الرسم العثماني والقياسي أيهما الأصل

بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.
 توطئة:
لقد كثر القيل والقال والاجتهاد والارتجال في شأن رسم المصاحف العثمانية.
فقائل إن رسمها توقيفي.
وقائل إنه اجتهاد من الصحابة خالفوا فيه قواعد الإملاء أو الإملاء القياسي.
رأيان معلومان للعامة والخاصة يُعتبر كل منهما قراءةً قرئ بها أعظم حادثة بعد عصر النبوة: ألا وهي جمع المصاحف العثمانية.
وقصرت القراءتان عن البحث الجاد في أسباب الاختلاف بين مرسوم الخط في المصاحف العثمانية وبين الإملاء القياسي في اللغة العربية.
ولقد عجبت أكثر من مرة من الجازمين عبر التاريخ أن رسم المصاحف العثمانية قد خالف الإملاء القياسي، بل عجبا من توقّف الباحثين منذ القرون الأولى وامتناعهم عن البحث في أسباب مخالفة القواعد الإملائية رسم المصاحف العثمانية.
 ولأني باحث من الطراز المبتدئ فلا مناص من التقيد بالمسلمات بعيدا عن الفلسفة والرجم بالغيب،
ولأعترف بتناقض تأصيل القائلين بأن رسم المصاحف العثمانية قد خالف قواعد الإملاء العربي.
ذلكم بأنه لدى تقييمنا وثيقتين اثنتين فإنما يتأتى القول بأن المتأخرة منهما هي التي خالفت المتقدمة في بعض الكليات أو الجزئيات.
أما الأولى فستظل وثيقة تاريخية يحتج بها على ما تأخر عنها ولا تصح محاكمتها به.
تلكم هي الصورة على طبيعتها بعيدا عن الفبركة والقلب ونحن نقارن بين المرسوم في المصاحف العثمانية وبين قواعد النحو والصرف والإملاء والعروض والنقط وحركات الإعراب والشكل....
ولتقديم قراءة منصفة للموضوع فقد قسمت الإملاء إلى ثلاث مراحل:
1.   الإملاء العربي في مرحلة الجاهلية
2.   الإملاء العربي في عهد النبوة
3.   رسم الصحابة المصاحف والمصاحف العثمانية

أولا: الإملاء العربي في الجاهلية  
لقد كان للعرب قبل الإسلام دواوين شعر منها المعلقات السبع، ومنها رسائلهم ومعاهداتهم وأشعارهم، ووقع في أيدي المتأخرين نماذج من الإملاء العربي:
ـ منها النصوص العربية السبعة المشتملة على الخط العربي قبل الإسلام المعروفة بالنقوش القديمة المكتشفة ووقعت تسميتها كالتالي:
1.   نقش أم الجمال الأولى وتقع أم الجمال جنوب مدينة بصرى الشام على بعد 25 كيلومتر ولعله في الربع الأخير من القرن الثالث الميلادي لأن جذيمة المذكور هو الأبرش أحد ملوك الحيرة التنوخيين الذي حارب زنوبيا
2.   نقش النمارة: والنمارة قصر صغير من العهد الروماني يقع في الطرف الجنوبي من وادي الشام الجاري بين جبل العرب إلى الشمال الشرقي نحو البادية، نقش أو نحت اكتشفته بعثة فرنسية أوائل القرن العشرين
3.   نقش معبد رم: ويقع معبد رم على بعد 40 كلم شرقي العقبة ولعله حسب المختصين في الفترة ما بين 328م ـ 350 م.
4.   نقش أم الجمال الثانية: ولعله حسب المؤرخين في القرن السادس الميلادي.
5.   نقش زبد: وتقع زبد في سوريا الشمالية بين قنسرين والفرات، وجد النقش على باب كنيسة ومعه كتابة سريانية وأخرى يونانية بتاريخ 823 بالتقويم السلوقي الموافق 512 م.
6.   نقش جبل أسيس: وهو حرة بركانية واسعة تقع شرق دمشق على بعد 105 كلم وقد أرخ النقش بالتقويم النبطي 423 ويوافقه 528 م.
7.   نقش حران اللجاة: في المنطقة الجنوبية من ديار الشام تقع إلى شمالي جبل العرب وجدت الكتابة بالعربية على نحت باب كنيسة
وقد نقلت الصور وبعض المعلومات التاريخية عنها من المواقع الإلكترونية التالية:
 http://www.landcivi.com/new_page_234.htm
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%86%D9%82%D8%B4_%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A9


وقمت بتوظيف الكتابة في النقش حسب حاجتي التي هي تتبع الإملاء العربي في مراحله التاريخية.

 وهذه صورة نقش أم الجمال الأول (1):

http://www.create-answer.com/mofrkt%20el%20kateb/rteprislm2.jpg

وهي لغة عربية ممزوجة بالنبطية المتأخرة .
ولعل النص كالتالي:
هذا نفسو فهرو
بن سليم مربّـي جذيمة
ملك تنوخ
ويلاحظ في هذه الوثيقة زيادة الواو في كلمتين هما:
1.   نفسو
2.   فهرو
ولا إشكال في زيادة الواو في فهرو كما تزاد في عمرو غير المنصوبة.


وهذه صورة نقش النمارة (2):

http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/9/97/Epitaph_Imru-l-Qays_Louvre_AO4083.jpg/770px-Epitaph_Imru-l-Qays_Louvre_AO4083.jpg

http://www.create-answer.com/mofrkt%20el%20kateb/rteprislm3.jpg
ويلاحظ إضافة المستكشفين المتأخرين سطرا تحت كل سطر من النقش لترجمته وقراءته.
ويلاحظ أن الألف في الرسم تشبه الرقم ستة أي أنها ألف مائلة إلى اليمين وفي أسفلها دائرة من يسار الألف المائلة إلى اليمين.
ويلاحظ في السطر الأول من النقش حذف ألف الوصل وصورة الهمزة في الجزء الأول من اسم العلم امرئ القيس.
ويلاحظ في السطر الأول من النقش حذف الألف في وسط الاسم "التاج".
ويلاحظ في السطر الأول حذف الألف بعد الهاء في كلها وقد تعارفوا قديما على حذف بعض حروف العلة. 
وفي السطر الثاني من النقش حذف الألف في اسم العلم "نزار".
وفي آخر السطر الثاني من النقش حذف صورة الهمزة بعد الألف في فعل "جاء".
وفي النصف الأول من السطر الثالث من النقش حذف الألف في الاسم "نجران".
ويلاحظ في النصف الأول من السطر الخامس والأخير من النقش بسط التاء في رسم الاسم "سنة " بفتح السين وتخفيف فتح النون وبفتح التاء وهي بمعنى كلمة "عام".
وهذه ترجمة الوثيقة بالعربية بلساننا العربي الحديث:
تـي نفسُ امْرئ القَيس بن عَمرو ملك العرب كُلّها الذي أسرَ التاجَ
ومَلَكَ الأَسْدِيِّين ونزارَ وملوكَـَهم، وهرَّبَ مذحجَ عكداً. وجاء
يزجي في حَبَجِ نجران مدينةِ شمر. ومَلَك مَعَدَّ ونزَّلَ بنِيهِ
الشعوبَ، ووكَّلهم فارس والروم. فلم يبلُغ ملِكٌ مبلغَه
عكداً. هلكَ سنة 223 يوم 7 بكسلول. فليسعد الذي ولدَه
اهـ

وهذه صورة نقش معبد رم:

http://www.create-answer.com/mofrkt%20el%20kateb/rteprislm4.jpg

ويلاحظ في هذا النقش زيادة الواو في آخر اسم العلم [عليو] وهو "عليّ خليصي"، وفي اسم العلم [حبيبو] وهو حبيب.
ولعل خليصا حصن بين المدينة ومكة وقع فيه اعتداء على شرف امرأة أو نحو ذلك.


وهذه صورة نقش أم الجمال الثانية:
http://www.create-answer.com/mofrkt%20el%20kateb/rteprislm5.jpg

 ويلاحظ في أول كلمة من النقش حذف الألف في كلمة "إلـــــــــــه" وحذف الياء في آخرها، ولا يخفى اتفاق الرسم العثماني والإملاء العربي القياسي المتأخر عنه على المتعارف عليه في العصر الجاهلي.
ويلاحظ اتفاق سائر كلماتها رسما مع الرسم القياسي المعلوم.


وهذه صورة نقش زبد:

http://www.create-answer.com/mofrkt%20el%20kateb/rteprislm6.jpg
وزبد تقع في سوريا الشمالية بين قنسرين والفرات والنقش نحت على باب كنيسة مع كتابة سريانية وأخرى يونانية مؤرخة بسنة 823 بالتقويم السلوقي ويعادل سنة 512م.
ويلاحظ في السطر الأول من النقش حذف الألف في الاسم "الإلـه".
وفي وسط السطر الأول زيادة الواو في آخر اسمين علمين.
وفي آخر السطر الأول حذف ألف الوصل وصورة الهمزة في كلمة "امرئ " القيس.
ويلاحظ في السطر الثاني من النقش زيادة الواو في آخر أربعة أعلام للدلالة على رفع الاسم أو الضمة على آخره


صورة نقش أسيس:
http://www.create-answer.com/mofrkt%20el%20kateb/rteprislm7.jpg


وإنها لوثيقة رائعة أنفس من أموال الدنيا للاتفاق على قراءتها دون الحاجة إلى تأويل أو رجم بالغيب.
وقد تضمن السطر الأول: إبراهيم بن المغيرة الأوسي
وتضمن السطر الثاني: أرسلني الحارث الملك علي
وتضمن السطر الثالث: سليمان مسلحه سنة
وتضمن السطر الرابع: مدلول الرقم 423 بالتقويم النبطي ويوافقه 528 م
وتظهر قيمة الوثيقة الملاحظات التالية:
ـ حذف الألف وسط اسم العلم "إبراهيم" في السطر الأول
ـ حذف الألف في اسم العلم "الحارث" في السطر الثاني
ـ حذف الألف في اسم العلم "سليمان"
ـ بسط التاء في الاسم سنة التي هي بمعنى العام

صورة نقش حران الجنوبية:

http://www.create-answer.com/mofrkt%20el%20kateb/rteprislm8.jpg
                                                                                            
وتضمن السطر الأول من النقش: أنا شرحبيل بن ظالم بنيت ذا المرطول
وتضمن السطر الثاني: سنة [ 463 بالتقويم النبطي] بعد مفسد
واقتصر السطر الثالث على كلمة: خيبر
واقتصر السطر الرابع على كلمة: بعام
ويلاحظ في السطر الأول: حذف ألف الوصل في "ابن" بين علمين.
وكذلك حذف الألف في اسم العلم "ظالم" وزيادته بواو مثل زيادة واو عمرو.
ويلاحظ حذف الواو في اسم الموضع "المرطول".
ويلاحظ في السطر الثاني: بسط التاء في كلمة "سنة " بالفتح والتخفيف
ويلاحظ في السطر الرابع: حذف الألف في الاسم "عام"المقترن بباء الجر.


ملحوظات عامة:
نستخلص من الوثائق المتقدمة قاسما مشتركا مع المصاحف العثمانية هو حذف بعض الأحرف وزيادتها، أي أن الصحابة كتبة المصاحف العثمانية قد وافقوا قواعد الإملاء المتعارف عليها بين العرب قبل نزول القرآن ومنها:
ـ حذف الألف في وسط الأسماء وخاصة أسماء الأعلام ومنه حذف ألف: إلــــــــــه ـ إبراهيم ـ سليمان
ـ زيادة الواو في آخر أسماء الأعلام بالخط النبطي المتأخر مشوب بشيء من رواسب اللغة الآرامية.
ـ بسط التاء في آخر بعض الأسماء مثل وقد وكذلك رسم بعض الكلمات مثل رحمة ونعمة ولعنة في المصاحف العثمانية.


ثانيا: الإملاء العربي في عهد النبوة

نماذج من رسائل النبي صلى الله عليه وسلم
http://www.nourallah.com/photos/herculese_letter.gif
رسالته إلى هرقل عظيم الروم

http://www.nourallah.com/photos/mokawkas_letter.gif
رسالته إلى المقوقس عظيم القبط

http://www.nourallah.com/photos/nagashi_letter.gif
رسالته إلى النجاشي


http://www.nourallah.com/photos/bahrin_letter.gif
رسالته إلى أمير البحرين

ولقد تضمنت رسالته صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس عظيم القبط حذف الألف في الإسلام في قوله "بدعاية الإسلام"
وتضمنت رسالته صلى الله عليه وسلم إلى ابني الجلندى حذف الألف من اسم الفاعل في "ويـحقّ القول على الكافرين"
وتضمنت رسالته صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم حذف الألف بعد واو الجماعة في الفعل "اشهدوا بأنا مسلمون" وقد رسمت بعض الكلمات كذلك في المصاحف العثمانية كما في " تبوأو، باءو، فاءو، جاءو.
ـ وكذلك في رسالته صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم "فإن توليت فعليك إثم الإريسيين" رسمت بياء واحدة، وقد حذف في المصاحف العثمانية أحد المثلين نحو اللامين في الليل، والنونين في ننجي، والياءين في النبيين.
ولقد اتفق الإملاء في عصر النبوة مع الإملاء العربي قبل الإسلام على:
1.   حذف الألف في أسماء الإشارة هذا ذلك وفي لفظ الجلالة الله واللهم وفي الرحمان
2.   حذف الحروف المدية بعد مماثلها خطا وسط الكلمة مثل: الغاوون، النبيين، داوود.
ووافقهما رسم المصاحف العثمانية.

ثالثا : رسم الصحابة المصاحف والمصاحف العثمانية
لقد انتدب عثمان بن عفان رضي الله عنه جماعة من الحفاظ وكتبة الوحي منهم:
1.   زيد بن ثابت الأنصاري
2.   أبيّ بن كعب الخزرجي الأنصاري
3.   عبد الله بن الزبير القرشي
4.   سعيد بن العاص القرشي
5.   عبد الرحمان بن الحارث بن هشام القرشي
وكلفهم بجمع القرآن من الصحف في مصحف عرف بالمصحف العثماني، نسخ منه: مصحف المدينة ومصحف مكة ومصحف دمشق ومصحف الكوفة ومصحف البصرة.

خاتمة:
بعد البحث والتتبع نستنتج قصور حجة القائلين بتوقيف مرسوم خط المصاحف العثمانية أي أن النبي الأمي صلى الله عليه وسلم قد علّم كتبة الوحي كيف يرسمون كل كلمة من كلمات القرآن خالفت الإملاء العربي القياسي.
ويظهر قصور هذا الرأي بالأدلة التالية:
ـ أن النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم قد تلقى القرآن قراءة يسمعها من جبريل كما هو مدلول قوله تعالى ﴿فإذا قرأناه فاتبع قرآنه﴾ القيامة، وإنما اختصت التوراة بأن أوتيَها موسى كتابا مكتوبا في الألواح كما هي دلالة قوله تعالى ﴿وكتبنا له في الألواح﴾ الأعراف، ثم نسخ اليهود بأقلامهم من الألواح أو بإملاء موسى كما هي دلالة قوله تعالى ﴿ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة﴾ الأعراف، ويلزم القائلين بتوقيف رسم المصاحف العثمانية تسوية المصحف العثماني الذي كتبه الصحابة الكرام بالألواح التي أوتيها موسى مكتوبة وهو ظاهر الفساد.
ـ أن المعاصرين حادثة جمع المصاحف العثمانية لم أنكروا شيئا من مرسومه ولا وصفوه بأنه خالف ما تعارفوا عليه من الإملاء العربي وكذلك تابعوهم وتابعو تابعيهم إلى أن نشأ تأصيل قواعد النحو والصرف والإملاء والعروض.
ولعل هذه ملحوظة بقوة ملحوظة اتفاق الأمة على أن صناديد مشركي قريش ـ رغم كراهتهم ما نزّل الله من القرآن ـ لم يتمكنوا من الطعن في فصاحته ونظمه بل ولا في فواتح السور المعلومة رغم جهلهم مدلولها لعلمهم أنهم خوطبوا بالإيمان بغيبها قبل أن يصبح شهادة، فرغبوا عن الإيمان بغيب لا يدرون ما هو، استكبارا منهم وابتعادا عن تمثل العبودية والإسلام لله رب العالمين.
ولا مناص من الاعتراف بصحة القول بأن رسم المصاحف العثمانية كان من اجتهاد الصحابة الكرام إلا في أحرف يسيرة سنأتي على ذكر نماذج منها.
إن القرآن منزل من عند الله أداء مقروءا وكتبه الصحابة بأقلامهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أولا بأول كما هي دلالة حديث إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ في أول النبوة ـ حين قرأ الصحيفة التي كتب فيها من أول سورة طـه وكما هي دلالة بعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بصحيفة فيها صدر سورة براءة إلى أمير الحج قبل الوداع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقرأ علي بن أبي طالب من الصحيفة صدر سورة براءة بدل أمير الحج، لأن عليا تلقى الأداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعني أن المعول عليه أولا هو الأداء ثم الكتابة لضمان الحفظ وعدم ترجمة بعض كلماته إلى غيرها مما يحسبه الناس من مرادفها كالصوف والعهن وكاللعنة والغضب وكما في الأسماء الحسنى مثل الرحيم والرحمان.
ولعل من الإنصاف الاعتراف بأن كتبة الوحي ومن بعدهم كتبة المصاحف العثمانية قد خالفوا ـ في مرسوم بعض كلمات القرآن ـ الأداء الذي سمعوه من النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، ولا يتأتى غير احتمالين اثنين:
1.   أن تلك المخالفة كانت بتعليمات صريحة تلقوها من النبي الأمي صلى الله عليه وسلم.
2.   أن تلك الزيادة معلومة متعارف عليها عند الكتبة القراء لا تلتبس عليهم كما يلتبس عليهم حذف الألف وسط أسماء الأعلام، وإنما وقع اللبس عند المتأخرين بقدر ابتعادهم عن النطق بالفصحى سليقة.
وأقول بترجيح الاحتمال الثاني إذ لا سبيل إلى معاقبة ولا معاتبة المتسائلين عن دلالة عدول الصحابة الكرام رضي الله عنهم كتبة المصاحف العثمانية عن كتابتها تبعا للأداء المنزل إذ لا يتأتى الاجتهاد منهم رضي الله عنهم في ما يؤدي إلى تحريف الأداء بالقرآن العظيم.
وقد لا يتفق الباحثون على تفصيل تلك الكلمات، ولكنهم لن ينكروها إجمالا.
وأجزم بأن منها: فواتح السور المعلومة المتعددة التي رسمها ـ رسما يخالف الأداء بها ـ كتبة الوحي في حياة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم وتبعا لهم كتبة المصاحف العثمانية وكلهم من الصحابة العدول الذين تلقّوا القرآن من النبي الأمي صلى الله عليه وسلم.
ويتراءى للأعشى العرج في القول بأن جميع رسم المصاحف العثمانية اجتهاد من الصحابة، وإذن لرسمت فواتح السور في بعض المصاحف العثمانية تبعا للأداء المنزل: ألف لام ميم، كاف ها يا عين صاد، وكما قرأها أبو جعفر بالسكت على كل حرف منها.
ومن الكلمات التي خالف رسمها الأداء بها كالواو المرسوم في الصلاة والزكاة وكزيادة الألف في وسط الكلمة نحو: لأاذبحنه، ولأاوضعوا، وجايء في سورة الفجر.
ولأن الصحف المتفرقة التي كتب فيها القرآن إبّان تنزله في عهد النبوة قد حرقت أو خرقت فور نشأة المصاحف العثمانية فحريّ بالباحثين الرجوع إلى رسائل النبي الأمي وكيف كان رسمها الإملائي.
تلك المقارنة هي التي تبيح للمتأخرين المقارنة بين رسم المصاحف العثمانية وبين الوثائق المكتوبة بإملاء منه صلى الله عليه وسلم.
ولا يقبل المنطق والعقل محاكمة رسم المصاحف العثمانية بقواعد إملائية اصطلح عليها اصطلاحا متأخرا عن حياة الصحابة رضي الله عنهم، وإنما نشأت قواعد الإملاء في اللغة العربية في الجيل الثالث بعد نزول القرآن أي في وقت متزامن مع تقعيد النحو والصرف والعروض والشكل والتنقيط ...
ومن المتفق عليه أن بعض الكلمات نزل بها القرآن ولم تكن مسموعة بين العرب ولا معلومة مثل: الصلاة والزكاة .... فكيف يصح القول بمخالفة رسمها قواعد الإملاء العربي المحدثة بعد جمع القرآن في المصحف.
فالقول بمخالفة رسم المصاحف العثمانية قواعد الإملاء العربي هو رأي لا يخلو من نظر ويحتاج إلى مزيد تمحيص وتثبت لأسبقية نزول الوحي وكتابته على تقعيد الإملاء وإن كانت إنما قعدت استقراء لمثيلاتها في لغة العرب ....
إن الحذف والزيادة في رسم المصاحف العثمانية كان معلوما مشهورا متداولا بين الكتاب من العرب وفي رسائلهم ومعاهداتهم وهكذا اتفقوا قبل نشأة المصاحف العثماني على حذف الألف في أسماء الإشارة هذا وذلك وحذف الألف في بسمك، اللهم، الله، إلـــــــــــه
وكذلك زيادة الألف في: [مائة] لئلا تختلط مع شبه الجملة أو الجار والمجرور: منه أو مع فئة.
ولا يخفى أن رسم المصاحف العثمانية قد سبق جهد أبي الأسود الدؤلي في الشكل بنحو عقدين، وسبق إعجام الحروف بنحو أربعة عقود، وسبق جهود الخليل بن أحمد في الشكل والهمزة والضبط بنحو قرن وربع.
أما قواعد الإملاء العربي فإنما دوّنت وأنشئت ابتداء من القرن الثاني الهجري فكيف يصح القول بأن المصاحف العثمانية المتقدمة قد خالفت قواعد أنشئت متأخرة عنها بنحو القرن.
وكان حريا بالباحثين إثبات مخالفة رسم المصاحف العثمانية الخط العربي القديم في العصور الجاهلية كما دونت رسائل العرب ومعلقاتهم السبع أو العشر، أو إثبات مخالفة رسم المصاحف العربية الإملاء المتبع في العهد النبوي كما رسمت رسائله صلى الله عليه وسلم ومعاهداته. 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Top