شَهِدَ: الثلاثيُّ غيرُ المزيد يستعملها
العامَّةُ للدلالة على حضور الذّات حَدَثًا من الحوادثِ وينخرِم بأنّ النائم
وفاقِدَ الوعْيِ بغيبوبة أو مُسْكِرٍ أو فاقدَ الإدراك والتمييز كالرّضيع لا يصِحّ
وصفُ أحدِهم بالشاهِدِ رغم حضور ذاتِه حادِثةً أو قولا.
وأُسْنِدَتِ
الشهادةُ في تفصيل الكتاب المنزّل إلى الله العليمِ الخبير وإلى الملائكة وإلى
الرسُل والنبيين وإلينا نحن عامّة المكلَّفِين ولكلٍّ منها دلالتُها الخاصّة بها.
وتعلَّقت
بالمكلفين من بنـي ءادم شهادتان:
أولاها:
حُضورُ مُكلَّفٍ غَيرِ غافِلٍ عمّا حوْلَه مُتَمَكِّنٍ بأدواتِ العِلمِ مِن وَصْف
الْـمَقالةِ أو الْـحادثَةِ وَصْفا مُطابقا.
وثانيها:
إعلانُ مكلَّفٍ عند الاقتضاء مَبْلَغِ عِلمِهِ الْمُبَاشِرِ في حادِثة أو شأْنٍ إبلاغا
لا يكتُمُهُ إلا آثِمُ الْقَلْبِ أو مُسْتَحِقُّ الإثْمِ أو ظالِـمٌ مستحِقٌّ
العقابَ بقَدْرِ ما ضَيَّعَ من الْـحَقِّ والحقوق في الدنيا أو بِقَدْرِ مَا
ضَيَّعَ مِنْ كرامَتِه في اليوم الآخِرِ، وتنزَّل الكتاب بالنهي عن كتمان الشهادة.
وما
على مُتـحرٍّ الصِّدْقَ من عِتابٍ لو خالفتْ شهادتُه الواقعَ كشهادة إخوة يوسف بِـمبْلغِ
عِلْمِهم أنّه سَرَقَ، كما لـمْ ينتفعِ الكاذبون الْـمُبطلون بشهادةِ حقٍّ لا
يعتقدونها بل ظلُّوا معدودين من الكاذبين كما في ﴿إِذَا جَاءَكَ الْـمُنَافِقُونَ
قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ﴾[بداية المنافقون]
وتعنـي
شهادةُ أحدِنا "أن لَا إِلَـهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُـحمّدًا رسولُ
الله" إقرارَه على نفسِه بِصِدْقِ هذه الحادثة إقرارَ مُنْقَادٍ للعِقاب لو أنّها
شهادة زُورٍ، إنصافا من المكلَّفِ الشاهِدِ مُـخالِفَه كما في هَدْيِ القرْآنِ ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِـي ضَلَالٍ
مُّبِينٍ﴾[سبأ 24].
وتضمّن
تفصيل الكتاب المنزّل أنّ اللهَ العليم الخبيرَ على كلِّ شيء شهيدٌ لا
يـخفَى عليه شيءٌ فِـي الأرضِ ولا في السماء، وأنّه شهيدٌ على أعمال الْمُكلَّفين ولِيَقُصَّها
بِعِلمٍ عليهم في يوم الدِّين كما في سورة الأعراف.
وتضمَّنَ
تفصيل الكتاب المنزّل أنّ اللهَ سيَشْهَد شهادات قبل انقضاء الدنيا مِنها:
ـ
شهادته عزّ وجلّ أن المنافقين كاذبون أي سيفضحهم حتى يتبيَّن للناس كَذِبهم في
دعوى الإيمان وفي دعوى الإصلاح في الأرض بتمكينِهم في الأرض تمكينا ظاهرا يتبيّن
الناسُ أجمعون أنهم هم المفسدون.
ـ شهادته عزّ وجلّ بأنّ المنافقين سيَخذُلون
اليهود فلا يخرُجون معه يومَ يُخْرَجُون ولا ينصُرُونَهم يوم يُقَاتَلُون كما في
سورة الحشر ويعني خُسْرانَ اليهودِ في استثمارِهم
في أوليائِهم المنافقين.
ـ
وشهادتُه عزّ وجلّ بإظهار الإسلام دِينَ الحقِّ على الدِّين كله رغم أنْفِ
المشركين أي هو تمكين خارق كالموصوف في سورة النور ﴿وَعَدَ
اللهُ الذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَـخْلِفَنَّهُمْ
فِـي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَـخْلَفَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَـهُمْ دِينَهُمُ الذِي ارْتَضَى لَـهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ
خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِـي لَا يُشْرِكُونَ بِـي شَيْئًا﴾[النور 55] أي
هو استخلاف وتمكين وَعْدٌ مِن الله كما استخلف الذين ءامَنوا وعملوا الصالحات ومكَّنَهم
قبل نزول القرآن، وظهر في القرآن نموذَجان من الاستخلاف والتمكين من الله قبل نزول
القرآن لم يقع بعدُ في هذه الأمة مِثْلُه حتى يومِنا هذا.
أما
أحدهما: فهو إهلاك المكذّبين من قوم نوح والأحزاب من بعدهم وتمكين الذين ءامنوا مع
كل نوح وهود وصالح وشعيب وموسى في الأرض مِن بعدِهم يعبدون الله ءامِنين
مطمئنِّينَ لا يخافون.
وأما
الآخر: فتمكين خارقٌ معجز كالذي أوتيه داوودُ وسُليمانُ وذو القرنيْنِ ولا خوفَ
على الذين معهم.
ـ
وشهادته عزّ وجلّ أنّ محمدا مرسَل مِن ربِّهِ كما في المثاني:
=﴿لَكِنِ
اللهُ يَشْهَدُ بِـمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ
يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾[النساء 166]
=﴿سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِـي الْآفَاقِ وَفِـي أَنْفُسِهِمْ حَتَّـى يَتَبَينَّ لَـهُمْ أَنَّهُ
الْـحَقُّ أَوَلَـمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت
53]
﴿قُلْ
أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِـي
وَبَيْنَكُمْ﴾[الأنعام 19]
=﴿قُلْ
كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِـي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا
بَصِيرًا﴾[الإسراء 96]
=﴿قُلْ
كَفَى بِاللهِ بَيْنِـي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِـي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ﴾[العنكبوت 52]
=﴿أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَـمْلِكُونَ لِـي مِنَ
اللهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِـمَا تُفِيضُونَ
فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِـي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[الأحقاف
8]
=﴿وَأَرْسَلْنَاكَ
لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾[النساء 79]
=﴿إِنْ
أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[سبأ 47]
=﴿هُوَ
الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْـهُدَى وَدِينِ الْـحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾[الفتح 28]
=﴿قُلْ
كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِـي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ
الْكِتَابِ﴾[آخر الرعد]
ويعني
أن سيتبيّنُ الناس أجمعون بالآيات الخارقة للتخويف والقضاء وبالبيّنات وبحوادثَ
ينقلبُ بها غيْبُ القرآن شهادةً أنّ مـحـمدا مُرْسَل من ربِّه.
ـ
وشهادته عز وجل الكبرى كما في المثاني:
=﴿شَهِدَ
اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَــهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ
قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَــهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ﴾[آل عمران
18]
=﴿وَإِذْ
أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَـمَا ءَاتَيْتُكُم مِّنْ كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ
بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي
قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾[آل
عمران 81]
ودلالة
صيغة الشاهدين واضحة إذ قد شهِد الله قائما بالقسط أنّه لا إِلَـهَ إلا هو، وشهِد
معه الملائكة، وشهِد معهم أولوا العلم وهم الرسل والنبيون لا غيرُهم أما الصحابة
فهم الذين أوتُوا العلم كما في الأنعام والنحل والروم وسبأ وأما التَّابعون
للصحابة الكرام ومنه نحن المعاصرون فإنا موصوفون في القرآن بالذين أورثوا العلم
كما في الشورى.
وتعلّقتْ
بالرُّسُل والنبيين ثلاث شهادات:
أولاهما:
شهادتهم أنّه لا إله إلا الله ربّ العالمين، وكان كل رسول أو نبي شاهدا، وكان إبراهيم
من الشاهدين أن ربَّهم هو رب السماوات والأرض الذي فطرهنّ كما في حرف الأنبياء.
ثانيها:
اطِّلاعُهم بالعَرْض منامًا ويقظَةً وبالوحي إليهم على حالِ الأمَّةِ فُرادَى ومجتَمعا
اطّلاعا ينتفِـي به الجهلُ والغفلة وهو مدلول المثاني:
﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا
دُمْتُ فِيهِمْ﴾[المائدة 117]
﴿وَفِـي
هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ﴾[الحج 78]
﴿وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة 143]
وثالثها:
أنهم شهداء يشهدون يوم القيامة على إعراض المكذّبين المجرمين عن بلاغهم رسالة الله
إلـيهم كما في المثاني:
﴿وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾[النساء
159]
﴿وَيَوْمَ
نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا
ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾[النحل 84]
﴿وَيَوْمَ
نَبْعَثُ فِـي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا
عَلَيْهِم مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾[النحل 89]
﴿وَنَزَعْنَا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا
فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾[القصص 75]
﴿فَكَيْفَ
إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾[النساء 41]
﴿وَجِئْنَا
بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾
النساء 41]
﴿وَجِئْنَا
بِكَ شَهِيدًا
عَلَى هَؤُلَاءِ﴾[النحل 89]
وكان
مِن تفصيل الكتاب المنزَّل وصفُ الرُّسُلِ بالآيات خاصّةً مثْلُ هودٍ وصالح وشعيب
ومثْل موسى وهارون قبل إغراق فرعون دون الأنبياء بالشهداء وكذلك دلالة المغايرة
بين النبيين والشهداء في المثاني:
﴿فَأُولَئِكَ
مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِـحِينَ﴾[النساء 69]
﴿وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾[الزمر 69]
وتعلّقت
بالملائكة شهادتان:
أولاهما:
اطِّلاع ملائكة حفَظةٍ كرام كاتبين ـ يتعاقبون بالليل والنهار ـ على أعمال
المكلَّفين اطلاعا تتأَتَّـى به في يوم الدِّينِ شهادتهم على الشَّقِيِّ غَيرِ
المغفور له مُنْكِرِ مَا يُعرَض عليه مِن أعمالِه في يوم الدِّينِ كما في المثاني:
﴿وَإِنَّ
عَلَيْكُمْ لَـحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾[التطفيف
10 ـ 12]
﴿وَجَاءَتْ
كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾[ق 21]
﴿وَيَوْمَ
يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾[غافر 51]
﴿وَيَقُولُ
الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾[هود 18]
وثانيهما:
شهادتان خطيرتان مُنتظَرتان قبل انقضاء الدنيا سيشهد بكل منهما الملائكة فيعلم
الناس يومئذٍ أجمعون أنّ القرآن منزَّلٌ مِن عندِ الله على قلب النبي الأمِّـيِّ
محمد صلى الله عليه وعلى ءاله وسلّم كما في المثاني:
﴿أَنْزَلَهُ
بِعِلْـمِهِ وَالْـمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾[النساء 166]
﴿شَهِدَ
اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ
قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾[آل عمران 18]
وغفل
الناس عن شهادة الله وشهادة الملائكة كما في حرف النساء أنّ اللهَ أنزلَ القرآن
بِعِلمِهِ.
أما
أولى الشهادتين مِن الملائكة فمنها المثاني:
﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾[العلق 18]
﴿إِنَّ الْـمُجْرِمِينَ فِـي عَذَابِ
جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا
ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُم
بِالْـحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْـحَقِّ كَارِهُونَ﴾[الزخرف 74 ـ 75]
﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا
جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ
إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَيَزْدَادَ الذِينَ ءَامَنُوا إِيـمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الذِينَ فِـي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ
مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾[المدثر
30 ـ 31]
﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَـمَنْ
شَاءَ ذَكَرَهُ فِـي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي
سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾[عبس 11 ـ 16]
ويعني حرف العلق وعْدًا من الله أن
سيدعو الزّبانية في سياق الرَّدِّ على الذي ينهى عبدا إذا صلَّى وإنَّـما هو في
الدنيا بالقرائن التالية:
أولاها: أنَّ الزبانية هم خزنة جهنم
شرُفوا باصطفاء الله بقوله ﴿سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ وسيجيب في اليوم الآخر
أميرُهم الملَكُ مَالِكٌ استغاثةَ المجرمين به ﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾
بأجوبةٍ ثلاثة صادقة لا احتمال للكذب ولا المجاز فيها هي:
أحدهما: قوله ﴿إِنَّكُم مَّاكِثُونَ﴾
أي لن يُفَتَّرَ عنهم العذاب وسيظلُّون فيه خالدين.
وثانيها: قوله ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُم
بِالْـحَقِّ﴾ وهو الغيبُ الذي لم يُصْبِحْ بَعْدُ شهادة أي هو نفاذ الوعد ﴿سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ﴾ سيدعوهم ربُّهم في الدنيا فيجيئون بالحقِّ أي ﴿فِـي صُحُفٍ
مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ﴾ تلك الصحف عددها تسعة عشر كعدد ألواح
موسى سيتبيّنها أحبار اليهود والنصارى وهم الذين أوتوا الكتاب فيستيقنون أنّه
الحقُّ مِن رّبهم وسيزداد به الذين ءامَنوا إيـمانًا ولا يرْتابَ الذين أوتوا
الكتاب والمؤمنون وقد علِموا وصْف الملائكة الرُّسُل السّفرة الكرام البررة بأول
سورة فاطر ﴿الْـحَمْدُ لِلَّـهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ
الْـمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِـي أَجْنِحَةٍ مَثْنَـى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾،
وعلموا النّبَأَ العظيم بهم من قوله تعالى ﴿اللهُ يَصْطَفِـي مِنَ الْـمَلَائِكَةِ
رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾، تلك التذْكِرَة من الله هي من شهادة الملائكة أنّ
القرآن منزَّل من عند اللهِ الذي وعَد في القرآن أن يُـحْدِثَ للبشريّة ذِكْرا كما
في قوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ
مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُـحْدِثُ لَـهُمْ ذِكْرًا﴾[طــه
113] ومِن المثاني معه قوله ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِـي
غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّـحْدَثٍ
إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهمْ﴾[بداية سورة
الأنبياء] وقوله ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَانِ مُـحْدَثٍ
إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾[الشعراء 5] أي سيستمع الناس إلى ذِكْر مُـحدَثٍ
من ربهم الرحمان فيعرضون عنه مشغولين باللعب ولَـهْوِ القلوب.
وثالثها: قوله ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ
لِلْـحَقِّ كَارِهُونَ﴾ يعني في وصفِ حالِ المجرمين من المنافقين أولي المرض في
قلوبهم والكافرين كما في تفصيل حرف المدثر ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا
فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
وَأمّا
ثاني الشهادتَيْنِ مِن الملائكة والرُّوحِ فهي تنزُّلُهم في ليلة القَدْرِ
لِيُقْضَى بين الطائفتَيْنِ بتدمير المكذّبين ونجاة المؤمنين كما في المثاني:
﴿وَلَوْ
أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾[الأنعام 8]
﴿مَا
نُنَزِّلُ الْـمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْـحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنْظَرِينَ﴾[الحجر
8]
وستكلِّمُ
الملائكةُ في ذلك التنزل في ليلة القدر المؤمنين مباشرة رأيَ العيْنِ كما في قولهِ
تعالى ﴿إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ
ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْـمَلَائِكَةُ أَلَّا تَـخَافُوا
وَلَا تَـحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْـجَنَّةِ التِـي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَـحْنُ
أَوْلِيَاؤُكُمْ فِـي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِـي الْآخِرَةِ﴾[فصلت 30 ـ 31]
وستكلِّمُ
الملائكةُ في ذلك التنزُّل في ليلة القدر المجرمين مباشرة رأيَ العيْنِ كما في
قولهِ تعالى ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْـمَلَائِكَةَ لَا
بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْـمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّـحْجُورًا
وَقَدِمْنَا إِلَـى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَـجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنْثُورًا﴾[الفرقان
22 ـ 23]، ولا يتأتّـى تأويله باليوم الآخر لقوله بعده ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّمَاءُ بِالغمامِ وَنُزِّلَ الْـمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾[الفرقان 25]، وفصلته
في تفسير سورة القدر وغيرها من الموسوعة.
وكتبه في 25 رمضان 1441 هـ
الحسن
ولد ماديك
باحث
في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة
رئييس
مركز إحياء للبحوث والدراسات