إن من تأصيلي التفسير أن اللهَ عز وجل خاطبَ الناسَ باعتبارِهم طائفتيْنِ اثنتيْنِ طائفةٌ مؤمِنة بالغيْبِ وطائفةٌ منكرةٌ الغيْبَ، ولأنَّ القرآنَ مثانِيَ فقد وَرَدَ حرفُ الوَعْدِ كذلك مَثنى مَثنى سواءٌ كان بالحُسْنَى أو بالسُّوأَى.
وتضمن الوَعدُ في سِياق مخاطبة مُنكِري الغَيْبِ ترتيبَ الوعديْنِ حسب الزمان بتقديم الوعد الأول الأقرب وتأخير الوعدِ الثاني المتأخر كما في المثاني:
ـ ﴿قل للذين كفروا ستُغلَبون وتُحشَرون إلى جهنم﴾ آل عمران
ـ ﴿أفتُؤْمِنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خِزْيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُرَدُّون إلى أشد العذاب﴾ البقرة
ـ ﴿ومن أظلم ممن مَنَع مساجد الله أن يُذكَرُ فيها اسمُه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم﴾ البقرة
ـ ﴿قال ومن كفر فأمتِّعه قليلا ثم أضطرُّه إلى عذاب النار وبئس المصير﴾ البقرة
ويعني حرف سورة آل عمران أن اللهَ وعدَ الذين كفروا وَعْدًا قريبا أن سيُغْلَبون في الدنيا، وَوَعَدَهم وعدا ثانيا متأخرا عن الدنيا أن سيُحشَرون في يوم البعث إلى جهنم.  
ويعني أول البقرة أن اليهود والنصارى قد ءامَنوا ببعض الكتاب الذي هو التوراة والإنجيل وكفروا ببعضٍ من الكتاب الذي هو القرآن ووعدَهم اللهُ وعديْنِ اثنين أحدهما متقدم وهو الخِزْيُ في الحياة الدنيا والثاني متأخر وهو أشدُّ العذاب في يوم القيامة يُرَدّون إليه بعد العذاب في القبر فاعلم.
ويعني ثاني البقرة أن الله وَعَد الذين يمنعون مساجدَ الله أن يُذْكرَ فيها اسمُه ويسعون في خرابِها ـ ومنهم الذين يُفجِّرونها بالمصلين ـ بوَعْدَيْنِ اثنيْنِ أحدهما متقدم وهو الخِزْيُ في الدنيا وثانيهما متأخر وهو عذاب عظيم في الآخرة.
ويعني ثالث البقرة أن الله وعدَ الذين يكفرون من أهل مكة وعدين اثنيْنِ أحدهما متقدم وهو متاع قليل في الدنيا والثاني متأخر وهو أن يضطرَّه كارها إلى عذاب النار في اليوم الآخر.
ولا يخفى ترتيب الوعديْن ترتيبا طبيعيا بتقديم الموعود الأول وتأخير الموعود المتأخر.
وأما في سياق مخاطبة المؤمنين بالغيب فيَرِدُ تقديمُ الموعود الأكبر أو الموعود المتأخر زمانا ويتأخر بيان الموعود الأول الأقرب كما في المثاني:
ـ ﴿ولا تحسبنَّ اللهَ غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مُقْنِعي رؤوسِهم لا يرتدُّ إليهم طرْفُهم وأفئدتُهم هواء وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقولُ الذين ظلموا ربَّنا أخِّرْنا إلى أجلٍ قريب نُجبْ دعوتَك ونتبعِ الرسُلَ﴾ إبراهيم
ـ ﴿وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون﴾ البقرة
ـ ﴿مالكَ يوم الدين إيَّاك نعبدُ وإيَّكَ نستعينُ﴾
ـ ﴿والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم﴾ البقرة  
ويعني حرف سورة إبراهيم أن الله وَعَدَ نبيَّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن سينتقِم من الظالمين مرتين إحداهما متأخرة في يوم البعث حين تشخص الأبصار وثانيهما حين ينزل العذاب في الدنيا قبل انقضاء أجَل الأمة فيَسألون التأخير ليتمكنوا من الإيمان واتِّباع الرسل فلا يُجابون إليه بل يُعَذَّبون عذابا ماحقا في الدنيا بقرينة سؤالهم التأخير وإنما التأخير قبل الموت كما في قوله تعالى ﴿وأنفقوا مما رزقناكم من قبلِ أن يَأتِيَ أحدكم الموتُ فيقولَ ربِّ لولا أخرتني إلى أجَلٍ قريب فأصّدَّقَ وأكن من الصالحين ولن يُؤخِّرَ اللهُ نفسًا إذا جاء أجلها﴾ المنافقون، أما بعد البعث فإنما يَسْأل المفرِّطون النادِمون المَرَدَّ إلى الدنيا لِتُتَاح لهم فرصة التكليف ثانيا كما في قوله تعالى ﴿ولو ترى إذ وُقِفُوا على النار فقالوا يا ليْتَنا نُرَدُّ ولا نُكَذِّب بآياتِ ربِّنا ونكون من المؤمنين﴾ الأنعام، وكما في قوله تعالى ﴿وترى الظالمين لمَّا رَأَوُا العذاب يقولون هل إلى مَرَدٍّ من سبيلٍ﴾ الشورى.
ويعني حرف البقرة أن الصلاة إنما يخشعُ فيها الذين يستعدُّون لِلِقاء الله الكبير المتعالِ ﴿يومَ تأتِي كلُّ نفسٍ تجادل عن نفسِها﴾ النحل، وهو الوعد المتأخر يوم القيامة وقبله الوعد المتقدم وهو الرجوع إلى الله بانقضاء التكليف بالموت.
ويعني حرف الفاتحة أن المؤمن بالغيبِ يستحضر يوم الدين يوم الفصل بين الناس يوم الحساب قبل كل عمَلٍ يقوم به في الدنيا يعبُد اللهَ بهِ ويستعينُه ليُوَفِّقَه ويُعينَه عليه.


0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top