبيان كرامته ووجاهته عند ربه وكذلك أكرم الله نوحا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ومعلّم موسى وداوود وأيوب وزكريا ومحمدا النبيّ الأمّيَ الهاشميّ صلى الله عليه وسلم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top