وإن عيسى وأمَّه
مريم من المنظرين كما في قوله ﴿قُلْ فَمَنْ يَـمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ
أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِـي الْأَرْضِ جَمِيعًا
وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَـخْلُقُ مَا يَشَاءُ
وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة
17] ويعني أن المسيح ابن مريم وأمَّه لم يكونا قد أُهْلِكا يوم نزل القرآن لِـخمسِ
قرائنَ:
أولاها: أن
ذلك من القول كما هي دلالة قوله ﴿قل﴾ وإيقاع القَوْل متأخِّرٌ عن حياة النبـيِّ
الأمّـيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم.
وثانيها: قوله
﴿فَمَنْ يَـمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِـي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ أي أن اللهَ لـمْ يُرِدْ ذلك
بعد وأنه إذا أراده مستقبلا فلن يستطيع منعَه أحد.
إن السياق لا
يستقيم لو كان المسيح عيسى وأمُّه قد ماتا قبل نزول القرآن كما لا يستقيم أن يقال
فمن يملك من الله شيئا أي يستطيع منعَه إن أراد أن يهلك عادا الأولى قوم هود
بالريح العقيم لأن إهلاكهم قد مضى وانقضى ولم يأت في القرآن القوْلِ الفصْل مثل
هذا النظم الهزْلِ، لأن الشرط بقوله ﴿إِنْ أَرَادَ﴾ يعني أنّ إرادة الله لم تقع
بعدُ يوم نزل القرآن وأن إهلاك المسيح عيسى وأمَّه لا يزال منتظرا وهو مقدمة إهلاك
مَن في الأرض جميعا ومنه ما على ظهرها يومئذ من الناس والدوابّ.
وثالثها: قوله
﴿وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ إذْ هِي أصلٌ مِن
أُصول التفسير وتَرِدُ في تفصيل الكتاب المنزّل فِـي سياق وَعْدٍ مُنتظَر يتأكّد
بها نفاذه ولِيَعلَمَ مَن يَشُكُّ في نفاذِ الوَعْدِ أَنَّ ﴿للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ﴾ أي لا أحدَ يَـملِكُ مِنهما مِثقال ذَرّةٍ يتأتَّـى له مَنْعُ نفَاذ
الوَعْد، ودلالة قوله ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ على التفصيل ظاهرةٌ.
ورابعها: قوله
﴿يَـخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ بصيغة المستقبل أي أن الله قبل إهلاك المسيحِ ابن مريم
وأمِّه سيخلق ما يشاء من الخلق ومنه الجيل الذي سيعاصر نزولهما.
وخامسها: قوله
﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ لدلالة الاسم ﴿الْقَدِيرُ﴾ مِن الأسماء الْـحُسنَـى على وَعْد حَسَنٍ أي
غيرِ مكذوبٍ هو من الغيب المنتظر وقوعُه بعد نزول القرآن وكذلك جميع الأسماء
الْـحُسنَـى وبيّنتُه مُفصّلا في قسم الأسماء الْـحُسنَـى مِن موسوعتي تأصيل
التفسير.
وإنّ قوله ﴿وَيُكَلِّمُ
النَّاسَ فِـي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ [آل عمران 46] لمن المثاني مع قوله ﴿تُكَلِّمُ
النَّاسَ فِـي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ [المائدة 110] وقد مضَتْ وانْقَضَتِ الأولَـى
وهي كلامه في المهْد ونحن في انتظار الثانية وهي أن يكلِّمَ المسيحُ وهو كهلٌ
الناسَ أي بعد أكثر من ألفي عام على ولادته.
وإنّ قوله ﴿وَمَا
قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾
[النساء 157 ـ 158] لمن المثاني مع قوله ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّـي مُتَوَفِّيكَ
وَرَافِعُكَ إِلَـيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الذِينَ اتَّبَعُوكَ
فَوْقَ الذِينَ كَفَرُوا إِلَـى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران 55] ويعني حرف
النساء الذي تضمن الاسمين ﴿العزيز الحكيم﴾ أنّ رفعَ عيسى وعْدٌ سبَق من الله وقد
تحقق الجزء الأول من الوعد في الدنيا وهو أن الله قد توفّاه ورفعه إليه وطهّره من
الذين كفروا بقرينة ﴿وَكَانَ اللهُ﴾، ولا يزال الجزء الثاني من الوعد في الدنيا منتظرا
وهو قوله ﴿وَجَاعِلُ الذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الذِينَ كَفَرُوا إِلَـى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ﴾ وقوله ﴿فَأَمَّا الذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا
فِـي الدُّنْيَا﴾ [آل عمران 56]وبينتُه في كلية النصر في ليلة القدر وسيتم بعزة
الله وحكمته أن يكون الذين يتبعون عيسى بعد نزوله فوق الذين كفروا وكما في الحديث
النبوي الصحيح "أنه سيقتل الدجال ويقاتل اليهود حتى يختبئوا وراء الحجر
والشجر" يوم تتحقق فيهم نبوة مـحـمد صلّى اللهُ عليه وسلّمَ في القرآن ﴿غُلَّتْ
أَيْدِيهِمْ﴾ [المائدة 64] فلا يستطيعون تحريكها ولا الدفاع بها فيُبادرون إلى
الاختفاء وراء الحجر والشجر، ويعني تطهيرُه من الذين كفروا أنه يوم ينزل إلى الأرض
لا يَـحِلُّ لكافر أن يَـجِد نفَسَه بتحريك الفاء بالفتح إلا مات وإنّ نفسَه
لينتهي حيث ينتهي طرفه كما في الحديث.
إن قوله ﴿إِنِّـي
مُتَوَفِّيكَ﴾ ليعني أنّ اللهَ قد ألقَى النومَ على عيسى قبل رفعه كما في قوله ﴿وَهُوَ
الذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ [الأنعام 60] ومن المثاني معه قوله ﴿اللهُ يَتَوَفَّـى الْأَنْفُسَ
حِينَ مَوْتِهَا وَالتِـي لَـمْ تَـمُتْ فِـي مَنَامِهَا﴾ [الزمر 42] والتَّوَفِّـي
في الأحرف الثلاثة قد أُسنِد إلى الله على نسق واحد لعدم اختصاص عيسى والرسل به بل
جميع الناس يعرفون النّوم، ولم يتضمَّن تفصيل الكتاب المنزّل إسناد التّوَفِّـي
إلى رَبِّنَا لدلالته حينها على أمْرٍ خارِقٍ معجز يختصّ بِه عيسَى دون غيره.
ولقد قُتِل وصُلِبَ
الْـمُخْبِرُ القوّاد الذي كان حريصا على قتْل عيسى إذ أُلْقِيَ عليه شبهُه كما في
قوله ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَـهُمْ﴾ [النساء 157] ومن المثاني معه قوله ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران 54] إذ كان من مكْرِ الله أن شَبَّهَ
لهم الأحمقَ فقُتِل وصُلِب ظنا منهم أنه عيسى الذي رفعه اللهُ إليه.
ومِن القرائن
على أنّ مريمَ ابنةَ عمران مِن الْـمُنظَرين قوله ﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءَايَةً
لِّلْعَالَـمِينَ﴾ [الأنبياء 91] ومن المثاني معه قوله ﴿إِذْ قَالَتِ
الْـمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى
نِسَاءِ الْعَالَـمِينَ﴾ [آل عمران 42] ويعني اصطفاءَها مرتيْنِ أولاهما حِين كانت
مع بني إٍسراءيل وأمَّا الثانية فمُنتظَرةٌ بقرينة اصطفائها على نِساء العالَـمِين
وهم أعمُّ مِنْ بني إسراءيل.
ومِن القرائن
على أنّ مريمَ ابنةَ عمران مِن الْـمُنظَرين قوله ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ
رَبِّهَا وَكُتِبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ [خاتمة التحريم] لدلالة
التصديق فـي تفصيل الكتاب المنزّل على الْـمُعاصَرة خاصّة ولعموم الاتّباع في
تفصيل الكتاب المنزّل إذ يقع الاتّباع مِن الْـمُعاصِر ومِن الْـمتأخِّر، ويعني
تصديق مريم كتُبَ رُبِّنَا أنّها ستعاصِر كتُبا مُنزّلةً وإنَّـما عاصرتْ مريم كتابيْن
هما التوراةُ والإنجيل وستعاصِرُ القرآن وصُحُفا مطهّرة فيها كُتُبٌ قيِّمَةٌ، ولا
تزال كذلك مُعاصَرةُ مريم كلمات ربِّها مُنتظرةً، وبيّنْتُ دلالة كل من كلمات الله
وكلمات ربِّنَا في مادّة "كلمة" في هذه الموسوعة قسم معاني المثاني.
وإنّ يَـحْيَى
بنِ زَكَرِيَّا لمن الْمنظرين لقوله ﴿وَسَلَامٌ
عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَـمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم
15] وهو من كلامِ الله وإخباره في القرآن عنه ويعني أنه يوم نزل القرآن فإن يحيى
قد وُلِدَ بصيغة الماضي المنقضي أما يوميْ موْتِه وبعْثِه فلا يزالان منتظران يوم
نزل القرآن كما هي صيغة الاستقبال ولو كان قد مات قبل نزول القرآن لكان السياق
وسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث.
إنّ إخبار
الله عن يحيى ليس مثل إخبار عيسى عن نفسه وهو في المهد إذ لا يزال يوما موتِه وبعثِه
منتظريْن وإنما تبيّن إنظار عيسى وتأخيره من غير حرف مريم ﴿وَالسَّلَاُم
عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم
33].
إنّ السّلام
على كل من يحيى وعيسى يوم يموتان ليعني أن يحيى لم يُقتَل كما زعم التراث وأن رأسَه
صار مهرا لبَغِيٍّ طلب خالها الملك أن يتزوجها إذ لا سَلام على مقتول إذ السّلام
هو انتفاء الضُّرِّ والكرْب والخوف والحزن.
إنّ الله عالم
الغيب والشهادة قد سمَّى يحيى في القرآن بـ ﴿يَـحْيَى﴾
خمس مرات أفيموت أو يُقْتَل قبل أن تطول به الحياة سبحان الله أن يخفَى عليه يوم
سمَّى ﴿يَـحْيَى﴾
ولم يجعل له من قبل سميّا أن يكون ممن يُقتَل وهو شاب فيقع فيه خلاف ما أخبر الله
عنه يوم قال عنه ﴿يَـحْيَى﴾ بل
يبقى ﴿يَـحْيَى﴾
حيّا مُصدِّقا بكلمة الله عيسى بعد نزوله إلى الأرض.
إنّ
قوله ﴿يَا
يَـحْيَـى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم
] ليعني أنه ـ وهو نبي ـ من المخاطبين بقوله تعالى ﴿الذِينَ
ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ
قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْـحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ
مُسْلِمِينَ﴾ [القصص 52 ـ
53] ومن المثاني معه قوله ﴿وَمِـمَّنْ هَدَيْنَا
وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا
وَبُكِيًّا﴾ [مريم 58] ويعني
أن الذين آتاهم ربهم الكتاب من قبل أن ينزل القرآن على محمد صلّى اللهُ
عليه وسلّمَ وهم من النبيين الذين اجتباهم ربهم وهداهم قبل محمد صلّى اللهُ عليه
وسلّمَ سيُتلَى عليهم القرآن وسيؤمنون به كما في حرف القصص وسيخرون سُجّدا وبُكِيا
كما في حرف مريم.
وتضمّن
تفصيلُ الكتاب المنزّل والقرآن العجبِ وصْفَ الرُّسُلِ والنبيين بـ ﴿الذِينَ
ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ بصيغة التسميَة ووصفَ صحابة النبـيِّ
بـ ﴿الذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ وبـ ﴿الذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ﴾ بصيغة التجهيل
وهو تأصيلٌ يطّرد ولا ينخرم وبينتُه تفصيلا في مادة ﴿ءاتَى﴾
من معاني المثاني.
إن
قوله ﴿الذِينَ
ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص
52] لمن المثاني مع قوله ﴿أَوَ لَـمْ يَكُن
لَّـهُمْ ءَايَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِـي إِسْرَاءِيلَ﴾ [الشعراء
197].
يتواصل
من موسوعتي
للتفسير وأصوله
قسم معاني
المثاني مادة "أَنظَر"
الحسن مـحمد
ماديك
باحث في تأصيل
القراءات والتفسير وفقه المرحلة