دلالة الكلمات في الكتاب المنزل

إن الموعودات من الله رب العالمين في الكتاب المنزل على النبيّ الأمي صلى الله عليه وسلم ليقع عليها حقا الوصف بأنها كلمات الله وكلمات ربنا الذي قال لها من قبل ﴿كن﴾ وستكون إذا وافقت الأجل الذي جعل الله لها، ووعَدَ الله في الكتاب المنزل أن لا تبديل ولا مُبَدِّل لها أي ستتم صدقا وعدلا كما أخبر اللهُ من قبل في القرآن.
لقد تضمن الكتاب المنزل "كلماتٍ من ربِّنا" هي وعْدٌ منه حسَنٌ سيتم نفاذه في الآخرة، ومنه القوْلُ الكلمةُ الذي أخبر الله ُبه يوم أبَـى إبليسُ واستكبر أن يسجد لآدم مع الساجدين، أي هو الوعدُ الذي سيحق أي يقع على الكافرين فيكونون من أصحاب النار في جهنم خالدين كما في المثاني:
﴿قَالَ هَـَذا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[الحجر 43]
﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ﴾[الأعراف 18]
﴿قَالَ فَالْـحَقُّ وَالْـحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِـمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[ص 85]
ويعني أنّ قوله تعالى ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِـمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ هو كَلِمةُ اللهِ أي وعْدُه الذِي سَيِـحِقُّ أي يتِمُّ نفاذه يوم القيامة كما في المثاني:
﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّـي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْـجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[السجدة 13]
﴿وَتَـمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْـجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[هود 119]
﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾[غافر 6]
﴿وَسِيقَ الذِينَ كَفَرُوا إِلَـى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّـى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَـهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَـمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾[الزمر 71]
﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِـي النَّارِ﴾[الزمر 19]
﴿قَالَ الذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾[القصص 63]
ونبَّأَ اللهُ رسولَ الله وخاتم النبيِّين مـحمدا صلّى الله عليه وعلى ءاله وسلَّم بالمثاني:
﴿إِنَّ الذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّـى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾[يونس 96]
﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾[يونس 33]
وتعنـي أنّ الآيات الخارقة للتخويف والقضاء إِذا جاءتْ في آخر أجل الأمّة لن يؤْمِن بها الذين حقَّتْ عليهم "كلمة ربِّنَا" أي وعْدُهُ أن يملأ جهنَّم من الـجِنَّة والناسِ أجمعين.
وإنَّ مِن "كلمات ربِّنا" أي وعْدُه الذي سيتمُّ نفاذه في الآخرة قوله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَـخْتَلِفُونَ﴾[يونس 19]
﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾[فصلت 45]
﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾  [هود 110]
﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَـى أَجَلٍ مُّسَمًّـى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ [الشورى 14]
ومن تأمل حرف هود وفصلت والشورى وأول يونس علم أن وعْدا قد سبق من "ربِّنا" أن يؤخر القضاء بين المختلفين بعد إيتاء موسى التوراة إلى أجل مسمى، ولم تتضمن هـذه الأحرف تفصيل الوعد الذي سبق من ربِّنا.
ومن تفصيل الكتاب تِبيانُ تفصيل الوعد في المثاني:
﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِـي إِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّـى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَـخْتَلِفُونَ﴾[يونس 93]
﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِـي إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ وَالْـحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَءَاتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَـخْتَلِفُونَ﴾[الجاثية 17]
ومَن تدبَّرَ حرفَ الجاثية وثاني يونس علِم أن الكلمة التي سبقت من ربِّنا بعد اختلاف بني إسراءيل في التوراة هي وعده في الكتاب أن يؤخر القضاء بين المختلفين في الكتاب المنزل إلى يوم القيامة كما هو مفصل في قوله ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَـخْتَلِفُونَ﴾ في الجاثية وثاني يونس أي هي الكلمة التي سبقت من ربِّنا كما في فصلت والشورى وهود وأول يونس أي وعْدُه الذي سبق منه ولا يخلفُ اللهُ وعدَه.
وكان من تفصيل الكتاب أن تِبيانَ الوعْد الذي تضمَّنه حرف الجاثية وثاني يونس لم يقترنْ بوصف "الكلمة" التي سبقت، وحيث لـم يتنزل تِبيان الوعْد وقعت الإشارة إلية بـ "الكلمة" التي سبقت كما في حرف هود وفصلت والشورى وأول يونس.
وسبقتْ "كلمةُ الفصل" أي وعْدُهُ بالقضاءِ بين الفريقيْنِ في أجَلٍ مسمًّى آخر الأمّة فتأخَّر العذابُ الماحق المستأصل عن المكذِّبين الذين عاصروا تنزُّل القرآن وكذلك دلالة المثاني:
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّـى﴾[طــه 129]
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾[الشورى 21]
وتضمن القرآن "كلماتٍ من ربِّ العالمين" هي وعْدٌ حسَن منه في الدنيا، فـمِن الذِّكر مِن الأولين قوله تعالى:
﴿فَلَـمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُـحِقُّ اللهُ الْـحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس 81 ـ 82]
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَـى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْـحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ﴾ [الأعراف 117 ـ 118]
﴿وَتَـمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْـحُسْنَـى عَلَى بَنِـي إِسْرَاءِيلَ بِـمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ وَجَاوَزْنَا بِبَنِـي إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ﴾[الأعراف 137]
ولقدْ صدَقَ اللهُ وعْدَه رسولَه موسَى وتـمَّتْ كلمةُ ربِّنَا الـحُسنَـى على بني إسرائيل كالمُفصَّل في حرف الأعراف.
ومِن المثاني معه وَعْدًا في الآخِرينَ:
﴿وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُـحِقَّ الْـحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْـحَـَّق وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الأنفال 7 ـ 8]
=﴿وَيَـمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُـحِقَّ الْـحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الشورى 24]
=﴿قُلْ إِنَّ رَبِّـي يَقْذِفُ بِالْـحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاءَ الْـحَقَّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ [سبأ 48 ـ 49]
=﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْـحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء 18]
=﴿وَقُلْ جَاءَ الْـحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء 81]
ولقد وعَد ربُّ العالَمين رُسُلَهُ بالآيات الخارقة للتخويف والقضاء أن ينصُرَهُمْ في الدنيا بتدمير المكذّبِين والتمكين للذين ءامنوا كما في قوله تعالى ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِـمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِـمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَـحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾[إبراهيم 15]
وكذلك دلالة المثاني:
﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّـى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾[الأنعام 34]
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْـمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ هُمُ الْـمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَـهُمُ الْغَالِبُونَ﴾[الصفات 171]
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَـحْزَنُونَ الذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَـهُمُ الْبُشْرَى فِـي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِـي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[يونس 64]
وَيَعْنِـي قوله تعالى:
﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾[الكهف 27]
﴿وَتَـمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[الأنعام 115]
أنّ الوعْدَ لـم ينقضِ بعدُ وسيتم نفاذُهُ.
إن الحديث النبوي الصحيح "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" ليعني أن النبي الأمي صلى الله عليه وسلم قد علّم المؤمنين أن يدعوا الله لِيحفظَهم ويعصمَهم من شر ما خلق ومنه فتنة الدجال وإغواء الشيطان متوسلين إليه بإيمانهم بكلماته التامات أي وعوده التي ستتم أي تنفذ وتقع إذا وافقت الأجل الذي جعل الله لها في الدنيا كالآخرة، ومن العجب أن الذين يرددون دعاء النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم منذ عشرات القرون لم يفقهوه ...
وأعرض اليهود والنصارى الذين عاصروا تنزُّلَ القرآن عن اتِّباعِ الرَّسولِ النبِـيِّ الأمّـيِّ صلى الله عليه وسلّم الذِي وجدوا الوَعْدَ به مكتوبا عندَهم فِـي التوراة والإنجيل فكانوا من الذين يُـحرِّفون الكلِمَ عن مواضعِه ومِنْ بعْدِ مواضعِه ومِن بعدِ ما عقلوه يوم عاصروه.
إنّ قوله تعالى ﴿كُنْ﴾ هي التي يتمُّ بها نفاذ وعده الخارِقِ المعجز، ولقد وعَدَ اللهُ مِن قبْلُ ملائكته أن سيخلقُ بشَرًا مِن صلصالٍ مِنْ حمَإٍ مسنونٍ ولـمَّا وافقَ الوعْدُ الأجَلَ الذِي جعل الله له وهو الميعاد قال الله ﴿كُنْ﴾ فكان آدمُ.
وكذلك خلق اللهُ عيسى بكلمته ﴿كُنْ﴾ كما في المثاني:
﴿إِنَّـمَا الْـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ إِلَـى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾[النساء 171]
﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾[آل عمران 45]
﴿فَنَادَتْهُ الْـمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِـي الْـمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَـحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ﴾[آل عمران 39]، ويعني حرفا آل عمران أنّ الله وَعَدَ مريم وزكرِيَّا بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم.
إنّ قوله تعالى ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُّمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[آل عمران 59] ليعني أَنّ كلّا من آدم وعيسى كلمةٌ مِّنَ اللهِ أي وعْدٌ مِنْه نفذ بقوله ﴿كُنْ﴾، ونشأت وعاشت جميع ذرِّيَّة آدم بتلك الكلمة ﴿كُنْ﴾ ولا يزال سريانُها مستمرًّا لم ينقضِ كما هي دلالة قوله تعالى ﴿فَيَكُونُ﴾ إذ لم يتضمَّن تفصيل الكتاب مثل قولنا (خلقَه من تراب ثم قال له كن فكان).
وكما لا يزال بنو آدمَ يتناسلون ويعيشون لنفاذ كلمة الله التي خلق بها آدم ﴿كُنْ﴾ فلا تزال الأرض تُنبِتُ وتُثمِر الأقواتَ التي قدَّرها ربُّ العالمين فيها في أربعة أيّام.
إنّ قوله تعالى ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِـيِّ الْأُمِّيِّ الذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ﴾[الأعراف 158] ليعني أنّ الله قد وصفَ رسولهُ النبـيَّ الأمِّيَّ صلّى اللهُ عليه وسلّم بأنه يؤمِن بكلمات الله لتأخُّرِ نفاذ كلماتِ اللهِ عن حياته صلّى اللهُ عليه وسلّم
وإنّ قوله تعالى ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾[آخر التحريم] ليعني أنّ اللهَ وصف مريمَ ابنة عمران بأنّها صدَّقتْ بكلمات ربِّهَا وكتبه، إذ ستعاصر كلا من كلمات ربِّها وكتبه لدلالة التصديق على المعاصرة كتعدية الإيمان باللّام.
ونبّأ اللهُ رسوله النّبِـيَّ الأمِّـيَّ صلّى اللهُ عليه وسلّم بكلماتٍ من الله ربِّنَا يُؤتيهم من العلم ما لا تستغرقُ كِتابتَه مِيَاهُ البحار لو أصبحت مدادا كما في المثاني:
﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّـي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّـي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾[الكهف 109]
﴿وَلَوْ أَنَّ مَا فِـي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَـمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْـحُرٍ مَّا نَفَدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ﴾[لقمان 27]
إنّ البشريَّة على موعدٍ مع يومٍ عظيم يُقاسُ بيومِ خلقَ اللهُ السَّماواتِ والأرضَ بالحقِّ ويُقاسُ ييومِ يُنْفَخُ فِـي الصور، ذلكمُ اليومُ بينهما هو الموصوف في المثاني:
﴿وَهُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْـحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْـحَقُّ وَلَهُ الْـمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِـي الصُّورِ﴾[الأنعام 73]
﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِـي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْـحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِـي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾[مريم 39]
وعجبي من المسلمين وم سائر البشريّة كيف رغبوا عن تدبر القرآن فلم يعدّوا العدّة لهذا اليوم الموعود بعد نزول القرآن قبل انقضاء الدُّنيا وقبل يومِ يُنفَخ في الصُّورِ.
وتنزّل في حرف الأنعام وصفُ ثلاثة أيّام: أحدها مضى وانقضى هو يوم خلق الله السَّماوات والأرض بالحق، وثانيهما يوم يوم يقول الله (كن فيكون) وثالثهما يوم ينفَخ في الصُّور للبعث.
وتنزّل في حرف مريم وصْف ثلاثة أيَّامٍ: بدأ بتبيان آخرها وهو يومُ البعثِ ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾، وثنَّـى بيومِ كان القرآن يتنزّل كما هو دلالة قوله تعالى ﴿لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِـي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ وكان ثالث الأيام تِبيانثا في حرف مريم هو ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْـحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِـي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، ويعني أنّه في الدنيا موضع الغفلة وموضع الإعراض عن الإيمان ولعلَّ هذا اليوم هو الموصوف في قوله تعالى ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَـمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيـمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾[الأنعام 158]
إنّ ذلك اليومَ الـمُنْتَظَرَ قبل انقضاء الدّنيا هو الموصوف في المثاني:
﴿مَا كَانَ لِلَّـهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ وَلَدٍ سُبْـحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[مريم 35]
﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّـى يَكُونُ لِـي وَلَدٌ وَلَـمْ يَـمْسَسْنِـي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَـخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[آل عمران 47]
﴿هُوَ الذِي يُـحْيِـي وَيُـمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَلَـمْ تَرَ إِلَـى الذِينَ يُـجَادِلُونَ فِـي ءَايَاتِ اللهِ أَنَّـى يُصْرَفُونَ الذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِـمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾[غافر 68]
﴿وَقَالُوا اتَّـخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْـحَانَهُ بَل لَهُ مَا فِـي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَقَالَ الذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّـمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا ءَايَةٌ﴾[البقرة 117]
﴿إِنَّـمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَقولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَالذِينَ هَاجَرُوا فِـي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِـي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ﴾[النحل 40]
﴿إِنَّـمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْـحَانَ الذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[آخر يس]
ويعني أنّ اللهَ سيقضِي قضاء بقوله ﴿كُنْ﴾ فإذا هو كائنٌ كما هي دلالة قوله ﴿فَيَكُونُ﴾ أي سيُريدُ شيْئًا فيقول له ﴿كُنْ﴾ فإذا هو كائنٌ كما هي دلالة قوله ﴿فَيَكُونُ﴾.
ومن القرائن في الأحرف الستة صيغة الماضي بعد (إذَا) الدالّة على الاستقبال الـمنتظَر، وعلى المعترض تأويل قوله تعالى ﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾.
ومن القرائن في الأحرف الستة صيغتا الاستقبال في الفعلين ﴿فَيَقُولُ﴾ ﴿فَيَكُونُ﴾.
والقرينة في حرف مريم الأولِ صيغة الاستقبال في نفي أن يتَّخذ اللهُ وَلدًا.
والقرينة في حرف مريم الثاني صيغتا الاستقبال في الفعلين ﴿يَـخْلُقُ﴾ ﴿يَشَاءُ﴾.
والقرينة في حرف غافر وصف الذين يُجادلون ـ بصيغة الاستقبال ـ في ءاياتِ اللهِ وبـما أرسَلَ به رُسُلَهُ بعد يوم  القضاء.
والقرينة في حرف البقرة وصف قالةِ الذين لا يعلمون ورغبتهم في أن يكلِّمَهُم الله أو يتأتيهم ءاية بعد يوم القضاء.
والقرينة في حرف النحل وعْدُ المهاجرين في الله بعد يوم القضاء أن يُبوِّئَهُمُ اللهُ في الدُّنيا حسنَةً.
والقرينة في حرف يس التّفريق بين يوم القضاء والبعث.
من موسوعتي للتفسير وأصوله قسم "معاني المثاني" مادة (الكلمة)
الحسن ولد ماديك
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة 


0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top