بسم الله الرحمان الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه وبعدُ:
فلقد بلغتني ضجَّةٌ صاخبةٌ حول الإجهاض السري وغيره، فلم يسَعْني غير تناوله بالبحث والدراسة التي تتجاوز مسؤولية الجـاني الفردية لتؤاخذ قبله عاصفةَ البيئة الحاضنة المشجعة التي لا يثبتُ أمامها غير المـخـلَصين الذين صرف الله عنهم الفحشاءَ والمنكر بتوفيق منهم وقليل أولئك الموفَّقون كالشاكرين.
ولقد وقع في عصرنا الحاضر تحقيق النبوة الأولى قبل نزول التوراة والتي بها كذلك خاتمُ النبيين صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال "إن مما أدرك الناس من النبوّة الأولى: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" للدلالة على أن سيكون في آخر الزمان عرايا من اللباس ومن الأخلاق يصنعون ما يشاءون من المجون والسفور ويمدُّهم الذين يتبعون الشهوات ويريدون للمسلمين أن يميلوا ميلا عظيما بالغَيِّ ثم لا يُقْصرون.
ولقد وقع النهي في الكتاب المنزل وفي الهدي النبوي عن قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق كما في قوله ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرَّم اللهُ إلا بالحق﴾ الأنعام، الإسراء، في خطاب الجماعة المسلمة لترخيص قتل النفس التي شذَّتْ أو حاربتْ بالحق، ولم يتنزل في الكتاب ولا في الهدْيِ النبوي خطاب الأفراد بالقتل يقومون به من تلقاء أنفسهم خارج سلطان الدولة والجماعة المسلمة.
ولا يخفى نزول حرفي الأنعام والإسراء في مكة قبل قيام الدولة النبوية في المدينة ولكن الجماعة المسلمة المخاطبة بهذا التكليف لم توجد في مكة البتة قبل الهجرة وإنما وجدت ونشأت وكان لها سلطانها الذي اكتسبت به صفة الجماعة في المدينة، وظلت الجماعة المسلمة بعد قيامها في المدينة لا تعلم دلالة قوله ﴿بالحق﴾ الذي يجعل لها سلطانا أي حجة من الله بقتل فرد منها شذّ أو حاربَ ونزل الإذن بالقصاص في البقرة والمائدة ونزل حدُّ الحرابة في المائدة في السابعة للهجرة، ولا يتأتى إثبات إقامة النبيِّ الأمّيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حدًّا من حدود الله في مرحلة الدفاع أي قبل انقضاء غزوة الأحزاب فليـعِه قادة التنظيمات الجهادية المعاصرة.
ولم يوصف في الكتاب المنزل قتلُ الجماعة فردا شذَّ أو حارب بأنه ﴿في سبيل الله﴾ فظهر أن للمؤمنين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتمثلوا القيام بالحدود إذا كان لهم جماعة وسلطان أي تمكين في الأرض إذ لم يوصف قطع يد السارق وجلد الزاني والقاذف والقصاص بأنه ﴿في سبيل الله﴾ وتجردت جميع الحدود من هذا الوصف،وكما هي دلالة الحديثين "لا يحل" أي لا يحل للجماعة قتل الفرد إلا بإحدى ثلاث.
ولقد تأخر الإذن بالقصاص منذ قُتِل ابنُ آدم الأول بيد شقيقه الخاسر إلى أن أنزلت التوراة على أول مجتمع مدني مسلم بعد هلاك فرعون،أما قبلهم فلم توجد على ظهر الأرض جماعة مسلمة إذ لم يتجاوز الناجون مع الرسل بالآيات كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب العد بالأصابع، وتلك دلالة قوله ﴿من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس حميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا﴾ المائدة، بعد تلاوة نبإ ابني آدم بالحق  على هـذه الأمة، ودلالة قوله ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص﴾ المائدة، ويعني فرض القصاص في التوراة، أما قبلها فلم يوجد تشريع جماعي كما حققت.
ولا تسل عن جرم قتل النفس بغير حق وأعظم منه جرما اغتيالها إذ الاغتيال هو إزهاق نفسِ غافلٍ عن الدفاع عن نفسه لمباغتته بالقتل، وأعظم منهما جرما وأْدُ المولود بعد ولادته ولا يتأتى وصفه بالحق إذ لا تتمكن الموءودة من الدفاع عن نفسها لقصورها عن قوة الدفع عن نفسها ولقصورها كذلك عن ارتكاب ذنبٍ أي ذنْبٍ يبيح كَظْمَ أنفاسها إماتة بالدَّفْـنِ تلك الموءودة ستشكو إلى ربِّها ليحاسب مَن وأَدها إعلانا منها أنها لن تغفر له.
أما الإجهاض فهو أبشع وأعظم من القتل والاغتيال والوأد، ومن أغفل من الجنين في بطن أمِّه وهو لا يعلم شيئا ولم يكتمل نمو خَلقه بل لا يزال مصونا محفوظا في ظلمات ثلاث لئلا تمتد إليها يد الغدر والفجور.
ولصيانة ما في الأرحام فقد تنزل الكتاب بقوله تعالى ﴿ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر﴾ البقرة، بصيغة النفي لنفي أي وجه يَـحِلُّ أي يجوز به كتمان ما في الأرحام، ومن التأصيل في التفسير أن نفي الصفة أبلغ من إثبات ضدِّها كقولنا تلك الفتاة ليست بالقبيحة بصيغة النفي وهي أبلغ في وصفها بإثبات صفة الجمال.
وتضمنت الصيغة نفي شرعية أي وجه من أوجه كتمان ما خلق الله في الأرحام وهي أبلغ من صيغة التحريم كقولنا (حرام عليهن كتمان ما في الأرحام من الأجنة) وليس في كتمان الجنين وإخفائه عن الناس ما يؤذي الجنين ويضرُّه في صحته ونموه قبل ولادته وإنما هو إعفاء الوالد أي المولود له وعصبته من حقوق كثيرة تلزمهم للجنين وأمّه، ويعني كتانُ المرأة الجنين في رحِمِها تنازُلُـها عن تلك الحقوق لنفسها ولجنينها ظلما منها نفسها وجنينها ظلما لا يتأتَّى ممن يؤمن بالله وباليوم الآخر موطن الحساب والعقاب، ويعني صيانةَ جميع حقوق الجنين في بطن أمه في جميع مراحل تخليقه أي منذ أن أصبح نطفة أمشاجا من النطفة والبويضة فما بعدها.
إن الإجهاض أخطر وأفجر وأبشع من الوأد والاغتيال والقتل إذ هو إزهاق نفس بريئة لا تزال في رحم أمها، ولا يعني الإجهاضُ غيرَ قَلْبِ المعادلة والكلية العامة التي تنزلت مثاني في القرآن أن لا تكسبُ كل نفسٍ إلا عليها وأن لا تزر وازرة وزر أخرى ويسارع الجاني بالإجهاض إلى اغتيال الجنين بجريرة والديه وهو بريء منها فلتُعددوا معشر المجهضين مفتين وأطباء وأمهات وأهلين تِـجْفافا لحقوق الجنين الذي لا يحل كتمان خلقه في رحم أمه فما بالنا باغتياله وقتله.
وقد تلجأ المرأة المطلقة الناشز المبغض زوجَها إلى كتمان الجنين في بطنها وإخفائه لتفويت الفرصة على الزوج الحريِّ برَدِّها إلى حضن الزوجية كما في قوله تعالى ﴿ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتُهن أحق برَدِّهِنَّ في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهنّ مثلُ الذي عليهن بالمعروف﴾ البقرة، ويعني أن الجنين في بطن أمه سبب كاف لجمع شمل أمه وأبيه المطلقين.
وكثيرا ما تلجأ الزانية والمغتصَبَة والغافلةُ المغرر بها إلى كتمان ما خلق الله في رحمها وإلى المسارعة إلى قتله بالإجهاض فرارا من العار ومحاسبة الأهل والمجتمع رغم عموم قوله تعالى ﴿لا تُضارَّ والدة بولدها ولا مولود له بولده﴾ البقرة، ويعني أن الأهل والمجتمع والدولة مخطئون بمضارة الوالدة بولدها.
ولقد كان الولد غير الشرعي في عصر النبوة مانعا واقيا أمَّه من إقامة الحدِّ عليها وسببا في تأخيره عنها لتلِدَه ثم كان سببا ثانيا في تأخيره ليتم إرضاعه حولين كاملين عملا بعموم قوله تعالى ﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين﴾ البقرة.
وإنما كان الناس في الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق والعالة فوقع النهي في سورة الأنعام والإسراء عنه ووصف بالخِطْءِ الكبير ووقع بيان قصور تصورات قتلة أولادهم عن دراية أن الله هو الرزاق يرزق الوالدين ويرزق الأولاد، وإذ يُحرِّمون ما رزقهم الله من الولد نعمة منه وفضلا وكذلك دلالة قوله تعالى ﴿وكذلك زيَّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون﴾ الأنعام، ومن المثاني معه قوله تعالى ﴿قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرَّموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين﴾ الأنعام، ويخصصه المتفيقهون بالولد الشرعي بنكاح الأبوين نكاحا صحيحا بشروطه رغم صريح قوله تعالى ﴿ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن﴾ الممتحنة، وتنزل هذا التشريع قبيل فتح مكة في الثامنة من الهجرة ولا نسخ بعده ولا قبله، ويشمل العموم أول ما يشمل الزانية بقرينة تسميتها ونهيها عن قتل ولدها، ورغم قوله تعالى ﴿يوصيكم الله في أولادكم﴾ النساء، ولا يتأتى شرعا حرمان ابن السفاح من الميراث بل وصية الله الوالدين في أولادهم وإثبات حقوق الأولاد في الميراث أصح وأقسط وأقوم وكذلك دلالة المثاني في قوله تعالى ﴿ولكلٍّ جعلنا موالـيَ مما ترك الوالدان والأقربون﴾ النساء، أي لكل فرد من بني آدم جعل الله له حظا ونصيبا في أموال والديه وأقاربه، وهو عموم لم يخصصه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بابن الزواج الشرعي كما لم يخصصه بالأحرار دون ملك اليمين. 
وتنزل الإسلام بالتعامل مع ولد السفاح فأقرَّ له جميع حقوقه كاملة غير منقوصة ويشمله القسَم الإلـــهي المبارك في قوله تعالى ﴿لا أقسم بهذا البلد وأنتَ حِلٌّ بهذا البلد ووَالدٍ وما وَلَد﴾ البلد، ولا يسع فقهاء الأوراق إخراج ولد السفاح إذ قد ولَده أبوه الوالد ولو جهله من جهله، ومن المثاني معه قوله تعالى ﴿ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءَهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به﴾ الأحزاب، ويعني التكليف باستغراق البحث لاستيفاء أدوات البحث العلمي لمعرفة الأب فإن لم يُعرَفْ والدُ الابن غير الشرعي فهو من المجتمع أخٌ في الدين ومولًى من موالي المجتمع له وعليه ما للمجتمع، وتتفق أكثر متون الفقه على عضل نسبة ابن السفاح إلى أبيه صاحب النطفة لو أقرَّ أو عُرفَ بالقرائن العلمية المتوفرة في العصر الحديث وقد ثبتت نسبة الغلام الرضيع ابن الراعي سفاحا في الحديث المرفوع الصحيح، وأقرَّ النبيّ الأميّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالقيافة كما في الحديث المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت "دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تريْ إلى مجزز المدلجي نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال هذه القدام بعضها من بعض" اهـ، وهو كذلك في الترمذي والنسائي وأبو داوود وابن ماجه وأحمد، ولا يخفى أن القيافة أقل درجة من علم الوراثة والأمشاج المتاح.

إن الولد ليلحق بأبيه الكافر والمشرك وكذلك يلحق بأبيه الزاني والمغتصب وهو أقسط عند الله أي أن جناية الزنا والاغتصاب لا يُـؤاخَذ بها الولد البريء بل يلحق نسبه بأبيه صاحب النطفة فإذا رغب المجتمع عن هذا التشريع فإنما رغب عما هو أقسط عند الله وظلَم المولودَ وظلم أمَّه بما أعفى صاحب النطفة من النفقة والكسوة وغيرها كما في عموم قوله تعالى ﴿وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف﴾ البقرة، فإن جُهِلَ فليتحمّل المجتمع والدولة النفقة والكسوة والتربية والتعليم وكافة الحقوق الإنسانية والإسلامية أكثر من ذلك كما في التشريع المنزل في قوله تعالى ﴿فإن لم تعلموا آباءَهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به﴾ الأحزاب، وكذلك حقوق الجنين والولد ابن الزنا المحارم والاغتصاب بين المـحرمين إلا ما يلزم من التفريق بينهما أبدا فلا يجتمعان في قرية ما عاشا والله أعلم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top