إن اللهَ العليم الخبير قد أكرمَ الملائكة والرُّسُل والنبيين في الدنيا باصطفاءٍ جعلَهم عبادا مُخلَصين يعبدون اللهَ مخلِصين له الدِّين ولا يملكون لأنفُسِهم غيرَ الإيمان والزكاةِ بالطاعةِ والمسارعة في الخيرات.
وأكرم اللهُ سائرَ الثقليْنِ من الإنس والجنِّ بأدوات الكَسْبِ والعلم ـ سَمْعا وبصرا وعقلا وفكرا وقوَّةً ـ ليتمكن بها من الاختيار بين الإيمان والكفر وبين الطاعة والمعصية وبين الشكر واللؤْم بالجحود.
وجعَلَ اللهُ هذه الحياة الدنيا دار عمَلٍ وكَدٍّ واختيار واختبارٍ وصراعٍ وتنافُسٍ بين جميع المِلل والنِّحَل والأجناسِ والأعراق، وجعل الحياةَ الآخرةَ دار حساب وجزاء.
وإن من رحمة ِ الله بالمُكلَّفين أن لم يَجعلْ في يومِ الدّينِ والحساب والجزاء وَكيلًا ولا شريكا يُحاسِبُ المكلَّفين من الإنسِ والجنِّ بل اللهُ وحدَه هو مَلِكُ يوم الدِّينِ ومالكُه كما هي دلالة قوله تعالى ﴿يومَ لا تَملِكُ نفسٌ لنفسٍ شيئًا والأمرُ يومئذٍ للهِ﴾ آخر سورة الانفطار، وتضمَّن تفصيل الكتاب المنزّل كثيرا من المثاني:
﴿يَعلمُ خائنةَ الأعيُنِ وما تُخفِي الصّدورُ واللهُ يقْضِي بالحقِّ﴾ غافر 19 ـ 20.
﴿وربُّك يعلم ما تُكِنُّ صدورُهم وما يُعلِنون﴾ القصص 69.
﴿وإن تَجْهَرْ بالقَولِ فإنَّه يعلمُ السِّرَّ وأخفَى﴾ طه 7.
﴿واللهُ يعلمُ المُفْسِدَ من المُصْلِحِ﴾ البقرة 220.
﴿فليَعْلَمَنَّ اللهُ الذين صدَقوا وليَعلَمنَّ الكاذبين﴾ العنكبوت 3.
﴿ولِيَعلمَ المؤمنين ولِيَعلمَ الذين نافقوا﴾ آل عمران 166 ـ 167.
وقد أثبتُّ في كتابي "معجم معاني كلمات القرآن وحروفه ومضمراته" أنّ إسناد العلم إلى الله يعني أن المعلوم سيظهر ولا يَخفَى وأنَّ السِّرَّ وأخفَى منه سيُصبِح كالجهرِ والعَلَنِ في يوم الحسابِ، ويعني أن لن يلتبسَ في يوم الحساب الذين يقولون بألسِنتِهم وأفواههم ما ليس في قلوبهم ولا الذين يجمعون المالَ والجاهَ والمتاعَ بالتدّيُّنِ بالمُصلِحين الصادقين الموصوفين في القرآن بقوله ﴿الذين يأمُرون بالقِسْطِ من الناس﴾ آل عمران 21.
وكذلك دلالةُ قوله تعالى ﴿فلنسْألَنَّ الذين أُرسِلَ إليهم ولنسْألَنّ المرسَلين فلنَقُصَّنَّ عليهم بعِلمٍ وما كُنَّا غائبين والوزنُ يومئذٍ الحقُّ﴾ الأعراف 6 ـ 8، ويعني أن يَقُصَّ اللهُ بعلم على المكلَّفين أنّ الحِسابَ قد بدأ منذُ خلَقَ اللهُ السموات والأرض واستوى على العرشِ لا يخفَى عليه شيءٌ من أعمال المكلفين يرقُبُها جميعا كما في قول عيسى ﴿فلما توفَّيْتني كنتَ أنتَ الرقيبَ عليهم وأنت على كل شيءٍ شهيدٌ﴾ المائدة 117، وسيُحاسِبُ اللهُ المكلَّفَ في الدِّينِ على ما لم يَغْفِره له من أعمالِه السيِئَةِ.
وكذلك اعلانُ استواء اللهِ على العرشِ بعد خلْقِه السماوات والأرضَ أن المحاكمةَ الكبرَى في الدِّينِ والحسابِ قد بدأتْ إجراءاتُها.
إن المثاني:
﴿وتوكل على الحيِّ الذي لا يموت وسبِّح بحمده وكفى به بذنوب عبادِه خبيرا الذي خلَقَ السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمـنُ فاسْألْ به خبيرا﴾ الفرقان 58 ـ 59.
﴿هو الذي خلقَ السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلِجُ في الأرض وما يخرُج منها وما ينزل من السماء وما يعرُج فيها وهو معكم أين ما كنتم واللهُ بما تعملون بصيرٌ﴾ الحديد 4.
﴿إن ربَّكم اللهُ الذي خلَقَ السموات والأرضَ في ستة أيام ثم استوى على العرشِ﴾ الأعراف 54.
﴿إن ربكم الله الذي خلَقَ السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرشِ يُدبِّر الأمرَ ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون﴾ يونس 3.
﴿الله الذي رفع السماوات بغير عَمَدٍ تروْنها ثم استوى على العرش وسخَّر الشمسَ والقمرَ كل يجري لأجل مسمًّى يُدَبِّرُ الأمر يُفصِّلُ الآيات لعلكم بلقاء ربِّكم توقنون﴾ الرعد 2.
﴿الله الذي خلَق السماوات والأرضَ وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من وليٍّ ولا شفيعٍ أفلا تذكرون﴾ السجدة 4.
﴿تنزيلا ممن خلَقَ الأرضَ والسماوات العلى الرحمـن على العرش استوى﴾ طه 5.
﴿وهو الذي خلَقَ السماوات والأرضَ في ستة أيام وكان عرشُه على الماء ليبلوكم أيُّكم أحسن عملا ولئن قلتَ إنَّكم مبعوثون من بعدِ الموتِ ليقولُنَّ إنْ هذا إلا سِحرٌ مبينٌ﴾ هود 7.
لتعني أولا: أن اللهَ خلَق السماوات والأرض بالحقِّ أي بغير عبثٍ ولعبٍ بل لأجلِ أن يطاعَ ويُعبَدَ فيهما.
وثانيا: أن الاستواء على العرش تأخّر عن خَلْقِ السّموات والأرضِ بقرينة الحرف ﴿ثم﴾ في الفرقان والحديد والأعراف ويونس والرعد والسجدة.
وثالثا: اقترن الاستواء على العرش بمراقبة الأعمال وليَبْلُوَنا اللهُ أيُّنا أحسنُ عملا كما في صريح حرف هود.
ورابعا: أن خَلْقِ الجنِّ سابقٌ بقرينة الاستواء على العرش بعد خلق السماوات والأرضِ لظهور تأخُّر خلق ءادم عن خلقِ السماوات والأرض.
ويعني التحذيرُ في حرف هود من البعث من بعد الموت بعد بيان الاستواء على العرش ليبلُوَنا اللهُ أيُّنا أحسنُ عملا أن لم يتبقَّ قبل المحكمة الكبرى غير الموتِ والبعثُ من بعدِه للحساب.
وعجبي من المشبِّهين والمؤوِّلين يعدلون عن الكليات الكبرى الظاهرة في السياق يَتكلَّفون ما لا تبلغُه عقولهم رغم النّهْىِ عنه في الوحيِ بتقرير كلية ﴿ليسَ كمِثْلِه شيءٌ﴾ الشورى 11، وقد قصُرَتْ عقول المكلَّفين عن تبيُّن ظاهرة الحياة والموتِ والرؤيا الصادقةِ في المنام التي يظهر تأويلُها بعد أُمَّةٍ.

الحسن محمد ماديك

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top