الحرف الأول: النبوَّة
النبوة ودلالة الفرق بين النبوة والرسالة
إن من تفصيل الكتاب أن النبوة عند إطلاقها هي الإخبار باليقين من العلم الغائب، أو بما كان من الحوادث التي غابت عنك فلم تحضرها سواء كانت ماضية أو معاصرة كما وقعت، أو بما ستؤول إليه الحوادث كما ستقع مستقبلا.
فمن الأول قوله ﴿قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض﴾ يونس، وقوله ﴿أم تنبّئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول﴾ الرعد، والمعنى أن الله لا يغيب عنه ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وقوله ﴿سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا﴾ الكهف.
ومن الثاني قوله ﴿ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم﴾ التوبة، وقوله ﴿ونبئهم عن ضيف إبراهيم﴾ الحجر، في وصف الحوادث الماضية.
ومنه قوله ﴿وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير﴾ التحريم، وقوله ﴿فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين﴾ النمل، من قول الهدهد في وصف الحوادث المعاصرة.
ومن الثالث قوله ﴿وأمم سنمتّعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين﴾ هود، وقوله ﴿قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون﴾ سورة ص.
وإنه في يوم الدين ﴿يوم لا تملك نفس لنفس شيئا﴾ الانفطار، ينبّأ الإنسان بما قدّم وأخّر، وذلك أنّ إلى الله مرجع الناس فينبئهم بما عملوا وبما كانوا يصنعون وبما كانوا فيه يختلفون وإليه أمرهم فينبئهم بما كانوا يفعلون.
ولا كرامة في هذه النبوة إذ هي بإحضار عمل الإنسان المنبّإ به فيُعرض عليه ليراه جهرة كما في قوله ﴿علمتْ نفس ما أحضرت﴾ التكوير، وقوله ﴿علمت نفس ما قدمت وأخرت﴾ الانفطار، ولا علم قبل تمكّنِ البصر من المعلوم كما في قوله ﴿يوم ينظر المرء ما قدمت يداه﴾ النبأ، وقوله ﴿كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم﴾ البقرة ، وقوله ﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا﴾ عمران، والمعنى أنه محضر كذلك، وقوله ﴿ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا﴾ الكهف.
وإن قوله ﴿علمت نفس ما قدمت وأخرت﴾ الانفطار، لمن المثاني مع قوله ﴿ونكتب ما قدموا وآثارهم﴾ يس، وقوله ﴿ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم﴾ النحل، وقوله ﴿وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم﴾ العنكبوت، إذ الذي قدّموه هو ما عملوه في حياتهم والذي أخّروه هو الأثر الذي تركوه خلفهم ومنه الأشرطة المسموعة والمرئية فإن كان سيئا كان من أوزار الذين يضلونهم بغير علم ومن الأثقال مع أثقالهم.
وإنما ذكرت الحديث عن النبوة الآخرة العامة لتقريب علم اليقين الحاصل للنبيّ في الدنيا بما ينبئه به الله العليم الخبير.
 إن الذين كانوا يقولون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿هو أذن﴾ التوبة، بمعنى أنه يسمع ويقبل ما يتلقّى من أعذارهم كالمغفّل وهو أبعد ما يكون الرجل عن الوحي هم المنافقون الذين يحسبون النبيّ صلى الله عليه وسلم كذلك، لا يفقهون أن النبيّ تعرض عليه في يقظته ونومه أعمال أمته سواء منهم من عاصروه والذين سيتأخرون عنه ويعرض عليه مما سيكون من الحوادث في أمته إلى آخرها وإلى قيام الساعة فما بعده.
إن الله نبّأ النبي صلى الله عليه وسلم بما سيكون في أمته فعرضه عليه عرضا ورأى رجال أمته ونساءها حسب أعمالهم ودرجاتهم على نسق ما ينبئ الله به كل إنسان في يوم الدين والحساب بما قدم وأخر من أعماله.
ولا تسل عن اليقين من العلم الحاصل للإنسان المنبّإ في يوم الدين ولا للنبيّ في الدنيا لأن الله يُرِّي النبي ذلك العرض بأم عينيه في الدنيا كما في الأحاديث النبوية المتواترة ومنها:
ـ إني والله لأنظر إلى حوضي الآن [متفق عليه]
ـ هل ترون ما أرى إني أرى الفتن تقع خلال بيوتكم مواقع القطر [متفق عليه]
ـ إنه عرض علي كل شيء تولجونه فعرضت علي الجنة حتى لو تناولت منها قطفا أخذته أو قال تناولت منها قطفا فقصرت يدي عنه وعرضت علي النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذَّب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قَصَبه في النار وإنهم كانوا يقولون إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم وإنهما آيتان من آيات الله يريكموهما فإذا خسفا فصلوا حتى تنجلي [صحيح مسلم] كتاب الكسوف باب ما عرض على النبي في صلاة الكسوف من أمر
ـ عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كالخير والشر [صحيح البخاري] كتاب مواقيت الصلاة باب وقت صلاة الظهر بعد الزوال
وإن النبوة المقيدة بالعلم كما في قوله ﴿نبئوني بعلم إن كنتم صادقين﴾ الأنعام، فإنما هي بأحد أمرين:
1.    الإخبار والعرض يقظة وهو ما اختص به النبيون.
2.    الإخبار بالكتاب الذي جاء به النبيون وهو العلم.
ويعني أن الله دعا المشركين الذين حرّموا من ثمانية أزواج الأنعام ما لم يأذن به الله أن ينبئوا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم أي يخبروه بعلم أي يعرضوا عليه ساعة نزل عليهم لأول مرة من الله تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، أو يأتوا بكتاب من عند الله نزل فيه تحريم ما زعموا، وذلكما الدليل القوي لو استطاعوه وهو الذي تتأتى به معارضة ما جاء به النبيون من العلم.
فالنبوة بعلم بمعنى العرض يقظة هي ما اختص به النبيون وهي أخص من قوله ﴿سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ﴾ الكهف، وقوله ﴿ ونبئهم أن الماء قسمة بينهم﴾ القمر، أي أخبرهم ولم يسبق إليهم علم به.
إن التقدم العلمي اليوم لم يبلغ بعض ما عرض على النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم يقظة كما في قوله:
ـ ﴿ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم﴾ البقرة
ـ ﴿ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله﴾ البقرة
ـ ﴿فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم﴾ المائدة
ـ ﴿فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية﴾ الحاقة
وهو مما سيقع مثله بعده في أمته كما هي دلالة أنه مما عرض عليه ونبئ به في القرآن.
إن العرض يقظة في الدنيا للنبيّ هو الذي يقع مثله لكل منا إذا بلغ منه الموت قبل أن تسيل نفْسه إذ يعرض عليه مقعده في الجنة والنار.  
وهو الذي يقع مثله لابن آدم إذا مات ودخل البرزخ إذ يعرض عليه قبل البعث مقعده غداة وعشيا كما في صحيح البخاري في كتاب الجنائز باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن أحدكم إذا مات عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة".
وهو كذلك في صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة وفي مسند أحمد في الحديث وفي النسائي وموطإ مالك وابن حبان وغيرهم.
وكما في قوله ﴿النار يعرضون عليها غدوا وعشيا﴾ غافر، ومن المثاني معه قوله ﴿مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا﴾ نوح،  للدلالة على عذاب القبر.          
والعرضان هما في الكتاب كما في قوله ﴿كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين﴾ التكاثر، فقوله ﴿لترون الجحيم﴾ مفسر وعد الله ﴿كلا سوف تعلمون﴾ يعني عند الموت عرضا، وقوله ﴿ثم لترونها عين اليقين﴾ مفسّر وعد الله ﴿ثم كلا سوف تعلمون﴾ يعني في يوم الدين، فالعرضان عند الموت وفي يوم الدين هما اللذان وقع بهما العلم ولا يخفى أن العلم في الأخير منهما أكبر لقوله ﴿ثم لترونها عين اليقين﴾.
وجميع أهل الجنة ينبئهم الله فيعرض عليهم وهم على سررهم ما يشاءون كما في المثاني في قوله:
ـ ﴿إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون﴾ التطفيف                                       
ـ ﴿فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون﴾ التطفيف
ـ ﴿قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم﴾ الصافات
وأهل النار كذلك ينبّأون كما في قوله ﴿كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار﴾ البقرة، أي تعرض عليهم أعمالهم السيئة التي قدموها في الدنيا ودخلوا بها النار ليزدادوا حسرة وقنوطا من الفرج والرحمة.   
إن عدم استطاعة التراث الإسلامي التفرقة بين الرسول والنبيّ لمن العجب العجاب ويعتبرون النبيّ أقل درجة من الرسول.
وإنما النبي هو الذي أوحى الله إليه ونبّأه وعرض عليه في يقظته مما سيكون من الحوادث في الدنيا والآخرة لينبّئ معاصريه وآخرين لما يلحقوا بهم من الأجيال اللاحقة.
والنبيون ثلاثة أصناف:
1.    من أرسل بالنبوة وأنزل عليه الكتاب للناس ابتداء مثل موسى وعيسى ومحمد فهم رسل الله بالبينات لما في الكتاب الذي أنزل عليهم ابتداء وبالبينات لما جاء به النبيون قبلهم.
2.    ومنهم من أرسل بالنبوة وبالبينات لما في الكتاب الذي جاء به النبيون قبله وهم أنبياء بني إسرائيل بعد موسى.
3.    ومنهم النبيون في النبوة الأولى قبل التوراة آتاهم ربهم الكتاب فحفظوه عن ظهر قلب وعلموه تعلما خارقا وعلموا أممهم منه بقدر استعدادهم للتلقي.
وقد أهلك الله جميع الأمم المكذبة وما بلغت معشار ما جاء به النبيون من العلم.
وإن الذي جاء به النبيون هو الكتاب الذي أنزل معهم جميعا وبيناته والنبوّة التي ستقع على الأجيال اللاحقة بعدهم.
إن البينات لما في الكتاب هي العلم وهي أعم من النبوة، والنبوة أخص منه أي من العلم.
والنبوة: موعودات أوحيت أو عُرضت على النبيين ولم يُظهِر الله عليها غيرهم قبلهم، نبّأهم الله بها فجعلهم أنبياء ينبئون معاصريهم مما سيكون في الأجيال اللاحقة أي من غيبها، وكانت أحاديث النبيّ عن الغيب الموعود من النبوة التي منّ الله على قوم النبيّ فجعلها فيهم وقد يتوارثونها حديثا أو كتابا مكتوبا كتبوه بأيديهم، وإن منها الحديث الصحيح "إن مما أدرك الناس من النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" يعني أن النبيين قبل التوراة وقبل نوح قد قالوا "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" للدلالة على أن سيكون في آخر الزمان عرايا من الحياء يصنعون ما يشاءون من الفواحش والإثم والبغي ولقد أصبحت تلك النبوة شهادة أدركها الناس الذين عاصروا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وتحققت فيهم فما بالك بما آل إليه الناس بعد أكثر من أربعة عشر قرنا.
وإن النبوة الثانية بعد الأولى هي التي ابتدئت بموسى وهارون بعد هلاك فرعون ولقد تضمنتها الكتب الثلاثة المنزلة من عند الله إذ تضمنت التوراة نبوة موسى، وتضمن الإنجيل نبوة عيسى، وتضمن القرآن نبوة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعا ونبوّة من قبله من النبيين وتبيان ذلك وتفصيله هو القصد والله المستعان.
فالنبوة أوتيها النبيون جميعا وأوتيها قومهم من بعدهم الذين تلقّوْا منهم وأوتيها الأجيال اللاحقة بعدهم، وهكذا أوتيها الثمانية عشر المعدودون في سورة الأنعام وأوتيها من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ولا يخفى أن ليس كل آبائهم وذرياتهم وإخوانهم أنبياء.
إن قوله ﴿ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر﴾ الجاثية، لمن المثاني مع قوله ﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين﴾ المائدة، ويعني حرف الجاثية أن بني إسرائيل هم أول أمة أوتيت كتاب الله يتدارسونه وليحكم بينهم وجعل فيهم أنبياء نبأوهم مما سيكون ومضى النبيون وبقيت نبوتهم معلومة بعدهم وآتاهم نعما ظاهرة حُرِمت منها شعوب عاصرتهم كما هي دلالة التفضيل الذي يعني أن الذي فضله الله قد أعطاه ما حرم منه غيره، ومن النعم التي فضلوا بها على العالمين تلكم الموصوفة في حرف المائدة أن جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا أي جعل فيهم ملوكا وهم طالوت وداوود وسليمان وآتاهم ما لم يؤتَه أحد من العالمين ومنه البينات من الأمر وهي الفرقان الذي كان مع موسى وسائر أنبيائهم فلا يلتبس في ظلهم الباطل بالحق.
ولا يعني حرف الجاثية أن كل واحد من بني إسرائيل كان نبيا وإنما يعني أن النبوة والرسالة جعلتا فيهم كما هي دلالة قوله ﴿وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب﴾ الحديد، وقوله ﴿وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب﴾ العنكبوت ، أي أن النبوة والكتاب جعلا في ذرية نوح وإبراهيم دون سائر بني آدم وكذلك جعل في بني إسرائيل ملوك كداود وسليمان ولا يعني قوله ﴿وجعلكم ملوكا﴾ أن كل واحد منهم كان ملكا.
إن بني إسرائيل منهم السامري الدجال المنتظر، ومنهم الذين قتلوا النبيين ومنهم الذين حاولوا قتل عيسى ومنهم الذين قالوا يد الله مغلولة ومنهم الذين قالوا إن الله فقير ـ سبحانه وتعالى ـ ووصفوا أنفسهم بأنهم أغنياء ومنهم من لعنه الله وغضب عليه وعذبهم بذنوبهم وجعل منهم القردة والخنازير ومنهم من عبد الطاغوت ومنهم من قالوا عزير ابن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ومنهم من قالوا المسيح ابن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولا يخفى أنهم من شرار الخلق ولم يجعلهم الله رسلا ولا أنبياء.
إن عيسى وهو في المهد قد قال ﴿إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا﴾ مريم، وهو صريح في أنه كان من أولي العلم يوم قالها وهو في المهد إذ لو قال إني عبد الله آتاني الكتاب والنبوة لانخرم المعنى لدلالة آتاني النبوة على أنه يعلم ما جاء به النبيون من قبل من الكتاب والنبوة بما سيكون من الحوادث وقد لا يكون نبيا تماما كما قد استدرج النبوة بين جنبيه من حفظ القرآن إذ قد حفظ ما نبّأ الله به جميع النبيين منذ آدم وإلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم إذ حوى القرآن جميع ذلك وليس من حفظ القرآن هو نبي وهكذا كان من علم عيسى أن قال ﴿وجعلني نبيا﴾ أي أن الله صيّره نبيا من النبيين وعلى غير نسق ما قبله ﴿آتاني الكتاب﴾ ومن المثاني معه ﴿ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل﴾ عمران، وقوله ﴿وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل﴾ المائدة، أي جعله يعلم كل ذلك تعلما خارقا معجزا لا يملك أحد مثله لنفسه.
إن عدم حفظ التوراة من التحريف قدرا ـ بفتح الدال ـ إذ جعل الله أمر حفظها إلى الربانيين والأحبار من بني إسرائيل كما في قوله ﴿بما استحفظوا من كتاب الله المائدة، هو سبب تعدد الأنبياء في بني إسرائيل لأن الأحبار كانوا كما في قوله ﴿يحرفون الكلم عن مواضعه النساء، المائدة، فتعدد الأنبياء فيهم ليقوموا مقام حفظ التوراة يحكمون بها وهي غير محرفة ويعلنون لهم ما تقع عليه نبوة موسى في التوراة من الحوادث التي كانت غيبا يوم نزلت التوراة، ومنه بعث طالوت وداوود وسليمان ملوكا كما في قوله ﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين المائدة، وإنما وقع ذلك كله بعد موسى ولا يخفى أن التوراة تقع نصوصها على ما سيكون من الحوادث بعدها لقوله ﴿وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء الأعراف، ومن المثاني معه قوله ﴿ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء الأنعام، وكان كل نبيّ بعد موسى يحكم بالتوراة دونما تحريف لأن الله آتى كل نبيّ الكتاب أي علمه إياه فحفظه وعلم بيانه عن ظهر قلب وكل نبيّ يعلن إيقاع التوراة على الحوادث.
أما القرآن المحفوظ من التحريف فقد أغنى عن تعدد الأنبياء في هذه الأمة وكان نبيها هو خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كما في الأحزاب وبدليلين اثنين أولهما أن القرآن قد تضمن جميع نبوة محمد، فلم يأت من الحوادث منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا إلا ما حواه القرآن ولن يأتي منها وإلى الأبد في الدنيا والآخرة إلا ما حواه كذلك.
أما في الآخرة فجميع الحوادث مفصلة في الكتاب وإنما ينغلق في الدنيا غير أن النبوّة حرف من الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن وكل منها شاف كاف كما في الأحاديث الصحيحة فجميع ما في القرآن من أنباء سيتكرر مثله في هذه الأمة قبل الآخرة ولذلك خلا الكتاب من النبوة عن الجنة والنار وإنما نبّأ القرآن ببعض ما كان من القصص والحوادث الماضية ودليله قوله:
ـ ﴿ولتعلمن نبأه بعد حين خاتمة سورة ص
ـ ﴿لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون الأنعام
ويعني أن جميع ما نبّأ الله به خاتم النبيين في القرآن سيكون يوما معلوما لكل الناس بعد حين، ولقد مضى من الحين حوالي ألف وأربعمائة وأربعين عاما، وإنما يستقر النبأ إذا وافق الأجل الذي جعل الله له وليعلمه الناس رأي العين كما بينت.
وثانيهما أن محمدا هو رسول الله بآية خارقة معجزة محفوظة هي القرآن، وشهادة المسلم ـ وشرط الدخول في الإسلام ـ أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله تعني أن المسلم في كل وقت يشهد على نفسه أنه حضر رسالة الله التي أرسل بها محمدا وهي القرآن وما غاب عنها بل بلغته وآمن بما فيها من الغيب والنبوة، فالشهادة بأن محمدا رسول الله هي إقرار وإيمان بالآية المعجزة التي أرسل بها وهي القرآن.
ويعني قوله ﴿والله يشهد إنك لرسوله سورة المنافقين، أن الله سيظهر للعالم كله في الدنيا أنه رسول الله بهذه الآية المعجزة إذ ما شهد الله به لن يبقى سرا مجهولا أو مغمورا بل سيشاهده العالمون جميعا وذلك مدلول قوله ﴿قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم الأنعام، ويعني أن كل غيب في القرآن سيصبح شهادة معلوما لكل الناس ليعلم الناس أن محمدا قد أرسل بالقرآن من قبل.
من نبوة جميع النبيين قبل نزول القرآن
لقد تضمن القرآن المنزل على النبي الأمي نبوة النبيين قبله، وهي قسمان:
أولهما: النبوة الأولى وقد تضمنها القرآن وأولها نبوة آدم كما في قوله:
ـ ﴿قلنا اهبطا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنونالبقرة
ـ ﴿قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هــداي  فلا يضل  ولا يشقى ومن أعرض عن  ذكري  فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى طه
ـ ﴿قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون الأعراف
ولا يخفى أن المنبأ به هو آدم وسيأتي بيانه تفصيلا في من بيان القرآن.
ومما نبأ الله به النبيين من ذرية آدم قبل نوح قوله:
ـ ﴿يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذّكّرون يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها الأعراف
ـ ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هـذا صراط مستقيم يس
ـ ﴿يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين الأعراف 
ـ ﴿يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون الأعراف
ولأن النبوة الأولى لم تنقض ولا يزال الشيطان عدوا يوسوس ويضل فقد نبّأ الله بمثلها خاتم النبيين كما في حرف يس وسيأتي من بيان النبوة الأولى في من بيان القرآن.
ونبّأ الله نوحا بعد إغراق قومه بقوله ﴿قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم هود، وسيأتي بيانه مفصلا في كلية النصر في ليلة القدر.
ومما نبّأ الله به جميع النبيين قبل نوح وبعده قوله ﴿وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقونعمران، وسيأتي بيانه مفصلا في من بيان القرآن.
ومما نبّأ الله به إبراهيم قوله ﴿وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء العنكبوت، وبينته في كلية النصر في ليلة القدر.
وقوله ﴿رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد هود، وبينته في من بيان القرآن.
وقوله ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون الأنعام، وبينته في كلية الخلافة على منهاج النبوة .
ومما نبّأ الله به إبراهيم وإسماعيل قوله ﴿ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم البقرة.
وثانيهما: النبوة الثانية وهي نبوة موسى وهارون فمن بعدهما من النبيين إلى عيسى وقد تضمنها القرآن كذلك :
ومما نبّأ الله به موسى قوله:
ـ ﴿سأوريكم دار الفاسقين سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا الأعراف وقد بينته في كلية الآيات.
ـ ﴿وذكرهم بأيام الله إبراهيم، وبينته في كلية النصر في ليلة القدر.
ـ ﴿قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون الأعراف، وبينته مفصلا في أكثر من موقع.
ـ ﴿قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه طـه، وبينته في المنظرين في كلية الآيات.
ـ ﴿قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقينالأعراف
ـ ﴿قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون الأعراف
ـ ﴿إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء الأعراف
ـ ﴿إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم الأعراف فبعضه من نبوة موسى والبعض الآخر من نبوة محمد الأمي صلى الله عليه وسلم

ومما نبّأ الله به النبيّ من بني إسراءيل من بعد موسى قوله ﴿والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم البقرة  وبينته في كلية النصر في القتال في سبيل الله.
ومما نبّأ الله به جميع النبيين من بني إسراءيل بعد موسى ومنهم عيسى قوله ﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسراءيل وبعثنا منهم إثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل المائدة، وبينته في من بيان القرآن.
ومما نبّأ الله به عيسى قوله ﴿ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد الصف، وقوله قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين المائدة، وبينته في المنظرين في كلية الآيات.
ومما نبأ الله به موسى في التوراة وعيسى في الإنجيل قوله ﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون الأعراف
ومما نبّأ الله به موسى في التوراة ونبّأ به عيسى في الإنجيل ومحمدا في القرآن قوله ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة الإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التوبة، وبينته في كلية النصر في القتال في سبيل الله .
ومما نبّأ الله به محمدا :
ـ ﴿الذي يؤمن بالله وكلماته الأعراف
ـ ﴿ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون الأعراف 
ـ ﴿وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون الأعراف
ـ ﴿وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم الأعراف
ـ ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير آل عمران
إن درجة النبي في الدنيا هي أكبر درجة بلغها بشر وأكبر نعمة أنعم الله بها على بشر كما في قوله:
ـ ﴿ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا﴾ عمران
ـ ﴿ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء﴾ المائدة
ـ ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم﴾ الأحزاب
ويعني حرف آل عمران أن الملائكة والنبيين هم أشرف المخلوقات
ويعني حرف المائدة أن التشريع المنزل من عند الله إنما هو المنزل إلى النبي فجميع الناس تبع له.
ودلالة حرف الأحزاب ظاهرة.
إن قوله ﴿أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا﴾ مريم، وقوله ﴿ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا﴾ النساء، يعني أنه جعل النبيين على رأس المنعم عليهم. وقوله ﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء﴾ المائدة، يعني أنه جعلها على رأس النعم قبل نعمة الملك والآيات الخارقة للطمأنينة والكرامة مع داوود وسليمان وعيسى.
وإذا وقع الوصف بالنبوة انتفت زيادتها بما هو أقل منها في تفصيل الكتاب المنزل وهو الوصف بالرسالة كما في قوله ﴿ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا﴾ مريم، وقول عيسى ﴿إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا﴾ مريم، ورسالة هارون وعيسى من المعلوم من القرآن.
وقد آتى الله جميع النبيين الكتاب والحكمة كما في قوله ﴿وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة﴾ عمران، وكما في دعاء النبيين إبراهيم وإسماعيل ﴿ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم﴾ البقرة، ولا يخفى أن أول كتاب نزل من عند الله هو التوراة، أوتيها موسى فكيف علم إبراهيم وإسماعيل بالكتاب وهما قبل موسى بقرون وكيف آتى الله جميع النبيين الكتاب وكثير منهم كان قبل موسى، وإنما علم النبيون الكتاب عن ظهر قلب فكانوا أعلم الناس بهذا أما التوراة فهي أول كتاب نزل ليقرأه الناس ويحكم بينهم ويتعلموا منه بقدر كسبهم وهكذا القرآن، وقد علم موسى الكتاب والحكمة قبل إيتائه التوراة كما هي دلالة قوله ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا﴾ الفرقان، فالكتاب الذي أوتيه موسى في حرف الفرقان قد أوتيه قبل رسالته إلى فرعون وقومه وهو قبل التوراة التي أوتيها بعد هلاك فرعون.
إن إسلام النبيين هو تحقيقهم عبوديتهم لله في جميع أحوالهم في أنفسهم وفي ما يملكون فهم في الدنيا كإسلام من في السماوات والأرض يوم القيامة كما في قوله ﴿إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا مريم، أي مسلما لله خاضعا ولا كرامة بالإسلام في يوم القيامة وإنما في الدنيا كإسلام الملائكة والنبيين فيها.
وإذا ذكَر الله في القرآن خاصة عبودية عبد فإنما لإظهار نبوته التي أسلم بها لله ومنه المثاني:
ـ ﴿واذكر عبدنا أيوب سورة ص
ـ ﴿ذِكْرُ رحمة ربك عبده زكريا مريم
ـ ﴿واذكر عبدنا داوود سورة ص
ـ ﴿واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب سورة ص
ـ ﴿سبحان الذي أسرى بعبده
ـ ﴿فوجدا عبدا من عبادنا الكهف
ـ ﴿ذريةَ من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا الإسراء
إن أشد الناس بلاء هم الأنبياء كما في الحديث، وقد قتل بعضهم بغير الحق وبغير حق ويعني الأول أن قتلهم لا يوافق شرع الله وهو الحق ويعني الثاني أن النبيين الذين قُتلوا إنما قُتلوا بغير حق للناس عليهم أي أنهم لم يظلموا أحدا ولم يكسبوا إثما يجعل لقاتليهم حقا أي حق ولو ضعيفا يبيح له قتلهم ولو بتأويل، فلا تسل عن سفاهة الذين قتلوا النبيين فهم رحمة لمعاصريهم يأمنون العذاب في الدنيا من الله ما بقي النبيّ حيا بين أظهرهم.
وإن النبيين قد قتل بعضهم ولم يهلك بعذاب جامع مستأصل الذين كذبوهم وقتلوهم كما في قوله ﴿وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين﴾ الزخرف، ومن المثاني معه قوله ﴿وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون﴾ الأعراف، ويعني حرف الزخرف أن الذين أهلكهم ربنا كانوا خلَفا أشدَّ بطشا من آبائهم الذين استهزأوا بالنبيين وإلا لكان السياق فأهلكناهم بدل ﴿فأهلكنا أشد منهم بطشا﴾ ويعني حرف الأعراف أن الذين أُخذوا بغتة وهم لا يشعرون كانوا خلَفا أكثر عددا وأكثر سراء وحسنة من آبائهم الذين كذبوا النبيين من قبل.
إن محمدا بن عبد الله الهاشمي هو خاتم النبيين وآخرهم وقد نبأه الله كذلك بالقرآن ولا يصح أن يقع من الحوادث مستقبلا في الدنيا إلا ما نبأه الله به في القرآن ولا يصح أن يقع من الحوادث في الآخرة إلا ما تضمنه الكتاب وكما في قوله ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء﴾ النحل، وتقريب ذلك وإيضاحه هو القصد والله المستعان.
إن النبوة قد ختمت بمحمد ابن عبد الله النبي الأمي صلى الله عليه وسلم كما في قوله ﴿وخاتم النبيين﴾ الأحزاب،  وكما هو صريح القرآن إذ جعل النبوة مما مضى وانقضى وختم فلا نبي بعده أبدا وكما في قوله ﴿وما أوتي النبيون من ربهم﴾ البقرة، وفي المثاني معه قوله ﴿وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم﴾ عمران، مما يعني أن إيتاء النبيين من ربهم قد مضى وانقضى وإلا لبيّن الله للناس وما سيؤتى نبي أو نبيون بصيغة المستقبل وكما في قوله ﴿وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة﴾ آل عمران، وفي المثاني معه ﴿وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا﴾ الأحزاب، فأخذ الميثاق من جميعهم ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم كما في حرف الأحزاب متقدم ويعني حرف عمران أن إيتاءهم الكتاب والحكمة هو مما مضى وانقضى ودخول محمد صلى الله عليه وسلم في النبيين الذين أخذ الله عليهم الميثاق وآتاهم الكتاب والحكمة مؤذن بقرب وفاته وهو كذلك إذ نزل هذا القسط من سورة آل عمران في السنة العاشرة من الهجرة بمناسبة قدوم وفد نصارى نجران الذين دعاهم القرآن إلى المباهلة مع محمد صلى الله عليه وسلم في شأن ابن مريم ولا يخفى أن أول آل عمران وهو ما تضمنت من خطاب أهل الكتاب وإيجاب الحج إنما نزل متأخرا في السنة العاشرة أي بعد نزول آخر السورة وهو ما تضمنت من غزوة أحد بحوالي ست سنين.

وكما في قوله ﴿ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم﴾ الأنعام، بصيغة الماضي بالفعلين وكما في قوله ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين﴾ البقرة، بصيغة الماضي المنقضي وكما في قوله ﴿ صراط الذين أنعمت عليهم﴾ الفاتحة ، بصيغة الماضي وهم النبيون يقينا وقد مضى وانقضى الإنعام عليهم كما في قوله ﴿فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين﴾ النساء، وقوله ﴿أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا﴾ مريم، وهو صريح في أن الإنعام على المذكورين وذرياتهم بأن جعلهم أنبياء قد مضى وانقضى.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top