شفع
إنّ قوله تعالى ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾[الفجر 3] ليعني تسميةَ الفردين معا بالشّفع لقُصور الفرد الوِتر الواحد عن التعدد فأُشْفِعَ أي بفردٍ آخَر فَأَضْحَيَا شَفْعًا.
ويَقصُرُ مُنكروا الغيب والعصاةُ مُسْتَحِقُّوا العذابِ يوم القيامة عن النجاة من النار فيتمنّوْنَ شُفعاءَ يشفعون لهم وما تنفعُهم يومئذٍ شفاعة الشافعين وقد كانوا في الدنيا يحسبون شركاءَهم شفعاءَ عند الله.
واستدلَّ الرَّجُلُ الصَّالـحُ الذي جاء مِن أقصَى المدينة يسعى لِيُعِزّ الرّسُلَ الثلاثة على إبطال شرعيّة الأصنام بقوله ﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّـي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ﴾[يس 23].
ووعد اللهُ بالأجر ذا الجاه يشفع به شفاعة حسنةً يتمكّن بها القاصرُ عن دفْعِ الضُّرِّ أو جَلْبِ النفع لنفسه.
ووعد الله بالعقاب ذا الجاهِ يشفع به شفاعة سيِّئةً يتضرّر بها القاصر عن دَفع الضُّرِّ أو جلب النّفع لِنفسِه.
وقد مَنَّ اللهُ على عيسى ابن مريم بالشفاعة كما في الذِّكر مِن الأولين قبل نزول القرآن:
﴿وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِـي﴾[المائدة 110]
﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾[آل عمران 49]
ومِن الوَعْد في الآخِرين سبع من المثاني:
﴿قُل لِّلهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[الزمر 44]
﴿اللهُ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِـي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّنْ دُونِهِ مِنْ وَلِـيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَـى الْأَرْضِ﴾[السجدة 4]
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِـي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾[يونس 3]
﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِـمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّـى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْـحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾[سبأ 23]
﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَـمَنَّـى فَلِـلَّـهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَـى وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِـي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِـي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِـمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَـى﴾[النجم 26]
﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِـمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾[الأنبياء 28]
﴿لَهُ مَا فِـي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِـي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُـحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِـمَا شَاءَ﴾[البقرة 255]
ويعني حرف الزمر أنّ الشفاعةَ للهِ جميعا في الدنيا بقرينة قوله ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي هو التوجيه للذين يُصيبُهم الضُّرُّ والكرب ليتضرَّعوا لله مخلِصين.
ويعني حرف السجدة ويونس أن البشريّة سيُصيبها كرب شديد عريض فيلتمسون السلامة فلا يجدونها قبل إذن الله لِشفيعٍ أن يشفع.
ويعني حرف سبأ أن اللهَ سيأْذَنُ لِشافِعٍ أن يشفَعَ للناس إذْنًا يذهلُ له الملائكة فإذا ذهب عنهم الفزَعُ سارعوا إلى تمثُّل العبوديّة لله كما في قوله ﴿ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْـحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾
ويعني حرف النجم أنّ الشّفاعة عند الله في الدنيا ليست للأسماء الأوثان التي سمَّاها المشركون وءاباؤهم وما أنزل الله بها من سلطان كما ليست للملائكة في السماوات فلْيلْتمِسْها المكروبون عند الله لِيتمَّ نفاذُ الوعد ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِـمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَـى﴾
ويعني حرف الأنبياء أنّ العبادَ المكرمِين لن يشفعوا إلا لِـمَن ارتضى اللهُ شفاعتهم فيهم أي هو الإذنْ من الله.
ويعني حرف البقرة أن لا أحدَ يملك شفاعة أن يُبْرِئَ المريضَ بعبارة (ابْرَأْ بِإِذنِ اللهِ) إلا بإذنٍ من الله، فمتى يـستحِي الرُّقاةُ ويخنسون ويخرسون ولا يُدلِّسون؟
إن قوله تعالى ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ لكليّةٌ من أصول التفسير تأتي في سياق وعدٍ بغَيْبٍ سيتم نفاذه بقرينة أنّ اللهَ يعلم ما خلْفَهم للدلالة على صيغة الاستقبال، وفي سياق التذكير بأنه قد مضى وانقضى مِثلُه قبل نزول القرآن بقرينة أن اللهَ يعلم ما بين أيديهم للدلالة على الماضي الـمُنقضِي.
ولعل البشيّة ستصحوا من غفلتها يوم يتم نفاذ الوعد:
﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِـي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾[قد أفلح 18]
﴿فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِـخَازِنِينَ﴾[الحجر 22]
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَـمَنْ يَأْتِيكُم بِـمَاءٍ مَّعِينٍ﴾[آخر الملك]
حقًّا إنه لآخر عهْد الناس بالغفلة يوم يُذْهِبُ الله الماءَ فيُصبحُ غَوْرا لا يتأتَّى تخزينه، فيشفعُ شافعٌ فيعود.
وكتبه في 18 رجب 1441 هـ
الحسن ولد ماديك
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة\

1 التعليقات:

 
Top