بسم الله الرحمــان الرحيم  
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاهُ، وبعد:
فإنّ افتقارَ البشريّةِ اليومَ إلى تصحيح المفاهيم لاستعادة الفطرة هو ما دعانِي إلى تأليف "مثانِي المعاني" لترتيب كلمات القرآن وحروفه ومضمراته ترتيبا جديدا يُعينُ كُلَّ باحثٍ على تبيان المعاني واستنباطها، وإلى تأليف كتابِ "معاني المثاني" فرارا من إثم كِتمان ما استقْرَأْتُه واستنبطتُه فتبيَّنْتُه مِن معاني كلمات القرآن وحروفه ومضمراته، وإنما تبيَّن معانِـيَها الرعيلُ الأوّل بلِسَانِه المُبينِ، ثم خَفِيَتِ المعاني بقدر ما طرَأَ من العجمة. وهذا نموذج كلماتٍ ثلاثٍ هي "القرية والمدينة والبلد والبلدة والبلاد":
أولا: القرية
إنَّ القرية: في تفصيل الكتاب المنزّل هي كل تـجَمُّعٍ سَكَنِيٍّ يُقِيمُ فيه مُتْرَفون أو مُستكبِرون يَـمْكُرون بالْمُستضعفين ويستخِفّونـهم ويَتَّخِذونَهم سُخْرِيًّا، وكذلك تراءتْ عاصمة ملوك مصر لأهل البدو قريةً كما في قولهم ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ التِـي كُنَّا فِيهَا﴾ [يوسف 82].
وكذلك وصف الْمُسْتَضْعَفُون من الرجال والنساء والوِلدان في سورة النساء أهل مكة بالقرية الظالِمِ أهلُهاـ وتضمنت سورة سبأ والزخرف وبني إسرائيل تِبْيَانَ نُفُوذِ الْمُترَفين في القرية كما في المثاني:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فـِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِـمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَـحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِـمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ 34]
﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِـي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ [الزخرف 23]
﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّـهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَـحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [بني إِسرائيل 16]
وتضمنت سورة سبإٍ تِبْيَانَ خلَلٍ في موازين الْـمُترفينَ في الْقُرَى الْـمُعذَّبة قبل نزول القرآن إِذْ يستدلُّون على كرامتِهم عند الله بما أنعم عليهم في الدنيا من وفرة الأموال والأولاد.
وتضمّنت سورة القصص وصْفَ قُرى الْمُترَفِين الْمُعذّبين قبل نزول القرآن بأنّـها ﴿بطِرتْ معيشَتَها﴾ فلا تَسَلْ عن بُـخْلِ أهل قرْيَةٍ أبوْا أن يُضَيِّفُوا موسَى ومُعَلِّمِه الْـخَضِرِ اللذَيْنِ بلغَ منهما الجوع مبلغًا اضطرَّهُما إلى استطعام الْمترَفين البخلاء كما في سورة الكهف.
ويعني قول الملإِ الذين استكبروا في مدين ﴿مِنْ قَرْيَتِنَا﴾ أنّهم أصحاب النفوذ فيها وبقرينة تهديدهم بإخراج شعيب والذين ءامَنوا معه من قريتهم، وكذلك تضمنت سورتا النمل والأعراف تهديدَ قومِ نوح بإخراجه من قريتهم.
وأخرَجَ الْمُتْرَفون المستكبرون في مكة النبيَّ الأمّيَّ صلى الله عليه وعلى آلِه وسلم من قريتِه التي نشأ فيها كما في سورة القتال.
ويعني قوله ﴿وقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَـذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف 31] إعراضَ مشركي قريش عن الإسلام إذ لم يتنزَّلِ القرآن على أحد الْـمُترفين في مكة والطائف وهم أي الْـمُترفون ـ حسب موازينِهم ـ هم مَن يتّصفون بالعظمة، وهم على لسان ملِكة سبأ الْمُتضررون من الإسلام مع سليمان بانقلابهم أذِلَّةً بعد العزَّة.
ويمكرُ أكابرُ مُجْرِمي كلِّ قريةٍ في آيات ربِّنَا الخارقة للتخويف والقضاء يوم يُصبحُ غيبُها شهادةً كما في سورة الأنعام.
ومن الغيب في القرآن في سورة الحشر المغايرةُ بين الْـجُدُرِ العازلة وبين تحصينِ القُرَى التي سيقاتِلون منها الْمُسْلِمين، فالجِدار لدفع تسوُّر الراجلين والسيَّارة ويتعيّنُ تخصيص تحصين القُرَى بدفع الخطر الآتي من الجو.
ويعني خطاب بني إسرائيل من بعدِ موسى بدخول القرية انتزاعَهَا من عدوِّهم الجبّارين كما في سورتي الأعراف والبقرة، وأحلَّ اللهُ الفَيْءَ من أهل القُرَى الْمُعترضين على تحرير الإنسان ليتمتَّعَ بكرامة الاختيار والقرار.
وتنزَّل العذابُ البئيسُ ومسْخُ أهل القرية الْـمُعتَدين في السبت بِما أعرضوا عن الموعظة واتَّبَعوا أهواء الْمُترفين فيها.
وإنَّ مِن تفصيل الكتاب الْمُنزَّلِ وكمال الإسلام عَزْلُ العامَّةِ في كل قرية ـ وهم غيرُ الْمُترفين من الرجال والنساء والوِلدان ـ عن الصراع بين الرُّسُلِ وبين الْـمَلَإِ الأكابر في كل قريَةٍ إذ كان الرسُلُ رِجالا من أهل القُرَى وخاطبوا الملأَ من الْمُتْرَفين والمستكبرين في كل قرية يُــخَوِّفونهم عذاب اللهِ وغضبَه ويدعونهم إلى دار السلام، وخاطبوا القوم لعلهم يُشْفِقون على الأبناء والنساء خِطابًا يتأصَّل به فقهيا "أَنّ خِطابَ الأعْلَى يَشْملُ مَنْ دُونَه رُتْبَةً". 
إنّ قوله تعالى ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَـهَا﴾ [الأنعام 92] [الشورى 7] ومن المثاني معه قوله ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّـى يَبْعَثَ فِـي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِـمُونَ﴾ [القصص59] ليعني أنّ مكة ستصبح عاصمة القرى على ظهر الأرض تتبع ساستَها وسياستَها.  
المدينة
وإنّ المدينة في تفصيل الكتاب المنزّل: هي كلُّ تجـمُّعٍ سَكَنِـيٌّ في صُورَتِه الطبيعيّة بِـخُلُوِّهِ مِن طبقَةِ الْمُتْرَفين الْمُستكبرين الْمُتسلِّطين أو بِبُعْدِه عن مواطن القرار وسياسة العامة، ولكأنَّ ضواحيَ كل قريةٍ مدينَةٌ.
ومكَرَ تسعةُ رهْطٍ يُفْسِدون في المدينة ولا يُصلِحونَ لاغتيال صالِحٍ ولكأنَّـهم خارجَ النظام الاجتماعي وحيث الْمُترفون المستكبرون في قرية ثمود.
وتـَمنَّـى نسْوَةٌ في المدينةِ بعيدا عن القصور أن يَرَيْنَ يوسُفَ فمكرْنَ بإشاعة تضليلِ امرأةِ العزيز. 
ورغبَ موسَى ـ يوم ءَاتاهُ ربُّه حُكما وعِلْمًا ـ عن قصور فرعون وأضحى في الْمدينة فدخلها وأصبحَ فيها خائفا يترقَّبُ بعد قَتْلِه الرجل من عدوِّه.
وأرسَلَ فرعونُ رُسُلَهُ إلى المدائن لِـجَلْبِ السحرة من المدائن خارج العاصمة، وزَعَمَ أن السَّحَرَة مَكروا في المدينة خُفْيَةً بعيدا عنه، وجاء يسعَى كلٌّ من الرجلين من أقصا الْمدينةِ أي من طرف القرية البعيد عن موطن القرار.
ورغب أهل الكهف في جَلْبِ الطعام من المدينة بعيدا عن القرية حيث الحاكم والملأ معه.
ولا ينغلقُ اجتماع الوصفين في المواطن التالية:
أولا:
ـ ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ [يس 13]
ـ ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْـمُرْسَلِينَ﴾ [يس 20]
لظهور الرُّسُلِ الثلاثة في القرية يُـخاطبون الْـملأَ الْـمُتَمكِّنِين، وآمَن بهم رجل من أقصا المدينة فجاء يسعى لنصرتهم.
ثانيا:
ـ ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّـى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ [الكهف 77]  
ـ ﴿وَأَمَّا الْـجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِـي الْـمَدِينَةِ وَكَانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَّـهُمَا﴾ [الكهف 82]
حيث كان الأب الصالح في مدينة أضحت كالخراب مع ظهور القرية حيث الْمُتْرَفُون الراغبون عن قِرَى الضيف.
ثالثا:
ـ ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ مِّنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّـهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل 56]
ـ ﴿وَجَاءَ أَهْلُ الْـمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الحجر 67]
حيث خاطب رسول رب العالمين لوطٌ أصحاب القرية، وهم الموصوفون في قوله تعالى ﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود 78]، وطمِعَ أهل المدينة في ضواحي القرية فجاءوا يستبشرون كما في سورة الحجر.
البلد والبلدة والبلاد.
البَلَدُ في تفصيل الكتاب المنزل: هو القطعة من الأرض منه الطيِّبُ الذي يخرج نباته بالماء من السماء، ومنه الخبيثُ لا يخرج نباته إلا نكِدًا أو هو الوادي بين الجبال.
وتضمن تفصيل الكتاب المنزّل وصف الوادي غيرِ المأهول بـ "البلد" كما في قوله تعالى:
ـ ﴿وَاللهُ الذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَـى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِـهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ [فاطر 9]
ـ ﴿وَهُوَ الذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْـمَتِهِ حَتَّـى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُـخْرِجُ الْـمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف 57]
وبقرينة دعاء إبراهيم ﴿رَبَّنَا إِنِّـي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِـي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم 37] ومن المثاني معه في وصف مكة قوله تعالى:
ـ ﴿لَا أُقْسِمُ بِـهّـذَا الْبَلَدِ وَأنْتَ حِلٌّ بِـهَـذَا الْبَلَد﴾ الحرفان في [بداية سورة البلد]
ـ ﴿وّهَـذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ [التين 3]
ـ ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هّـذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا﴾ [إبراهيم 35]
ـ ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هّـذَا بَلَدًا ءَامِنًا﴾ [البقرة 126]
وتضمّن تفصيلُ الكتاب المنزل وصفَ الوادي المأهولِ بالناس والأنعام والدوابِّ بـ "البلدة" وكذلك أضحى الوادي غيرُ ذي زرعٍ "بلدةً" كما في قوله تعالى ﴿إِنَّـمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَـذِهِ الْبَلْدَةِ الذِي حرَّمَهَا﴾ [النمل 91].
ويعني وصفُ إبراهيمَ أنَّ مكّةَ كانت من قبل واديًا يجري بالأنهار أخضَرَ وكما في الحديث النبويّ في صحيح مسلم "لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض حتى يخرجَ الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها منه وحتى تعود أرض العرب مُروجًا وأنهارا" اهـ  
وكان لسبَإٍ جنتان عن يمين الوادي وشماله فأضحى "بلدةً" كما في قوله تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِـي مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَـمِينٍ وَشِـمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ [سبأ 15]
ومن المثاني مع حرفي النمل وسبإ قوله تعالى:
ـ ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْـحَصِيدِ وَالنَّـخْلَ بَاسِقَاتٍ لَـهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْـخُرُوجُ﴾ [ق 11]
ـ ﴿وَالذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُـخْرَجُونَ﴾ [الزخرف 11]
﴿وَهُوَ الذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْـمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُـحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِـمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا﴾ [الفرقان 49]
وأمّا كلمة ﴿الْبِلَادِ﴾ فهي أشملُ لدلالتها على القرى والمدُنِ وعلى البلَدِ الذي هو الأودية والفيافي غير المأهولة ويتقلّبُ الذين كفروا فيها ظهورا منهم على المسلمين كما في حرفي غافر وآل عمران، وطغا في "البلاد" جنود فرعون وأوتاده وقبل نزول القرآن نقَّبتْ في "البلاد" قرون عاتية مكذِّبَةٌ ومنها "عادٌ ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ التِـي لَـمْ يُـخْلَقْ مِثْلُهَا فِـي الْبِلَادِ﴾ [الفجر 8].
بقلم/
الحسَن ولد ماديك
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top